غداً أو بعد غد رمضان.
كل شيء يسير مثل كل سنة أو يزيد..
غدا أو بعده تبدأ حملات الغذاء وولائم الطعام.. تبدأ حملات الإعلانات التجارية الثمينة والرخيصة..تبدأ مسلسلات وحلقات عن قصص لا نهاية لعددها..أصوات المآذن ستعلو، وستحتفل المساجد بزائريها.. مقاعد المقاهي والمطاعم تمتلئ بروادها الذين يقصدونها لتمضية الليالي الرمضانية.. ستتزين الشوارع بالألوان والأنوار وتتخذ المصابيح أشكال النجوم والأهلة، ازدحام في كل مكان..
كل شيء يسير مثل كل سنة أو يزيد، وحده ذاك الشيء يقال أنه يختفي كل سنة أو يقل بالتدريج.. روح رمضان.
هناك منغصات يقولون أنها تشوش بال من ينشد الروحانية الرمضانية، الكبار أكثر من يردد هذا القول. رغم أن تلك المنغصات أصبحت جزءا لا يتجزأ من زائرنا السنوي..
الكبار يترحمون على رمضان مضى. ويحزنون على روحه التي قتلت. كتب معالي الدكتور غازي القصيبي قبل عدة أيام في صحيفة الوطن مقالا بعنوان (رمضان وداعاً) ودع به بهاء رمضان الماضي…الكبار دائما يترحمون على القديم، يستمرون في الحياة هناك، لا يعجبهم الحال مطلقاً.
“في زماننا، في أيامنا، يرحم رمضان أول…”
حسرة ممتدة من العبارات على أيام كانوا هم فيها أناس آخرين، دون أن يكون للأمر علاقة بطقوس رمضان أو شعبان. يقول الكاتب: وداعا رمضان. هكذا قرر. أن ينتهي رمضان من الوجود مع انتهاء سعادته به.
رمضان اليوم ليس رمضان قبل ثلاثين عام، تعلقت الروحانية اليوم وارتبطت بروائح الأطعمة في الشوارع والبيوت.. بحلويات ومسلسلات وأصوات مساجد تصدح بأعلى حس، مختلطة وغير مفهومة..لكن تلك الأصوات العالية والروائح المختلطة بالنسبة لأجيال عديدة هي روح رمضان الحقيقية، أجيال لم تحيا زمن رمضان الطفرة أو رمضان القحط، أو رمضان خال من وسائل الترفيه المرئية، أجيال لم تصنع دماها بأيديها، عرفت رمضان على أنه صلاة يليها مسلسل وفزورة..
ولأن لكل جيل روحانيته، فليمارسها كيفما يشاء دون أن يوقع اللوم على التلفاز والأطعمة وحسناوات الشاشات، أو اللوم على الأجيال الجديدة التي كانت سبباً في تشويه رمضانه القديم وتحويله إلى كتلة من السلبيات..
ثم من بإمكانه فرز السلبيات والإيجابيات الرمضانية..
هم يأكلون كما لو أنهم صاموا العام وغربت شمسه في رمضان فأفطروا.
يشترون ملابس العيد كأنهم أمضوا العام عراة.
يركعون ويسجدون كأنهم ما صلوا طيلة أحد عشر شهراً..
يرقدون فنياً ليستيقظ إنتاج غزير بالمئات..
ومع ذلك من بإمكانه القول أن تلك الشراهة سلبية، أليست جزءا من طقوس اعتدناها ولا نستطيع مقاومتها؟ لنعترف ونتأقلم مع اعتيادنا الداخلي عليها وكفانا نقداً لطقوسنا أو لشراهتنا..
بالنسبة لي أكياس الدهن والشحم التي تملأ البرادات هي السلبية الكبرى، وتلك المتفجرات الحلوة الصغيرة التي أحاول أن أكتفي بالتلذذ بمشاهدتها سلبية لا تغتفر..
ورغم ذلك أتوق شوقاً لسماع أمي تفكر بصوت عالٍ بأصناف مائدة الإفطار .. أتوق شوقاً لرؤية العجين، حتى رائحة القلي التي أكرهها يصبح لها شكل محبب في رمضان..السهر المجنون له مزاج آخر في رمضان، الشراهة لها معنى آخر.
وحين يبدأ القمر بالمغيب أستمع لأعذب آذان ببدء فجر في الحياة.
وفي ليلة رمضانية أتحرق شوقا لاجتماع عائلتنا بعد الإفطار والتفافنا حول الشاشة لمتابعة مسلسل من مئات المسلسلات. تنتقده الصحافة كونه عديم الفائدة والقصة، لا يدرون حبكته الأصلية. التفافنا حوله، هذه الساعة العائلية التي تلي الإفطار هي الأغلى بين ساعات العام كله.. ننتظرها عاما كاملا.. رمضان ليس طقسا دينياً فحسب، هو عيد بل أكثر.
هل نملك بعد ذلك القدرة على وداعه، أم نهلل ونقول: بل أهلاً شمس رمضان.
Albdairnadine@hotmail.com
* كاتبة سعودية