أطلعني أحد الأخوة من العاملين في الوسط الصحفي في الأسبوع الماضي على خبر نشرته إحدى الصحف الخليجية المعروفة بعدائها وكراهيتها ومقتها الشديد لكل ما هو غربي. الخبر كان يتعلق بتطورات الأوضاع في تايلند، وكان مفاده أن ما حدث ويحدث في الشارع التايلندي من احتجاجات ومظاهرات ضد الحكومة ليس سوى صدى لرفض التايلنديين للديمقراطية على النمط الغربي والتي – بحسب الصحيفة – أشاعت الفساد، هكذا!
فكر مريض يقتات على كراهية الغرب
وبطبيعة الحال فان كتابة الخبر بهذه الطريقة، فضلا عن انه يفترض شيئا غير موجود وهو الديمقراطية على أنماط أخرى غير غربية، هو صدى لفكر مريض يقتات على كراهية الغرب، و إلا فان أغبى كائن في القطب الجنوبي، يعلم بأن ما يجري من احتقان وانقسام في الشارع التايلندي ما بين أنصار الحكومة الحالية بزعامة رئيس الوزراء ووزير الدفاع ” ساماك صندرافيج ” ومعارضيه المتكتلين في التحالف الشعبي من اجل الديمقراطية (باد) بقيادة بارون الإعلام “سوندي ليمتونغكول” وحاكم بانكوك الأسبق ” تشاملونغ سريموانغ ” والقيادي العمالي ” سومساك كوسايسوك ” ، ممن يرون في سامساك مجرد دمية يحركها رئيس الوزراء السابق قطب المال والأعمال ” تاكسين شيناواترا ” الذي خرج من السلطة إلى المنفى في عام 2006 بعد انقلاب عسكري قيل انه رتب بعلم وموافقة القصر الملكي، هو نتيجة لعدم تطبيق الديمقراطية بأشكالها الصحيحة على نحو ما هو موجود في منبعها الغربي، أو اجتزائها بمعنى تطبيق بعض معالمها وترك الباقي، أو استحداث تفسيرات غريبة لمضامينها.
عين حسودة أصابت تايلند
بعيدا عما سبق، يشعر المراقب بأن عينا حسودة ربما أصابت التايلنديين فدفعتهم للتصرف خلافا لما هو معروف عنهم من طبيعة مسالمة وحب للحياة وانغماس في مباهجها، بعيدا عن السياسة، وتمسك بما حققته بلادهم من رخاء اقتصادي وسلام اجتماعي وازدهار معيشي وامن وأمان. صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي تقف فيها بانكوك على حافة الفوضى أو تقترب من الشلل التام، فقد سادها العنف السياسي والفوضى عدة مرات كان آخرها في مايو / أيار 1992 حينما خرج خصوم الحكومة العسكرية وقتذاك إلى الشوارع فاصطدموا بعناصر الجيش ليقوم هؤلاء بفتح نيرانهم على المتظاهرين العزل ويحصدوا أرواح 250 مدنيا. لكن الصحيح أيضا هو انه لم يسبق أن وصلت حالة الانقسام والاحتراب والتهديد في الأوساط السياسية والشعبية والعسكرية وربما الملكية إلى ما وصلت إليه اليوم، وهو ما اجبر رئيس الحكومة ساماك على فرض حالة الطواريء على العاصمة وتشكيل لجنة برئاسة قائد الجيش الجنرال ” أنوبونغ باوتشيندا ” للإشراف على ذلك، مشددا في الوقت نفسه على انه لن يفرض حالة منع التجول في البلاد ويكتفي بمراقبة وسائل الإعلام وفض الاجتماعات التي تزيد عن خمس أشخاص ، و مؤكدا أنه يفضل التفاوض مع معارضيه و أنه ضد مبدأ استخدام القوة ضدهم رغم تجاوزهم لكل الخطوط الحمر، مثل احتلالهم للمباني والأجهزة الحكومية وتحريضهم على الإضراب والعنف وقطع الخدمات الحيوية كخدمات النقل الضرورية للسياحة. وهذا بطبيعة الحال تطور مهم في عقلية ساماك وتوجهاته، خاصة إذا ما عرفنا دوره الوحشي المفترض في قمع انتفاضة الطلبة اليساريين في عام 1976 ثم دوره الأكثر توثيقا في التعامل الفض مع احتجاجات الفلاحين في بانكوك يوم كان وزيرا للداخلية في التسعينات من القرن الماضي. الأمر الآخر المفرح هو أن هذا التطور في سلوك وأسلوب الرجل رافقه تأكيد قوي من قبل الجنرال انوبونغ بإغلاق صفحة الانقلابات العسكرية إلى الأبد، بمعنى عدم الاستسلام لمغريات الانقلاب على الدستور.
تذكير بما حدث في عام 1992
في أحداث واضطرابات مايو/أيار 1992 كان المتظاهرون بقيادة شخصية شابة أقوى تعلقا بالديمقراطية ومضامينها هو تشاملونغ سريموانغ الذي جذب اهتمام جماهير العاصمة بلغته البسيطة وطبيعته الزاهدة، فالتفوا حوله بقوة، فيما كان خصمه هو رئيس الوزراء العسكري الجنرال سوشيندا كرابرايون. وقتها لم تنته تلك الأحداث الفوضوية الدامية إلا بتدخل مباشر وعلني من عاهل البلاد الملك بوميبول ادولياديج الذي استدعى الرجلين إلى قصره وجعلهما أمام كاميرات التلفزة يزحفان على اقدامهما نحوه طالبين الصفح ومبديين الاستعداد للمصالحة وتسوية الخلافات على قاعدة اعادة الديمقراطية.
ومما قيل في عام 2006 وتحديدا على اثر المظاهرات التي قادتها حركة تحالف ” باد” ضد رئيس الحكومة وقتذاك “تاكسين شيناواترا” بدعوى تزوير الأخير للانتخابات العامة، أن الحركة إنما أرادت بتلك المظاهرات لكز الملك من اجل تدخله وتنصيب حكومة انتقالية للإشراف على انتخابات أكثر نظافة ونزاهة، وذلك عبر استغلال نص دستوري مبهم من دستور عام 1997 يعطي للملك حق التدخل في حالات معينة.
والمعروف أن الملك لم يستجب لضغوط تحالف ” باد”، مما أدى إلى قيام العسكر بانقلاب أطاحوا فيه بشيناواترا، هذا على الرغم من أحاديث كثيرة تسربت وقتها عن أن الانقلاب تم التخطيط له في البلاط الملكي وبإشراف رجل البلاط القوي واحد رؤساء الحكومة السابقين الجنرال المتقاعد بريم تينسولانوندا – الرجل بطبيعة الحال دفع التهمة عن نفسه والبلاط مرارا وتكرارا.
التصعيد من اجل إجبار الملك على التدخل
ومن هنا، تردد أن موقف تحالف ” باد” الأخير ولجوئه إلى التصعيد ضد حكومة ساماك، إنما هو محاولة لخلق أوضاع شبيهة لأوضاع عام 1992 ، بمعنى إجبار الملك بوميبول ، بما له من سلطات معنوية واحترام يصل إلى حد التقديس، على التدخل أو التوسط في الصراع الدائر ما بين الفرقاء السياسيين والذي يقال انه تعقد الآن بسبب امتداده إلى المؤسسة العسكرية وتحوله إلى صراع ما بين جنرالات متشددين و جنرالات معتدلين.
فتش عن دور العسكر
وتوضحا للنقطة الأخيرة، يقول بعض خبراء الشئون التايلندية أن العنف والتهديد به الذي صاحب مظاهرات الأيام الأخيرة في العاصمة ما كان ليحدث لولا دعم خفي من أجنحة داخل المؤسسة العسكرية أو تحديدا من جنرالات يؤمنون بضرورة أن يكون للعسكر دور قوي في الحياة السياسية على نحو ما كان في عقد السبعينات، ومن هؤلاء الجنرال ” مانونكريت روبكاتشورن ” الذي سبق وان تورط في انقلابي عامي 1981 و 1985 ، ويريد الآن استغلال قوة “باد” في الشارع لصالح العسكر بالإضافة إلى استغلال نفوذ بعض المشرعين من أعضاء البرلمان من أمثال ” سومكيات بونغبايبون ” الذي شوهد وهو يشارك المتظاهرين تخريبهم للأملاك العامة، لكنه لم يعتقل حتى الآن بسبب تمتعه بالحصانة البرلمانية.
سيناريوهات متداولة للخروج من المأزق
أما فيما يتعلق بسيناريوهات الخروج من المأزق الحالي الذي اضر ولا يزال يضر بالاقتصاد الوطني ويشجع المستثمرين على نقل أنشطتهم إلى دول مجاورة، فان البعض يرى أن أفضل الحلول تكمن في تقديم ساماك لاستقالته وتشكيل حكومة جديدة من وجوه ديمقراطية معروفة أو تحالفات سياسات جديدة. ويرى هؤلاء أنه من غير هذا الحل، ومن دون تدخل مباشر من عاهل البلاد في القضية، سوف تزحف تايلند أكثر فأكثر نحو كارثة تقضي على كل ما بنته سواعد أبنائها في العقود الماضية، لاسيما إذا ما أخذنا في الاعتبار ما يواجهه زعماء “باد” أمام المحاكم وسلطات الطواريء من اتهامات بالتخريب والتحريض والعنف وغير ذلك من الجرائم التي قد تصل عقوباتها إلى السجن المؤبد أو الموت شنقا، و هو ما لن يسكت عليه مؤيدو “باد “بطبيعة الحال ، إن حدث.
أربعة أمور مؤكدة
في مقابل هذا المقترح للخروج من الأزمة، هناك فريق آخر يدعو إلى مصالحة يلعب فيها الملك دورا – وان كان رمزيا – لفرض حكومة وحدة وطنية. ويرى هذا الفريق أن مثل هذا السيناريو قد يتبلور بصورة أوضح خلال الأسابيع القادمة التي ستشهد احتفالات البلاد بالعيد الحادي والثمانين لميلاد ملكها، لكن دون أن يقرر (أي الفريق) عما إذا كانت فكرة حكومة الوحدة الوطنية ستهدأ احتجاجات أنصار ” باد” أو ستثير الخلافات في أوساط ساسة الشمال الذين خاضوا الانتخابات الماضية تحت جناح حزب ” قوى الشعب ” بقيادة شيناواترا، فالصورة – طبقا لأحد المراقبين – لا تزال غير واضحة من حيث التحالفات الجهوية، غير أن المؤكد بحسبه هو أربعة أمور:
الأول/ هو أن أنصار تحالف “باد” يتألفون من الطبقة الوسطى والمعمرين المنحدرين من جنوب البلاد، فيما ينحدر الديمقراطيون من مناطق مختلفة من البلاد.
الثاني/ هو أن الناخبين في الأرياف ليسوا في معظمهم خاضعين لشيناواترا وحزبه، الأمر الذي يمكن معه القول بأن البلاد منقسمة على مستوى الأقاليم الريفية والحواضر.
الثالث/ هو أن “باد ” فقد الكثير من قاعدته الشعبية في بانكوك والتي تولدت له في عامي 2005 و2006 من خلال استغلال قادته لشعار الدفاع عن الملكية في مواجهة طموحات شيناوترا و استغلالهم لمواقف صدرت من الأخير للقول بأنه لا يحترم عاهل البلاد. ودليلنا نستمده من استطلاع للرأي اجري في الأسبوع الماضي في صفوف طلبة جامعة بانكوك، وكانت نتيجته هي أن 68 بالمئة يعارضون أسلوب “باد ” في العمل.
الرابع/ هو أن غياب رئيس الحكومة الحالي ساماك عن الساحة السياسية لن يكون سهلا أو قريبا. فهو من المخلصين للملكية ومعروف عنه روابطه القوية والقديمة بالبلاط الملكي، بدليل أن الملك بوميبول نفسه بارك حكومته من خلال شاشة التلفزيون الرسمي عشية تنصيبها. أما خارج البلاط الملكي، فانه يحظى بقوة ساعدته على التخلص من قادة سياسيين وعسكريين وأمنيين كبار ضمن إدارة شيناواترا السابقة، بما فيهم أمين عام مجلس الوزراء السابق ” جاكرابوب بينكير ” ورئيس البرلمان السابق ” يونغيوث تيابايرات ” ووزير الخارجية السابق ” نوبادون باتاما ”
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh