لم تكن دماء السوريين، التي سفكتها الغارة الأمريكية البربرية على منطقة البوكمال، قد جفّت تماماً حين أضاف القاضي محي الدين الحلاق، رئيس محكمة الجنايات الأولى في دمشق، الإهانة على الجراح، فأصدر حكمه بحقّ مناضلي “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” الإثني عشر: فداء الحوراني رئيسة المجلس الوطني للإعلان، رياض سيف رئيس مكتب الأمانة العامة، أكرم البني وأحمد طعمة أمينا سرّ المجلس الوطني، علي العبد الله وجبر الشوفي وياسر العيتي ووليد البني أعضاء الأمانة العامة، محمد حجي درويش وفايز سارة وطلال أبو دان ومروان العش أعضاء المجلس الوطني.
صحيح أنّ موعد النطق بالحكم كان مقرّراً منذ أسابيع، إلا أنّ مفارقة اقتران جلسة القصر العدلي في دمشق مع جريمة اليانكي في قرية “السكرية”، كانت تذكّر بواحدة من أبرز سمات ابتلاء الشعب السوري بهذا النظام المستبدّ الوراثي الفاسد: أنه أسد على شعبه، وفي الحروب نعامة… في أربع رياح الوطن، من قلب دمشق (اغتيال محمد عماد مغنية)، إلى ضفاف نهر الفرات (قصف الموقع العسكري في “الكبر”)، مروراً بالساحل السوري (تحليق القاذفات الإسرائيلية فوق الإستراحة الرئاسية في اللاذقية، واغتيال العميد محمد سليمان)، وما خفي من الحوادث ليس أقلّ انتهاكاً وإهانة.
وعلى نحو ما، جدير بالمقارنة في مستوى رمزي على الأقلّ، بدا القاضي الحلاق وكأنه يقتفي مقاربة نظيرة تماماً لتلك التي اعتمدتها الحوّامات الأمريكية الغازية: تلك أغارت بوحي من أدلّة صنعتها أو اصطنعتها استخبارات قوّات الإحتلال الأمريكية، فانتهكت وهبطت وقتلت عشوائياً، دون اكتراث حتى بإيضاح حصيلة الجريمة؛ والقاضي العبقري أصدر حكماً ـ واحداً، وحيداً، أحادياً! ـ على الجميع، دون اكتراث باختلاف الإفادات وتباين المسؤوليات وطبيعة الدور الذي لعبه كلّ منهم في ارتكاب جنايتَيْ “إضعاف الشعور القومي”، و”وهن نفسية الأمة”، لأنه في الأصل اتكأ على أدلة صنعتها واصطنعتها أقبية إدارة المخابرات العامة، بإشراف مباشر من اللواء علي مملوك… الذي كان رأس الجهاز الأمني وقاضي القضاة في آن معاً!
ولأنّ شرّ البلية ما يضحك، فقد حدث بالفعل أنّ بعض الناشطين الديمقراطيين السوريين تبادلوا التهنئة، فيما بينهم، لأنّ الحكم المتماثل هذا ( السجن سنتين ونصف السنة للجميع، والحجر، والتجريد المدني) كان أدنى ممّا انتظروا، بالقياس إلى أحكام أخرى صدرت، في عهد بشار الأسد، بحقّ كمال اللبواني (12 سنة)، وأنور البني (5 سنوات)، وميشيل كيلو ومحمود عيسى (3 سنوات)، وقبلهم الدكتور عارف دليلة (15 سنة). كانت الأجواء توحي بأنّ النظام لن يسكت على “الجناية” الحقيقية التي ارتكبها اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق، مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2007، أي القطع مع الفلسفة التي كانت تقول باحتمالات قيام النظام ذاته بخطوات إصلاحية، والربط الجدلي بين الإستبداد والديمقراطية والمسألة الوطنية، وتبنّي صياغات أرقى حول مطلب التغيير الوطني الديمقراطي بوسائل سلمية.
كذلك مارست أجهزة النظام الأمنية ضغوطات هائلة على معتقلي “إعلان دمشق” للتنازل عن هذا المنجز الثمين، السياسي والفكري، بعد أن رسخ في يقينها أنها أجهزت لتوّها على المنجز التنظيمي المتمثّل في انعقاد المجلس وانتخاب هيئاته القيادية. وليس خافياً أنّ الوسطاء، وبينهم أعضاء في بعض منظمات حقوق الإنسان العاملة داخل سورية وغير المغضوب عليها كليّة، حاولوا إبرام “صفقة” من نوع ما في هذا الصدد، تكمل في صفّ قيادات الإعلان خارج السجون، ما كانت ضغوطات الأجهزة تسعى إلى انتزاعه من القيادات السجينة. وبهذا المعنى، كان من المشروع أن يرتاب الكثيرون في أنّ البيان الذي صدر عن أمانة الإعلان في 9/9/2008، تحت عنوان “بيان إلى الرأي العامّ حول المتغيرات في سورية والمنطقة”، كان بمثابة “حصّة” قيادات الإعلان من تلك الصفقة المحتملة؛ وأن طرائق معاملة معتقلَي الإعلان في الجلسة ما قبل الأخيرة، ثمّ الأحكام في جلسة النطق، قد تكون هي حصّة السلطة من الصفقة.
الكلمة الفصل في ما إذا كان قد تمّ تعاقد من أيّ نوع، رابح أو خاسر على الطرفين، أمر في عهدة التاريخ، فضلاً عن أهل التضحية أنفسهم، فداء الحوراني ورياض سيف وأكرم البني وأحمد طعمة وعلي العبد الله وجبر الشوفي وياسر العيتي ووليد البني ومحمد حجي درويش وفايز سارة وطلال أبو دان ومروان العش، الذين صمدوا طويلاً، وصبروا وصابروا. لكنّ الوقائع لا تقول هذا تماماً، أو بالأحرى لا تفيد بأنّ السلطة أوفت بحصّتها، إذْ ليس ثمة مؤشرات على أنّ عفواً رئاسياً عن هؤلاء يمكن أن يصدر في أيّ وقت قريب، هذا إذا لم يفترض المرء أنهم سوف يلقون مصير ميشيل كيلو في رفض الإعفاء من ربع مدّة الحكم.
ولعلّ من الإنصاف القول إنّ صدور بيان 9/9 هو، حتى إشعار آخر، أفضل ما أنجزته السلطة منذ انطلاق أولى حملات الإعتقال ضدّ نشطاء “إعلان دمشق”، في أعقاب انعقاد المجلس الوطني للإعلان، رغم المفارقة الكامنة في افتراض كهذا. فالبيان يتبنى مقولة “عزلة النظام ومحاصرته”، وكأنها حقيقة واقعة بالفعل؛ قبل أن يؤكد أنه “لم يكن في نهجه وليس من أهدافه تعزيز” تلك العزلة وذاك الحصار، وكأنّ أحداً كان يفترض قدرة الإعلان على أيّ “تعزيز” من ذاك القبيل؛ وقبل أن يضع اشتراطات على انفتاح النظام الداخلي، في موازاة قبول انفتاحه الخارجي، هي أشبه بمقترحات انتحار ذاتي للنظام، فضلاً عن كونها لائحة مطالب بعدها لا تقوم للنظام قائمة، ولا يكون هو ذاته أبداً: نظام الإستبداد والتوريث والفساد.
فالبيان يعتبر أنّ “رائز” الإنفتاح هنا هو “إلغاء حالة الطوارىء وتقدم مسألة الحريات وسيادة القانون وإلغاء القانون 49 لعام 1980 وحلّ مشكلة الأكراد المجردين من الجنسية ومعالجة الأزمة المعيشية الخانقة”، فضلاً عن “الإنتقال بسورية نحو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان”… فما الذي يتبقى للسلطة من رائز، بعد كلّ هذه الروائز الكفيلة بتدمير بنية النظام ذاتها، بأسرها؟ وكيف حدث، والحال هذه، أنّ بيان المجلس الختامي قال في مطلع كانون الأوّل 2007، حول “استمرار النظام بنهجه العاجز عن الإصلاح والرافض له”، غير ما يقوله بيان 9/9/2008 الذي يردّ إلى النظام عهدة إصلاح البلاد؟
كذلك يبدو البيان وكأنه يتطوّع لتغطية النظام سياسياً، في مفاوضاته غير المباشرة مع الدولة العبرية، بل يتنطّح لانتقاد الذين يطالبون باستعادة الجولان المحتلّ بالقوّة (مَن هؤلاء، في نهاية المطاف؟ هل يتوفّر اليوم عاقل واحد، أو حتى مجنون، يحثّ النظام على هكذا خيار؟)، قبل أن يعلن “تحفظات” أو “شروط” إعلان دمشق على المفاوضات: “الحفاظ على حقوق الشعب السوري كاملة في الأرض والمياه والأمن المتبادل، وأن تُدار [المفاوضات] على مستوى معقول من الشفافية، وأن تُقرّ نتائجها النهائية من قبل الشعب السوري حسب المعايير المعروفة دولياً”. ليس هذا فحسب، بل أيضاً: “يجب ألاّ تعطي للطرف الإسرائيلي، كما سوف يحاول فعله، أية مكاسب على حساب الطرف الفلسطيني الذي يسعى إلى تحقيق دولته المستقلة كما أقرتها القرارات الدولية ذات الشأن”. أليست بسيطة، واقعية، متواضعة، هذه التحفظات وتلك الشروط؟
وإذا صحّ أنّ هذا النصّ يمثّل تراجعاً صريحاً عن البيان الختامي للمجلس، في زمن قياسي يقلّ عن عشرة أشهر، فإنّ إنجاز السلطة هو هاهنا بالضبط: أنّ الخطّ السياسي الذي كان، ضمن تيّارات الإعلان، يقول بمهادنة النظام، لأنه يؤمن بقدرة النظام على الإصلاح، انهزم في اجتماع المجلس مطلع كانون الأوّل 2007؛ ولكنه، في مطلع أيلول 2008، استعاد زمام المبادرة، بدليل هذا البيان على أقلّ تقدير، وهو ليس بعيداً عن تولّي زمام القيادة، بذرائع شتى تتكيء على “متغيّرات” و”اختلال موازين قوى” و”حسابات جديدة”، هنا أو هناك. وهكذا فإنّ زيارة واحدة قام بها بشار الأسد إلى فرنسا (ضمن مؤتمر عالمي، وليس منفرداً)؛ وأخرى قام بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى دمشق (وكانت عينه على دولة قطر من جهة، والمفاوضات السورية ـ الإسرائيلية من جهة أخرى)، كفيلة بقلب الموازين داخل الخطّ السياسي المركزي لإعلان دمشق: من القطيعة النهائية مع إصلاحات النظام التي تأتي ولا تأتي، إلى ترجيحها مجدداً… أتت أم لم تأتِ!
ويلفت الإنتباه أنّ بيان 9/9 شاء أن يسبح في محيط خاصّ به وحده، ناطقاً باسم الإعلان في المطلق الميتافيزيقي، في حين أنّ أبرز الأحزاب السياسية المعارضة، الصانعة لمقدار كبير من بنية الإعلان التنظيمية، كانت تواصل خطّها المألوف المناهض للنظام، سواء في مسألة القطيعة إياها، أو في الموقف من المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية. والأمر هنا لا يقتصر على “حزب الشعب الديمقراطي”، حيث تبدو موافقة قائده التاريخي رياض الترك على نصّ بيان 9/9 أشبه بالمخالفة الصريحة لخطّ الحزب، بل ينسحب الأمر على جميع أحزاب “التجمع الوطني الديمقراطي”، بما في ذلك حزب “الإتحاد الإشتراكي العربي”، الذي سبق له أن جمّد عضويته في الإعلان لأسباب ما تزال ملتبسة.
أمّا في محيط الإعلان ـ داخلياً، ولكن أيضاً على صعيد بعض الكتّاب والمفكرين السوريين المحسوبين، على هذا النحو او ذاك، في صفّ المعارضة ـ فقد كان التفلسف قائماً على قدم وساق، حول انهيار موازين القوى لصالح النظام (وكأنها، من قبل، كانت مشيّدة لصالح المعارضة!)؛ وضرورة إلتقاط الأنفاس والتروّي وتربية الذات أوّلاً (وكأنّ الفضاء، زماناً ومكاناً، كان في قبضة المعارضة، وتستطيع التراخي اليوم والتشدّد غداً، وأخذ ما تشاء من أوقات استراحة مستقطعة!)؛ أو حتى الإنفتاح على النظام، ودعوته إلى الحوار (هذه هي الأطرف، بالفعل، وكأنّ النظام كان ينتظر، على أحرّ من الجمر، أن تدعوه المعارضة إلى الحوار!)؛ بل ذهب البعض إلى حدّ مطالبة المعارضة أن لا تكون… عدوانية!
هذه المواقف، سواء شاء صانعوها أم أبوا، تنقل المياه بدورها إلى الطاحونة التي أراد النظام حصر إعلان دمشق في ‘سارها: في البدء تعالت جعجعة زائفة، بلا طحن دائماً، حول هوية الليبرالي واليساري واليميني في صفوف إعلان دمشق، شارك في إدامة صخبها يسراويون وسفسطائيون وتجّار حقوق إنسان؛ ثمّ جاء الدور، بعدها، على جعجعة أخرى بلا طحن وبكثير من الخبث هذه المرّة، تدور حول مراهنة الإعلان على الخارج؛ لا لشيء إلا لكي يتولى هذا الخارج ذاته (ساركوزي، قبل خافيير سولانا المنسّق الأعلى للسياسة الخارجية للإتحاد الأوروبي) قلب المعادلة رأساً على عقب، فيصبح الخارج ـ الذي انفتح على النظام، بين عشية وضحاها! ـ هو حافز المعارضة كي تحني الرؤوس أمام العواصف، وتسعى إلى الإنفتاح على النظام!
وبدل أن توضع أحكام القاضي العبقري محي الدين الحلاق في السياق الوحيد الذي يصف طبيعتها (أنها قضاء كاريكاتوري في الشكل كما في المحتوى، يكمل في قاعة المحكمة ما بدأه الجلاد في زنزانة التعذيب، ويصدر عن سلطة استبداد تملي على القضاة أوامرها ونواهيها، ولا تستند إلى أحكام القوانين إلا من قبيل تمريغ تلك القوانين ذاتها في وحول المهزلةة المفضوحة…)، ثمة مَن يفلسف ويتفلسف وينظّر.
قيادات إعلان دمشق رهن الإعتقال، في أيّ حال، والطامة الكبرى أن تذهب تضحياتهم أدراج رياح ليس من شرف، ولا طائل، في الإنحناء أمامها!
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري- باريس