مجلس الشعب احترق قبل ايام. اول برلمان في الشرق. اسسه الخديوي اسماعيل عام 1866، ليكون واجهة دولة مصر الحديثة. احترق المجلس، فاحترقت معه ذاكرة المصريين البرلمانية. كل ما لحق من تاريخ تأسيسه، من رجالات واحزاب وملوك وثوار… يحفظه مجلس الشورى المحترق. ومن الوثائق المحترقة على سبيل المثال: محاضر اللجان منذ بداية الحياة البرلمانية وحتى الآن، مضْبطة الجلسة السرية لمناقشة دخول مصر حرب فلسطين عام 1948، مضْبطة الجلسة التي ناقش فيها البرلمان كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» واتهام نواب له بالكفر، مستندات ترشيح عبد الناصر لرئاسة جمهورية 1957 في اول مجلس نيابي بعد الثورة.
اما بالقرب من مجلس الشورى المحترق، فمجلس الشعب (اي النواب) والجمعية الجغرافية المصرية التي لا تقل اصالة عن المجلسين: انها التاسعة في العالم، والاولى في العالم العربي. والاثنان كانا مهدّدين بالحريق نفسه.
انها المرة الاولى في هذا العهد. المرة الاولى التي يطال فيها ثنائي الفساد-الإهمال أمن المكان الذي يُفترض ان تصنع تحت قبّته قرارات السلطة، ديموقراطياً. قبل هذا الحريق لم يؤذ هذا الثنائي إلا البسطاء من المواطنين المفترَضين: حريق القطار والمسرح، انهيار العمارة، غرق العبارة، الدماء الملوثة، المواد الزراعية المسرطنة، مقتلة السير اليومية، الامن الفردي… ومصْيدات اخرى يومية لحياة من لا توازي امتيازاته امتيازات ابن عم وزير.
وكأن ألْسنة اللهب تقول: لا ليس هنا تصنع قرارات السلطة الفعلية. ليس في مجلس الشورى، أو البرلمان المجاور له… بل في أمكنة غامضة، حراسها ليسوا موظفين حكوميين، بتقاعسهم المزْمن ومرتباتهم الخاوية وتآكل مهاراتهم الفنية، بل موظفون في شركات خاصة، معوْلمة: موظفون ساهرون، اصحاب هندام وكفاءة. تلك هي إشارات الحريق وعلاماته.
والاسئلة تتدرّج في الأهمية: لماذا حصل الحريق؟ أصلا؟ ليس تقنيا فقط بسبب «ماس كهربائي» كما ينكبّ عليه التحقيق الجنائي. بل هو وقائي ايضا، بسبب عدم وجود انظمة إنذار مبكّر للحريق. وهذه انظمة تزْغرد بالصفير الحاد قبل اول شعلة، عند اصغر دخان.
السؤال الثاني: لماذا توسع الحريق واجتاح الدور الاخرى وتفوق على جهود رجال الاطفاء لمدة ثماني ساعات متواصلة؟ بدائية الآلات؟ عدم تدريب رجال اطفاء؟ انعدام كفاءتهم؟ انعدام النظام والصيانة والقانون؟ انعدام الحافز العميق لديهم للإطفاء؟ إنشغال رجال الامن بمطاردة الصحافيين الذين يغطّون الحريق؟
محاولة إجابة: آلة اطلقها ثنائي الفساد-. آلة صارت الآن شبه مستقلة عن ارادة الفاعلين اصحاب الادوار على مسرحها. آلة عمياء، تحرق وتغرق، تبتلع ما تلاقيه في طريقها. والفرق بين نيلها من اصحاب الادوار وبين نيلها من المواطن المعدوم الدور، يكمن في النِسب فحسب.
اما الظاهرة التي رافقت الحريق منذ اللحظة الاولى؛ الظاهرة التي لا يبالي بها التحقيق، والتي تتوسل فعلا السؤال، فهي ظاهرة الشماتة من حريق هذا المكان العريق. وفي جلّ مستويات المجتمع، «البسيطة» منها والنخبوية: الشماتة النضالية.
فعل الشماتة النضالي هذا، فاق الحريق أهمية. الجماعات الدينية وخطباء الجمعة؛ وشعارهم ان الحريق «إنتقام من الله». التعليقات والنكات الأليمة الساخرة حوله. الدعوات بأنه ليت هذا الحريق، قضى على رئيس المجلس واعضائه وعلى مجلس الشعب المجاور وقصر عابدين ومصر الجديدة (حيث مقر الرئيس). النشاط الفائق في تمرير تعابير الفرحة المسمومة عبر الموبايل والانترنت وحتى الاعلام. ثم المقارنة بين هذا الحريق وحريق القاهرة عام 1952؛ والذي يعبّر عن التمنّي شبه الضمني بأن يكون الحريق الاخير مثل الاول، منْذراً بتغيرات جذرية؛ أي الاطاحة بالعهد. والمقارنة الاخرى بين هذا الحريق وحريق الاوبرا عام 1971. وقد كان هذا الصرح التاريخي ايضا قطعة من اوروبا. ونذير حريق الاوبرا بالانقلاب الساداتي على الناصرية. المقارنة بين الأسى على الاوبرا وبين التشفّي بمجلس الشورى. او قل اللامبالاة، او السخرية المرّة.
شماتة نضالية هي، ولكن من النوع البدائي ايضاً. وكأن اللعنة التي يصبّها المواطن المصري غير الممتاز على سلطته الحاكمة الغاشمة، جابية الضرائب، في كل لحظة من لحظات يومياته المعذّبة، قد لاقت ما يستجيب لها. ليس مهماً ان تكون بالنار. لعلّ المرة القادمة بالحديد.
لو كان لمجلس الشورى معنى من المعاني في ذهن المواطن غير الممتاز… معاني التاريخ او القانون أو التداول البرلماني او أي شيء محفّز على الامل، على المستقبل، فهل كانت الشماتة ستبلغ هذه الدرجة من الحدّة والإنْبساط؟ المكان فُرّغ من معانيه. لا اجندات. ولا خطط. لا دور من تلك الادوار المفترضة. بل «ترزية قوانين» (مفصّلي قوانين) تحمي امتيازات اعضائه وتغطّي مخالفاتهم القانونية الفادحة.
واذا احسّ الناس به، بهذا المجلس، فليس خارج الزحمة الخانقة التي يتسبّب بها اعضاؤه «الممتازون» ايضاً، لدى خروجهم او دخولهم منه… في كل محيط القصر العيني وحتى ميدان التحرير. اي في وسط البلد.
المكان اضاع المعاني التي اسسه عليها رواده. مصر الفاسدة والمهملة لنفسها لم تعد رائدة ولا قيادية. عنوانها المكرّر الآن «صفر المونديال»… ومآلها محجوب عن الخيال.
شماتة المصريين بإحتراق مجلس شوراهم، هو سلاحهم الوحيد ضد نظام يتشبّث بشلَلَه. سلاحهم هذا يذكّر بما كان يقوم به عمال الرأسمالية الاولى في بريطانيا: كانوا اذا فاضَ بهم الغيظ من استغلال الرأسماليين الاوائل لهم، يحطّمون الآلات التي يعملون عليها.
وما قاله لي مواطن غير ممتاز والحريق مشتعل في لحظاته الاولى: «معلهش (لا يهم) اذا كنا نحن سندفع ثمن اعادة بناء المجلس المحروق. المهم ان الحريق اثلج صدورنا. ولو للحظة، ولو ليوم»… يشي بوجه من اوجه هذا النوع المحدّد من الغضب. غضب يلتهم بناره السريعة كل الثلج النازل على الصدور.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة
حريق «مجلس الشورى» المصري والشماتة بوصفها فعلاً نضالياًمليونا دولار دفعها نقداً الملياردير المصري لقاتل تميم اضطرت السلطات المصرية أمس، الى الاعتراف رسمياً بفضيحة تورط القيادي البارز في الحزب الوطني الحاكم عضو مجلس الشورى الملياردير هشام طلعت مصطفى في جريمة قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم في مقر اقامتها بدبي في 28 تموز الماضي. وكشف بيان أصدره النائب العام المصري المستشار عبد المجيد محمود تفاصيل الفضيحة، التي ينتظر أن تشعل الجدل المحتدم أصلا في شأن ظاهرة “زواج المال والسلطة” على قمة هرم الحكم في البلاد، وأكد اقدام مصطفى على استئجار ضابط شرطة سابق كان يعمل في جهاز مباحث امن الدولة يدعى محسن… قراءة المزيد ..
حريق «مجلس الشورى» المصري والشماتة بوصفها فعلاً نضالياًالنّيابة المصرية تكشف تفاصيل جريمة قتل المغنّية اللبنانية في دبي … رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى دفع مليوني دولار لضابط أمن سابق لـ«ينتقم» له من سوزان تميم القاهرة – جابر القرموطي الحياة – 03/09/08// في واقعة هزت الأوساط الاقتصادية المصرية أمس أحال النائب العام في مصر ضابط الأمن السابق محسن السكري ورجل الأعمال البارز هشام طلعت مصطفى على محكمة جنايات القاهرة، بتهمة قتل المغنية اللبنانية سوزان تميم في دبي في 28 تموز (يوليو) الماضي. وتعود وقائع القضية إلى 6 آب (أغسطس) الماضي عندما طلب انتربول أبوظبي التحري عن السكري للاشتباه به في مقتل… قراءة المزيد ..