نعيش في زمن باتت المصالح فيه مقنعة في ألف وجه ووجه، وهذه العبارة ليست من باب إعطاء الموعظة، بل هي من باب الواقعة التي تدق أبواب شعوبنا، تنتهك مصالحها وأعراضها قبل قيمها. والانتهاك في الواقع فعل لا يصف الحالة ولكنه يقاربها بطريقة ما.
بات من الواضح أن الخطوة الفرنسية والمفاوضات التي فتحتها إسرائيل مع النظام في دمشق عبر تركيا، قد خلقت إرباكا ما في صفوف المعارضة السورية. ثم جاء التفجير- اللغز في دمشق، والذي من الواضح أيضا أن أمرين مهمين لا زالا لم يبت بهما: أولا لم تعلن جهة ما مسؤوليتها عن الحدث الكارثة، والذي لم يجد أحدا يطالب بحق الضحايا. والثاني لم تقدم الأجهزة الأمنية والقضائية في دمشق ولو بيانا صغيرا يوضح لبسا ما حول هذا التفجير وأهدافه.
الأوروبيون أحرار في البحث عن مصالحهم، وهذه في الحقيقة ليست ممارسة جديدة أو مستهجنة، عندما ينظر إليها من زاوية غير زاوية معاناة شعب منذ أربعة عقود من العسف والاستبداد. هذا الإرباك جعل بعضنا يتوهم بأن هنالك صفقة ما في الأفق. على فرض أن هذا الأمر جار العمل فيه وعليه، هل معنى ذلك أن مواقف المعارضة سابقا كانت خاطئة؟ وهل رهانها على المجتمع الدولي كان خاطئا؟ في طرح السؤال نوع من الإجابة، ولكنها ليست دوغمائية وإصرار على موقف خاطئ، بل لأن الرهان لم يكن أساسا مبنيا على نقطتين: الأولى لم يكن رهانا على تدخل عسكري من أي جهة كانت، كما أنه رهان لا يأتي لوحده بل يجب العمل عليه. فالعلاقة مع المجتمع الدولي علاقة معقدة ومصالحه متعددة بكثرة، فكيف لنا كمعارضة أن ندخل هذه المعمعة؟ إنها عمل دؤوب ومثابر، وزحزحات يجب ألا يتم التراجع عنها عند أول منعطف، لا نعرف بالضبط أين نهاية وجهته!
في الحقيقة خطاب جبهة الخلاص في هذا المنعطف كان أكثر تفهما لما جرى، وأكثر إصرارا على المثابرة من أجل انجاز عمل ما على المعارضة السورية انجازه عاجلا أم آجلا، وهو كسب احترام المجتمع الدولي. وبدونه لا مكان لنا تحت الشمس كما يقال، مهما كان لدينا من منظرين أو قادة يلهبون الأجيال حماسا بخطبهم. فهذه رغم أهميتها القصوى لكنها أبدا لا تعوض عن هذه المهمة الملقاة على عاتق هذه المعارضة. حسنا جاءت خطوة فرنسا، وهل بادلها النظام بتغيير جوهري في سلوكه؟ هذا سؤال أول، والسؤال الثاني هل النظام قادر على تغيير سلوكه استراتيجيا، أم أن طبيعته وآليات عمله تمنعه من هذه النقلة الإستراتيجية المطلوبة منه سواء على صعيد لبنان، أو بقية قضايا المنطقة؟ وهل قادر النظام على إعطاء فرنسا ما تريده؟ أسئلة في الواقع لا امتلك إجابات عليها، ولكن من المهم أن تطرح هذا أولا، وثانيا من المهم أن تبادر المعارضة إلى عقد مداولات سياسية سواء كانت سرية أو علنية لمناقشة هذه المستجدات. ويتم تبادل الآراء بعيدا عن الاصطفاف الخلبي الذي لا يخلو من مصالح واهية مهما تقنعت حقوقيا أم قوميا.
هذه الانعطافة في الواقع تفرض قطع المسافة بين جبهة الخلاص وإعلان دمشق، وأعتقد من خلال إطلاعي المتواضع أن جبهة الخلاص قد قامت بخطوات جادة على هذا الطريق، ولا أعرف إن كانت تلقت مبادرة مقابلة أم لا! إعلان دمشق بعد الضربة التي تعرض لها، تحول إلى إعلان مناسباتي، وجبهة الخلاص أيضا لم تزدد فعاليتها كثيرا، رغم أن إمكانياتها لا تقاس بإمكانيات إعلان دمشق، لماذا؟ أيضا سؤال لا أعرف إجابته! رغم ذلك يجب البحث في إمكانيات قطع هذه المسافة بين التجمعين المعارضين وبقية تيارات المعارضة الأخرى. كما يجب عدم الالتفات إلى من يبكي في الدوحة و يغني في دمشق. فهذا خطاب بات أكثر من مفضوح بعد فتح المفاوضات السورية الإسرائيلية.
في كل الديباجات التي دبجت حول المستجدات الأخيرة كنت أحاول أن أبحث عن سؤال لم يطرح في الحقيقة: لماذا مع فتح المفاوضات الإسرائيلية السورية ازداد الهجوم الإعلامي لأجهزة السلطة في دمشق على ما يسمى دول الاعتدال العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية ومصر؟ ألا يضيء هذا السؤال جانبا مما يجري؟ فكيف إذا كان أحد ما يمتلك الإجابة فإنه سيضيء لنا معظم مساحة لوحة المستجدات في المنطقة. كان لا بد لنا قبل أن نصدر بيانات حول ما جرى ويجري على صعيد المستجدات أن نحيط هذه المستجدات بأسئلتها الحقيقية، وهذا في الواقع ما لم يقم به إعلان دمشق وجزئيا جبهة الخلاص. مع ذلك هذه المعركة السلمية من أجل الديمقراطية، لا تتحدد نتائجها بجولة واحدة. بل بعمل يحاول ردم الهوة بين المطالبين بهذا التغيير السلمي نحو الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان. أما ما هي الآليات والكيفية في ردم هذه الهوة! فهذه مهمة قادة تيارات المعارضة، ومؤسساتها كلها، فهل نشهد تحركا ما على هذا الصعيد؟
ghassanmussa@gmail.com