مقدمة:
شرطنا واحد، وفهمنا له مفارق أو مطابق، لكن الحوار بعد أن أنجز على هذا الشكل، وبالروحية الشفافة التي أردناها معا، هم فكري يظللنا مع ياسين، وهم سياسي يحاذيه، أو ينافسه، أو يكمله، وربما يزيد الحوار غنى. لا نعرف هذا جهدنا معا، كي نقول شيئا في شرطنا، حيث الكلمة الحرة، توق نحاول دوما الوصول إليه، المقدمة لا تشرح ولا تفسر، لكنها تثبت أن حق الحوار يجب أن يكون بعد الواجب بين المهمومين بهذا الشرط بتفاصيله وكليته. إنه شرط سورية التي أكلت ولازالت تأكل من لحمنا، كنت واضحا، وكان ياسين صارما. هكذا الأمر ببساطة حوار نطل من بعده على أفق أرحب ومفارق لهذا الشرط الذي يحبس الأمل في زنزانة. وأترك الحوار طازجا كما هو.
***
من نسيانات الروح، كي تستمر عطاء، لا أعرف هل يمكن أن نسميها نسيانا كي نتجدد أم نسميها تجاهلا، كي نستعيد أرواحنا، عالم السجن في كثير من اللحظات عنى لي أنه نهاية التاريخ! هنا سيتوقف نبضنا، وهنا سيكون قبرنا، وهنا سيكون مستقبل بلدنا، وعنى لي أنه الموت البطيء تشفيا أو لأسباب أخرى، وعنى لي في ذات الوقت امتحان إنساني لتنظيف الروح، لمراكمة تجربة إنسانية من نوع خاص، لحظات عشق هوامي، لحظات ندم، لحظات تحدي، لحظات جبن واستكانة، لحظات خوف من السجان الذي بات يقبع داخلي. لحظات أم كانت تقف خلف شبكين من الحديد الأسود، بينهما مسافة متر تقريبا وشرطي، وهي مصابة باحتشاء في عضلتها القلبية من أجل أن تراني، كنت بعد كل زيارة أسأل نفسي هل كنت استحق هذا الأمر؟ إنها لحظة من قحط الروح، السجن عنى لي أيضا مثاقفة خطيرة وجنونية في أحيان كثيرة مع الذات ومع الآخر مهما تعددت مسمياته ومواقعه، ماذا عنى السجن لياسين الذي أمضى فيه ما يقارب ستة عشر عاما؟ أنت من قلت: لم يتسن لأحد من السوريين أن يتناول حياة المعتقلين السياسيين السابقين بعد الإفراج عنهم. تبدو هذه الحياة فاقدة لـ”الندرة” و”الفرادة” اللتان تميزان تجربة السجن، وتجعلان منها جديرة بأن تروى أو تدرس أو يكتب عنها، أن تتناول بوصفها موضوعا جذابا.؟ هل هي موضوعا جذابا أم علي أن اعتذر منك لكوني بدأت بما يمكنني تسميته معك فرادة الألم، ولكن ليس ندرته؟ هذا سؤالي الأول.
ليس السجن جذابا من وجهة نظر السجين أو المهدد بالاعتقال. لكنه قد يكون جذابا من وجهة نظر القارئ، حين يُتَناول كموضوع لكتابة فنية أو فكرية. هو جذاب من وجهة النظر هذه لأنه تجربة نادرة، “مغامرة”، ولأنك بالكتابة عنه تثير عند القارئ دافع الاطلاع على حكاية مشوقة، وفرصة تلصص على حياة حدّيّة، محفوفة بالخطر. وأظن أن سر كل منتج ثقافي يتمثل في اختلافه عن غيره، في ندرته، وإن شئت في فرادته. واختلاف السجن وندرته مضمونان، لأنه في النهاية الناس لا يسجنون كل يوم أو يروون سيرة سجنهم.
لكن ليس بالضرورة فرادة الألم كما يقول سؤالك. صحيح أن الألم، ألم التعذيب بالخصوص، شأن مضمون الندرة، ولا نحتاج إلى جهد أدبي أو فكري لـ”تنديره”، لكننا لم نقض الحبس معذبين أو سجناء فحسب، ولا يرتد السجن إلى تجربة تقييد للحرية تفرض ذاتها في كل لحظة. قد يتاح لنا، وقد أتيح نسبيا، ما يساعد على ترويض السجن، أو تقييده، “حبسه” بصورة ما. ووسيلة الترويض التي ناسبتني أكثر من غيرها هي القراءة والتعلم. قراءة الكتب تضاعف الحياة وتحرر من السجن، فتبطل بدرجة ما الغرض من حبسنا. وما تفتحه من آفاق عقلية وروحية يمثل تجربة انعتاق حقيقية، ليس من السجن وحده، بل ربما كذلك من سجون أخرى ليست أقل فتكا: سجن الأنا الإيديولوجية والحزبية، والأنا الشخصية أيضا.
بدرجات متفاوتة طبعا. فالانعتاق من السجن الإيديولوجي والحزبي قد يفضي إلى مزيد من الانحباس في سجن الأنا الشخصية. فأنت تعلم أن من أنجع سبل التحرر من التمركز الأناني حول الذات الانخراط في مشروع جمعي يتجاوزها، فإذا عملت على التخلص من هذا أو تقييده فإنك تجازف بأن تطلق لذاتك الشخصية العنان، فتتضخم وتجعل من ذاتها مشروعا أوحد لذاتها. أظن هذا، بالمناسبة، شائع في أوساطنا، نحن المشتغلون في الشأن العام.
في المجمل، اتخاذ السجن وسطا للانعتاق (النسبي، دوما) من سجوننا العديدة هو التجربة الأندر والأثمن التي ربما أكون أطللت عليها بعد أن “استحبست”، أي بعد انقضاء نحو نصف سنوات السجن الستة عشر.
السؤال الثاني: الحوار معك مضن لأن البداية محكومة بسؤال من أين يمكننا أن نبدأ مع ياسين الفكري المهموم سياسيا أم السياسي المهموم فكريا؟ لن اعتمد على طريقة تقليدية، بل سأبدأ من حيث الخلاف: لفتت نظري عبارة اعتبرتها أنا سطحية ومجاملة في آن معا،وردت في أحد ردودك على الصديق سلامة كيلة. لقد ختمت ردك بالقول: كنت أمازح سلامة وأقول له أنني ماركسي أكثر منك! ماذا تعني هذه المفردة هنا وفي سياق ياسين عموما، الذي اعتبره قد قام بمزج خاص جدا بين مرجعياته الفكرية والفلسفية المتعددة الرؤوس المنهجية و الفكرية؟ هذا المزج الذي أنتج لنا مثقفا له لغته الخاصة، وهذا مؤشر أول على عمق هذا المزج الفكري الفلسفي أحيانا، كثر ممن تعامل معك كعدو للعلمانية تارة، وتارة أخرى كمعاد لأبجديات ماركس، ومن الجهة المقابلة تم التعامل معك، بوصفك خصما عنيدا للإسلامية السياسية. بالمعنى المنهجي، أين يقف ياسين الآن، هل فعلا هو ماركسي، أم أنه لازال لديه الحنين لنسخة ماركسية ما؟ رغم أنني لازلت اعتبر ماركس جدولا من الجداول الغزيرة التي لازالت ترفد نهر الفكر العالمي المتدفق، تجاوز ماركس حتمي، ولكن تجاوز الجرح الذي أحدثه في نرجسية المشروع الغربي، وسطوته المعرفية والتاريخية، أعتقد أنه من الصعب تجاوزه أو الشفاء منه، لأن هذا المشروع بات لكل العالم. أم تعتقد أنه بسقوط السوفييت قد شفي منه هذا المشروع الغربي؟ وهل يمكن لنا اشتقاق مشروع قومي ماركسي، على طريقة الطيب تيزيني، في هذا الزمن العالمي؟ سمه عولمي، لا يغير في طبيعة التاريخ الشيء الكثير، لأنني مضطر لاستعارة نيتشوية: إن التاريخ لازال حتى اللحظة علاقات قوة، وهذا أمر سنعود إليه لاحقا. لكنني أود أن افتح نافذة في هذا المزيج الحر. أنت تقول في بداية ردك على الكاتب السوري الطاهر إبراهيم أنك منحاز لشرعية فكرية وفلسفية مختلفة، وهذه الشرعية هي أسس الدولة الحديثة ومفهوم المواطنة ومبادئ حقوق الإنسان. أين تقف هذه الشرعية التي تنحاز إليها من ماركس والماركسية؟
بداية بخصوص قولي لسلامة إني أكثر ماركسية منه. ينبغي أن يفهم هذا الكلام في سياقه السجالي. الغرض منه التحفظ على ماركسية تبدو لي عامية ومتطفلة على ماركس نفسه، وثوقية فوق ذلك ومفتقرة إلى الحس الجدلي. في نقاشاتنا كان سلامة ينسب كلامه إلى الماركسية، خلافا لي. لكني كنت أجد نقاشه الشفهي والمكتوب خلوا من ماركسية صاحية قدر خلوه من الروح النقدية. وافترض أن المرء يستطيع أن يكون ماركسيا ويقول كلاما أنفذ تحليلا وأرهف أسلوبا وأكثر نقدية، دون أن يكون أضعف التزاما سياسيا. لم يكن غرضي إذن انتحال الماركسية هوية لي، أو المنافسة على ما قد تدره من شرعية فكرية وسياسية، بل الاعتراض على مقاربة صورية وغير نقدية تنتحلها.
أفضل لنفسي صفة مثقف نقدي. مثقف أولاً، أي يقارب الشؤون العمومية بأدوات المثقف لا بأدوات السياسي أو رجل العمل، ولا بأدوات الداعية لمذهب ناجز، ولا المبشر، ولا المحرض. ونقدي، أي متشكك في المقاربات المكرسة والمعترف بها، ويرى أن وظيفته أو “رسالته” مساءلتها عن شرعية ما تدعيه، متوسلا الأدوات المعرفية التي تتيحها مدارس العصر النقدية. أدوات أحاول ما استطعت تطوير اطلاعي عليه والتمرس بها. وبين هذه يحتل فكر ماركس مكانة مرموقة بلا شك.
ولعله بسبب النقدية المشاكسة هذه وجدت نفسي على خصومة مع ماركسيين وعلمانيين وإسلاميين مذهبيين، وكذلك مع قوميين عرب لم تذكرهم في السؤال. لقد فزت بنصيبي من التخوين على يد اثنين من جيلين مختلفين من عتاة القوميين على الأقل.
وكمنهج، أنا منحاز إلى العقلانية النقدية. ألخص ما أفهمه من العقلانية ببيت شعر عربي قديم لا أذكر اسم قائله:
الدهر كالدهر والأيام واحدة
والناس كالناس والدنيا لمن غلبا
أي ما من خصوصيات ولا خفايا ولا أسرار ولا سحر ولا ألغاز، ولا إلهام خاصا بفرد أو بثقافة أو بشعب، ولا فرادة… ولا بالطبع امتيازات اجتماعية مرتبطة بالأصل أو الدين أو المذهب أو الحزب.. ولا دم أزرق ولا فكر أحمر ولا رسالة خالدة.. دوافع الناس متماثلة جوهريا، والحاضر والماضي متشابهان “شبه الماء بالماء” على قول ابن خلدون الذي لا أفهم منه نفي التغير بل وحدة الدوافع الإنسانية، ووحدة مبادئ تفسيرها تاليا؛ إنه صورة قوية جدا عن معقولية التاريخ.
وأعتقد أن لهذا التصور للعقلانية بعد أخلاقي يتمثل في أن الناس متماثلون جوهريا (وحدة الإنسانية)، وأن ما لا ترضاه لنفسك هو ذاته ما لا يرضاه آخرون لأنفسهم، وتاليا ما يجب عليك ألا ترضاه لهم.
أؤمن أن الإنسان ليس عقلا فحسب، وأن في الحياة قوى مظلمة، وقوى غير عقلانية.. وأن ذلك هو ما يجعل العالم معقدا ويستحيل التنبؤ بمساره. ولعل فيه أيضا ما ينقذ الحرية… من هذا الباب أتكلم على عقلانية نقدية.. تنتقد اللاعقلاني في العالم، لكن تنتقد ذاتها أيضا.. في جهد لا ينتهي
لتملك العالم عقليا وعمليا..
وفي شغلي الشخصي أحاول أيضا أن أفسح موقعا واسعا للملاحظة والتنبه إلى الواقعي والتجربة الحية. وهي تحتل مكانة تسمو على أي مذهب أو نظام فكري جاهز، ماركسية أم غيرها.
السؤال الثالث: هل يرى ياسين أنه لازال للمثقف النقدي دورا في عملية التنوير بدون مؤسسات؟ ثم ألا يضيع التنوير مهما كانت عمليات المثاقفة الفردية، يضيع في دهاليز منع السلطة، وشجب نخب الرتابة الأيديولوجية داخل الاعتراض السياسي، و عدم معرفة الجمهور! أي أن المثقف النقدي، في هذه الحالة لا يراكم وعيا تنويريا، لأنه غير محمي مؤسسيا، بمعنى لا وجود لمؤسسات تحميه، فما بالك بحماية نتاجه، حماية عملية التراكم الثقافي، الذي يتحول إلى رأسمال رمزي لمجموعات اجتماعية أو سياسية، والتي هي كما أعتقد إحدى أهم مهمات المثقف النقدي في ظل استقلال نسبي ممأسس للثقافة النقدية، فلا إعلام في دمشق يحتفي بالثقافة النقدية، ولا منابر تصل من خلالها هذه الثقافة إلى الجمهور العريض، ولا مراكز دراسات، صوت تائه في مهب المنع، والتهديد بالسجن، أو بلقمة العيش كما حدث ويحدث مع كثر. ألا تعتقد من المبكر جدا الحديث عن استقلالية الثقافة النقدية ودورها؟
أفضل على العموم استخدام كلمات بسيطة للتعبير عن دور المثقفين، ودوري الشخصي بخاصة. وأتحرج من استخدام كلمة “تنوير” في وصف هذا الدور. فيها شيء من تصور “نوراني” للمثقف، افتراض أنه “شمس” من نوع ما تضيء العالم وتنير سبيل الناس الضالين. وهذا يفاقم من نزوع نرجسي، قلما نشكو أصلا من ضعفه في أوساطنا.
ولا شك أن وجود “مؤسسات” للنشاط الثقافي أفضل من غيابها. مضى وقت كانت الأحزاب السياسية ومنابر مرتبطة بها (مجلات، دور نشر..) تسهم في تعميم الثقافة. ومثل ذلك مارسته دول ومنظمات أيام صعود إيديولوجيات العمل، القومية العربية والشيوعية بالخصوص، حتى سبعينات القرن العشرين. وكان الاحتضان “المؤسسي” لمثقفين مقترنا بتصور عملي ونفعي للثقافة، أو تعويل على دور تنويري، وأكثر تثويري، للمثقفين. فالمثقف “مناضل بقلمه” كما غيره مناضل بجهده العملي. هذا هو نموذج “المثقف الثوري”.
اليوم ليس لدينا مؤسسات كهذه، وانهارت الأرضية الفكرية المؤطرة لدور المثقفين كمناضلي تنوير وتثوير. ولم نعد نعول على تأثير مباشر للثقافة. شخصيا لا أعول. تطور لدي بالتدريج تصور مضاد للنفعية و”الالتزام” والتفاؤلية التاريخية. تصور يفيد بأن اليأس جيد من أجل الكتابة، فإن لم يكن الواحد منا يائسا، فعليه أولا أن ييأس ثم يكتب أو يشتغل في الثقافة. لكني لا أتحدث عن يأس انفعالي أو سلبي، ولا عن مجرد يأس من “تأثير” منوّر أو محرر للكتابة، بل بالأحرى عن يأس فاعل، خلاق ومتحرر، ومحرّر أيضا. يأس مما هو واقع ومتاح ويأس من التأثير العاجل.
اليأس من التأثير هو في اعتقادي ضمانة الجذرية في التفكير والنقد. وهذا أجدى ما يكون لعمل أساسي أو تأسيسي، عمل غير موجه، وعابث وفوضوي بمعنى ما، قد يهتدي إلى معان خصبة تؤسس لثقافة جديدة وقد لا يهتدي. هل يمكن لعمل أساسي بهذا المعنى أن يكون في الوقت نفسه مؤسسيا؟ أشك في ذلك، لأنه لو كانت الأطر المؤسسية المتاحة مناسبة أو شغالة لما طرحت المسألة أصلا.
هذا بالطبع وضع هش ماديا ومعنويا، لكنه وضع يدرك هشاشته الجذرية، ولا يركن إلى أي من الأشياء التي تبدو صلبة حولنا. هو وضع بلا حماية كما قلت أنت أيضا. وضع يلقى المقاومة والرفض ليس من السلطات، بل من جميع “المؤسسات” القائمة، وإن على تفاوت بالطبع. لأنه في اعتقادي أكثر جذرية ونقدية وتحررا من تنويعات المواقف التي نعرفها للمثقفين في بلادنا، بما فيها تنويعة المثقف المعارض اليوم و”المثقف الثوري” في وقت سبق. وهنا الراديكالية الحقيقية التي أنا لها على ولاء مقيم.
لذلك لا يبقى معنى ضمن هذا التصور للقول بأن “من المبكر جدا الحديث عن استقلالية الثقافة النقدية ودورها”. فالثقافة النقدية إن لم تكن مستقلة لن تكون. وأول استقلالها، بل تحررها، هو التحرر من مفهوم “الدور”، وما يرتبط به من نضال والتزام وتغيير وتفاؤل تاريخي..
وستكون على حق إن قلت إني لست وفيا تماما لهذا التصور. من ناحية أحمل إرثا “تأثيرياً” لا يسهل علي التخلي عنه، ومن ناحية ثانية لا أزال أريد أن أكون على صلة بـ”مؤسساتنا” المورورثة. لكن “إذا ظلينا طيبين”، آمل أن أشتغل وفقا للخطوط التي أشرت إليها: نقد راديكالي وغير ملتزم، عبثي و”يائس”..
أريد أن أضيف أن اليأس الذي تكلمت عليه نقدي، معترض على أحوال وضيعة ومتفسخة ومفعمة بالأكاذيب. فلا علاقة له بالتشاؤم. حين يطرح سؤال عما إذا كنت متفائلا أم متشائما أفضل القول إني متفاعل. وأكثر ما أتمناه لنفسي هو القدرة عل الاستمرار في العمل في أوضاع سوؤها وحده مرشح للاستمرار.
السؤال الرابع: الإسلام السياسي ظهر في سورية، بعد الصراع الذي شهدته سورية منذ أكثر من عقدين ونصف بين الإخوان المسلمين والسلطة، والذي تبعه بسنوات انهيار السوفييت والمعسكر الشرقي ونتائج ذلك على العالم وسورية، لأنني أعتقد أن الإخوان المسلمين وإن كانوا يتقاطعون مع هذه الظاهرة في بعض من مستوياتها، إلا أنني أعتقد أن ظاهرة الإسلام السياسي، في سورية هي ظاهرة سلطوية بشكل أساسي. ما رأيك؟ الجامع الآن ليس للإخوان المسلمين ولا لبرنامجهم السياسي، الجامع الآن يمتلئ بإسلام سياسي، حل كجزء من بديل ارتجالي غير مؤسسي، لأيديولوجية السلطة المعادية للخارج، والتي باتت تعتمد أكثر على ما يمكننا تسميته، مبدأ الخصوصية الثقافية والقومية والدينية، التي ترفض مبادئ الديمقراطية وتداول السلطة، وهنا سر التقاطع الخطر مع هذه الأيديولوجية التي رعتها السلطة ولازالت ترعاها. هل يمكن أن يستمر شهر العسل هذا بين السلطة ومنتجها، إن وافقتني على هذا التحليل بالطبع؟ إلى أين نسير؟
إذا كنت تعني بالقول إن الإسلام السياسي ظاهرة سلطوية أنه من إنتاج السلطة، كما فهمت من سؤالك، فأنا أظن أن في هذا شيء من التبسيط. بلى، الإسلامية المعاصرة مرتبطة النشوء بتحولات على مستوى السلطة في بلادنا، وليس بروح دينية تنبعث من تلقاء نفسها كطائر الفينيق بين حين وآخر. لكن ليس بتحولات السلطة وحدها. لعلها بالأحرى على صلة وثيقة بتحلل النظام التقليدي في مجتمعاتنا، بما فيه المراتب الاجتماعية والسياسية الموروثة، مشفوعة بأزمة حداثتنا السياسية والاجتماعية والثقافي.
بالتحديد ازداد عسر التماهي بين قطاعات نشطة من مسلمين سنيين من الطبقة الوسطى وبين الدولة والتنظيمات الاجتماعية والسياسية الحديثة، بعد عام 1963 بالخصوص. وهذا ما أثار سخطهم بعد أن ألفوا طوال مئات السنين تماهيا سهلا بينهم وبين الأمة والدولة والمدينة والإسلام ذاته. ألا ترى أنهم حين يتكلمون على “الإسلام” يقصدون أنفسهم؟ لا يزالون عاجزين عن فهم أنهم مسلمون سنة، جزء من “الإسلام” فحسب. وها هي المدينة تخبر انكسار مركزيتها السياسية والاقتصادية والإدارية والدينية، وانتهاك حماها من قبل “أغراب” لطالما كانوا مهمشين ومحتقرين. أما الدولة فلم يعد ممكنا أن تبنى اليوم على مفهوم الأمة الدينية، التي يتماهى فيها المسلمون أكثر من غيرهم، والسنيون دون غيرهم. ويبدو لي أن فكر الإسلاميين وثقافتهم السياسية لا يقودان إلا إلى مفهوم الأمة الدينية، وهو مشروع لا يمكن أن يكون مقبولا اليوم، وبقدر ما يعنيني المرء شخصيا فإني ضده بكل قواي. ويبدو أيضا أن “الإسلام” الذي ينسبون أنفسهم له هو الفكرة- القوة التي تعرف على أمثل وجه الموقع الاحتجاجي الأكثر جذرية وشرعية في الوقت نفسه على تحلل النظام التقليدي وعسر التماهي في النظام الجديد. لا ننس، من جهة أخرى، أن هذا ليس أمة المواطنين أو أمة سياسية حديثة، بقدر ما هو “دولة” بالمعنى العربي القديم للكلمة، يكاد يكون “دورا” لعصبية جديدة في التمكن من السلطة والثروة، الأمر الذي يمنح الاحتجاج عليه قيمة عامة وتحررية، تتعارض مع الوعي الضيق والطائفي للمحتجين على نحو ما شهدنا ذلك قبل نحو 3 عقود. وعلى كل حال اعتقد أن تعريف “الإسلام” للموقع الاحتجاجي الأكثر جذرية وشرعية ربما يسهم في تفسير صعود الإسلامية المناضلة. فقد تكون “سلطة المطلق” التي يستحوذ عليها الإسلاميون هي الأساس الأصلب لمواجهة سلطة مطلقة مثل النظام السوري في الربع الأخير من القرن العشرين. لكن تقدما وتحررنا مرهونان بالأحرى بالانفلات من سياسة المطلق، سواء مطلق القوة المادية أو المطلق الديني.
أما إشاراتك إلى السياسة الدينية للنظام في القسم الثاني من السؤال فأنا على اتفاق عام معها. يبدو أن النظام يرعي انتشار إسلام اجتماعي محافظ في المجتمع، لأسباب متعددة، من بينها كونه ركيزة فكرية لموقف الممانعة والعداء للغرب الذي يوغل فيه في بضع السنوات الأخيرة، ولا تفي بإسناده الإيديولوجية البعثية المتداعية؛ وليس بعيدا عن ذلك إضفاء الشرعية على ما سميته أنت “الخصوصية الثقافية والقومية” التي تحصن رسوخ النظام في السلطة؛ ومنها ربما تسويغ تحالفاته وخياراته الإقليمية؛ ولعل منها أيضا حاجة البرجوازية الجديدة المتكونة في كنف النظام، ولو لم تكن سنية كلها، إلى واجهة فكرية وأخلاقية لا تجدها في غير “الإسلام”. ويجمع بين الطرفين البرجوازي والإسلامي ما أشرت له من عداء للديمقراطية، وتفضيل لـ”الاستقرار”.
يبدو لي كذلك أن الإسلامية المحافظة تستجيب لحاجة فئات من الطبقة الوسطى المدينية السنية إلى الاستحواذ على السياسة أو الدخول إلى المجال العام بطرق غير مباشرة. وربما حين تواتي الفرصة تتحول هذه الفئات إلى السياسة العلنية، وقد يتكشف أنها المجموعات الأحسن تنظيما.
فإذا صح ذلك فقد نكون متجهين نحو نظام سلطاني محدث. هناك من جهة مركز سلطة فوق المجتمع تشغل العصبية فيه دورا مهما، والسلطة فيه تورث؛ وهناك من ناحية أخرى مجتمع منتظم ملليا، تنحصر السياسة فيه في الجماعات الدينية والمذهبية القائمة. إنه مجتمع طائفي بكل معنى الكلمة. والخوف الكبير في مثل هذا النظام هو الخوف الذي يلازم النظم السلطانية: الخوف من الفتنة أو تفجر الصراع الاجتماعي على شكل نزاع طائفي. ولا ينقص النظام منذ الآن فقهاؤه ومثقفيه الذين يفضلون ظلما يدوم على فتنة تقوم، أو الاستقرار على الانفجار.
السؤال الخامس: وهذا يقودنا للحديث، عن نقطة هي على غاية من الخطورة، إذا كان الإخوان المسلمين الآن في صيرورة تغير برنامجي مفتوح على آفاق أكثر مدنية وديمقراطية، أقله هذا ما يعلنون عنه، وما يأتي عبر تصريحات قادتهم ومثقفيهم، فإن الإسلام السياسي الذي شرعت له السلطة شفاها، كعادتها! هو إسلام متشدد، و طائفي! هذا ما أراه أنا على الأقل، لأنه لا يمكن أن يكون غير ذلك! لأنه إسلاما ينظر للخارج كحالة تكفيرية، ويكفر غيره في الداخل، حتى المسلم نفسه، وظاهرة القبيسيات مجتمعة مع صور نصر الله، مع غض الطرف عن ظاهرة التشيع الإيرانية، إنه خلط للأوراق، يحاول صياغة المجتمع كمجتمع ارتجالي وغير متماسك، وتعتريه مقومات البعثرة في أية لحظة؟ كيف ترى هذا الأمر؟
كأنك تعني بالإسلام السياسي شيئا غير الإخوان والتنظيمات الإسلامية الأخرى. لا أرى في هذه الحالة سبب استخدامك التعبير بمعنى غير معناه الشائع.
على كل حال، أخشى أنني لا أشاركك الرأي. تطور موقفي باتجاه أشد تحفظا حيال الإخوان مع تنامي اهتمامي بالأساسي أو الثقافي التأسيسي، وانزواء السياسي فيه. وأنا لا أؤخذ بالتصريحات والنيات المعلنة رغم أني لا سياسي. تهمني أكثر “نيات المرجعية”، أي “الإشكاليات” التي يواليها الإخوان وغيرهم. وهي نيات تحيل عند الإخوان إلى مفهوم الأمة الإسلامية، ولا تقبل بمبدأ حرية الاعتقاد. أنت على علم بلا شك بسجالات وقعت بيني وبين مقربين من الإخوان السوريين. واضح أنهم غير مستعدين للقبول بصورة متسقة بمبدأ حرية الاعتقاد الديني، بما فيه حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد. وهذا مبدأ معياري وحاسم في تصوري، وما من “آفاق أكثر مدنية وديمقراطية” دون الإقرار به.
أما الإسلام الذي ترعاه السلطة فهو إسلام اجتماعي وثقافي محافظ، وبرجوازي في الغالب. وهو ليس تكفيريا نشطا، إنه بالأحرى نوع من الأخلاقية المناسبة لبرجوازية تريد أن تشعر براحة الضمير على ما تحقق لها من دخل وإمكانيات مريحة. إن تدينها هو “ضريبة” تدفعها عن ثروتها. فبالشكر تدوم النعم. وفي حدود علمي فإن القبيسيات يُعْلين من قيم المرتبة الاجتماعية والاحترام والكفاءة العملية والإنجاز والانضباط الجنسي، وهذه مبادئ أخلاقية “برجوازية” بأدق معنى للكلمة. وسيرتاح رجل ميسور إلى زوجة من هذا النوع، قوية الشخصية وكفؤة، ولن ترضى سيدة كهذه بزوج لا يكون “مقتدرا”.
هذا “إسلام غير سياسي” بالمعنى الذاتي والمباشر للكلمة، لكنه بالطبع سياسي بمعنى استدلالي، أي هو كما قلت قبل قليل محاولة للاستحواذ على السياسية بتوسل الدين.
هل هو إسلام طائفي؟ نعم ولا. نعم بمعنى أنه يفكر كثيرا في “أصل” المرء و”فصله”، ونسبه وعشيرته وأسرته و”دينه”. ولا بمعنى أن مفهومه للطائفة هنا مفهوم طبقي إن صح التعبير. إن الناس المقبولين في هذه البيئة هم ذوو الأحساب والمكانة وليس بالضرورة المنتمين إلى ديننا أو مذهبنا. ويرتاح المتدين المسلم أو المسيحي لمتدين من مسيحي أو مسلم لأنه ذو دين واضح ومعروف، وقد لا يرتاح لمن هو من أصول علوية أو غيرها لغموض دينه، وليس لأنه ضد العلويين… فإن كان من أسرة مرموقة فهذا يعوض بعض الشيء عن التباس هويته الدينية. هذه انطباعاتي التي أظنها تحتاج إلى كثير من التدقيق.
السؤال السادس: وكي ننهي الأسئلة المتعلقة بهذا الجانب، ألا تعتقد أنه في ظل هذا المناخ مضافا إليه القانون 49 والقاضي بإعدام أي منتم لجماعة الأخوان المسلمين، يجعل الخطوة الإخوانية المطلوبة أقله مرحليا، في تبني ما يشبه النموذج التركي أمرا يعد قفزة في الفراغ، يخسرون من قاعدتهم الموجودة أكثر مما يربحون، أو هكذا أفهم من مداولات بعضهم؟ أليس تبني النموذج التركي بحاجة إلى فضاء ديمقراطي؟
لا أرى أين العلاقة بين القانون 49 والتحول نحو نموذج حزب العدالة والتنمية التركي. أو لنقل إني أرفض أن أراها. فلنخرج قليلا من منطق الحساب السياسي الصغير والضيق. القانون المذكور مرفوض أخلاقيا وسياسيا ووطنيا، لكن الإخوان مطالبون بمراجعة فكرية عميقة، ما من شيء يبرر انتظار إلغاء القانون إياه للتفكير بإجرائها. أشرت قبلا إلى مفهوم الأمة وإلى حرية الاعتقاد الديني. ليست هذه مطالبة علمانيين أو مطالبة النظام أو مطالبة جماعات دينية ومذهبية أخرى في سورية، بل هي أولا وأساسا مطالبة موضوعية تنبثق من مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، دولة المواطنين المتساويين. هل سيخسرون قاعدتهم الاجتماعية إن انفتحوا فكريا بينما هم ضحية انغلاق النظام اليوم؟ نعم على الأرجح. لكن لماذا قد يبادر النظام إلى إلغاء القانون 49 بينما النموذج الضمني للإخوان هو دولة مسلمة سنية؟ أنت تعرف موقفي من النظام، وتعرف أنه ليس موقفا مجردا وقلبيا فحسب، وأني لا أنفك أعبر عنه، لكن من أجل السياسة بالذات يلزم أن نخرج من السياسة أحيانا. لا أستطيع أن أرفض ظلما، الظلم الذي تعرض له الإسلاميون، بينما أغمض عيني عن ظلم محتمل لا أرى لدى الإسلاميين الشجاعة للتنزه عنه. أعني بناء نظام بعثي جديد على أرضية إسلامية. هذا هو نموذجهم لا أكثر ولا أقل.
أنا شريك للإسلاميين في الاحتجاج على أوضاع جائرة. هذا هو كل شيء. عدا ذلك أنا على خصومة جذرية معهم. هم ليسوا متسقين في رفض الظلم. العدل ليس قيمة أولية عندهم. ولا الحرية. القيمة الأولية والعليا هم الإيمان على طريقتهم، أي الإسلام السني، مع شيء من نظرية الحاكمية ومع جرعة من القرضاوي…لا شيء يجذبني في ذلك. وإذا كان النضال متاحا ضدهم كحاكمين محتملين، ولو بدرجة ما هو متاح في ظل النظام البعثي، فإن موقعي محجوز فيه منذ الآن.
وهم ليسوا مدعوين لتبني أي نموذج جاهز، تركي أو غير تركي. لكن حرية الاعتقاد ليست موضع تفاوض. قد يستطيعون سحقنا، لكنهم لا يستطيعون سحق هذا المبدأ. والسعي إلى إقامة أمة إسلامية في سورية هو في رأيي وصفة للحرب الأهلية. هل يدركون ذلك؟ وهل هم قادرون على البناء عليه إن أدركوه؟ لا أعرف. لكن مرة أخرى أقول إن نيات المرجعيات أهم من التصريحات والنيات الذاتية. ونيات المرجعية، أي منطق الإشكالية، ليست مما يطمئن.
هل يحتاج تحول فكري في اتجاه أكثر توافقا مع الدولة الأمة الحديثة مناخا ديمقراطيا كما تقول؟ هذا يحيل إلى مسألة قديمة جديدة: من يصلح المصلحين؟ هل يسبق الإصلاح المصلحين، أم المصلحون الإصلاح؟ هل الديمقراطية تسبق الوعي والآليات الديمقراطية، أم أن تكون قوى ديمقراطية أصيلة يتقدم على الديمقراطية؟ أنا أرى أنه يسبق الاثنين شغل ثقافي أساسي يطور تصورا جديدا ومتسقا للصلاح. فإذا التقى هذه المفهوم ذات يوم بحركة اجتماعية أضفى على تصورها لنفسها ولمصالحها قيمة عامة، فتحولت بالنتيجة إلى قوة مهيمنة وقائدة لتحولات إصلاحية كبرى.
السؤال السابع: من الواضح لي أنك لا تتعامل مع العلمانية بمدرسية، تجعل منها حالة جهادية ذات أصنام، ورمزيات تريد تأطير الواقع بكل حركيته في مقولاتها الجاهزة، أو هكذا ألمح في نقدك لما أسميته العلمانية المطلقة، ألا ترى أن من حق التيارات العلمانية، أن تساهم ولو من باب المحاولة في تأطير هذا الواقع ضمن مقولاتها، لأنها تعتبر هذا جهادا من نوع خاص- المفكر جورج طرابيشي مثالا؟ لن أقف عند المشهد النظري، ولا عند تعميميته العربية، أكتفي بسوريا: نستطيع القول أنك مع تجسير الهوة بين العلمانية والإسلام المنفتح- التعايش المواطني- وأنا هنا لا أتحدث عن تحالفات سياسية مجانية أحيانا وهشة أحيانا أخرى، بل أتحدث عن تجسير هوة معرفية وثقافية وفكرية تفصل بين التيارين، فأين هو التيار الإسلامي المنفتح الذي يمكن لنا تجسير الهوة المعرفية هذه معه؟ أم أنك توافقني الرأي أن محور العلمانية يدور حول محور السلطة وغياب الديمقراطية؟
لا يعنيني تجسير أية هوة. اكتفي بالمساهمة في خفض الأسوار بين أنصار تيارات فكرية متعارضة، أو عدم المساهمة في رفعها على الأقل. في تصوري أن العمل العام، والثقافي منه أكثر من السياسي، فعل ودي، فعل كرم وسخاء وانفتاح نفسي. أكاد أقول إنه فعل محبة. للأسف يلحظ المهتم في أوساط ناشطي الثقافة عندنا فائضا من الكراهية والضغينة غير مقبول. ورأيي أنه ليس هناك فكرة في العالم أو قيمة أو قضية تبيح هذا الفائض القبيح. بل إني أجزم أن قضايانا تتبهدل وتخسر سمعتها بسبب ضيق صدور وعصبية دعاتها وانخراطهم الدائم في حروب المكانة والوجاهة والهيبة، أي ببساطة السلطة. نحن ننتقد الإسلام المعاصر بسبب هزال البعد الروحي فيه. لكن النقد هذا لن يخلف أي أثر إن لم يمازجه شيء كرم الروح والحس الإنساني. هذا مفتقد إلى حد كبير في الممارسة الفكرية السورية. وهو يقدم تفسيرا جزئيا في رأيي لعقم العلمانية في صيغتها الدوغمائية الرائجة.
لكن إن كان التجسير بين تيارات فكرية لا يعنيني فإن هناك نوع من التجسير، وإن شئت التوفيق، يهمني أمره: التوفيق بين الناس. فبينما لا معنى للتوفيق بين العلمانية و”الإسلام”، فإن التوفيق والثقة والتقارب بين علمانيين وإسلاميين أمر محمود، وهو شرط لحسن الاختلاف والخصومة الجيدة التي لا أرى سببا لتحولها إلى عداوة وتكفير وتسفيه كما هو شائع أيضا في أوساطنا. أو لنقل هنا أيضا إني أرى السبب، لكن لا أراه مقبولا. والسبب في تقديري هو استبداد مطلب الهوية الإيديولوجية ومقتضيات بناء الطرف أو المعسكر أو العصبية بهمة من يفترض أنهم مثقفون عقلانيون ونقديون، معنيون بخرق الهويات وإدخال التعدد إلى المعسكرات الموحدة وتفكيك العصبيات. العداوة تتيح بناء هوية أشد وضوحا من الخصومة العادية التي تعني خفضا للأسوار وبناء للجسور، إن أحببت، وفتحا للحدود. وأصل العداوات ذاتها هو حدة الصراع الإيديولوجي على مستقبل مجتمعنا وسط شعور شائع بأن الأحوال الراهنة آيلة إلى تغير محتوم. والصراع الإيديولوجي هنا صراع سياسي محجّب بسبب الحظر على السياسة المفروض في سورية..
من جهتي لا أرفض التكفير الإسلامي لأنه إسلامي، بل لأنه تكفير. ولذلك لا أنتقده كرمى لعيون تكفير وتكفيريين آخرين. القول إن “التكفير العلماني” محدود وغير منتشر قياسا إلى التكفير الإسلامي على نحو ما فعل داعي مستجد، وهو قول صحيح، يذكر بنكتة يرويها ماركس في “الرأسمال”: أنجبت فتاة شابة طفلا غير شرعي، ولتبرير فعلتها قالت إنه صغير جدا! ما لا يدركه هذا المنطق التبريري أنه حين يكفِّر إسلامي أصولي مختلفين عنه ومعه فإن هذا ينبع من هويته أو مفهومه لنفسه؛ بينما إذا قام علماني بتكفير خصوم له، إسلاميين أو غيرهم، فإنه يقوض مفهوم العلمانية ذاته. وكما تعرف يأخذ التكفير العلماني شكل تسفيه عدواني أو إخراج من العقل أو من العصر.
أضيف أني لم أنتقد العلمانية الجهادية والتكفير العلماني أبدا إلا من وجهة نظر علمانية، أي لأنهما أوصلتا العلمانية إلى طريق مسدود، وردتاها إلى مذهبية تعبوية ساخطة وفقيرة. شعاري في هذا الشأن هو “العلمانية أهم من أن تترك للعلمانويين”. لقد وجهت نقدا علمانيا لعلمانية وصفتها بأنها علمانية مطلقة أو علمانوية، أي عقيدة مغلقة، يبدو أقصى طموحها أن تتحول إلى دوغما نضالية لها وجهاؤها، ويردد أتباعها كلهم الكلام ذاته. وهذا لا يتيح ممارسة فكرية متحررة ونقدية ومنتجة.
وأظن أن قلة المساهمات الأصيلة منذ أكثر من عقد ونصف في شأن العلاقة بين الديني والسياسي ليس منفصلا عن “تحزيب” العلمانية أو تحويلها إلى مذهبية جديدة تحل محل الماركسية أو القومية العربية، أو ..الإسلامية. وهو من جانب آخر غير منفصل عن مفهوم للثقافة منتشر بيننا، عند “العلمانيين المطلقين” أكثر من غيره، يجعل من الثقافة شرحا شحيحا للعالم لا انشراحا للعالم، تنويرا فوقيا لا استنارة. لا أفهم كيف نبسط الأشياء بينما صدورنا منقبضة ونفوسنا حامضة إلى هذا الحد؟ ولا أرى من أين لأرواح معتمة أن تنير ما حولها؟
هذا نقد يتجاوز بلا شك العلمانية الجهادية أو الجهادية العلمانية ليطل على تيارات إيديولوجية مختلفة في الثقافة العربية المعاصرة، لكن يبدو أن هذه هي اليوم الإيديولوجية الأكثر استقبالا لمحترفي السخط واحتفالا بهم.
وما قيل عن التكفير يصح أن يقال عن الجهادية أيضا. فالموقف المتسق هو أن نعترض على الجهادية الإسلامية لأنها جهادية، أي مزيج من تعصب ويقين مفرط وتكفير ونزوع نحو العنف، لا لأنها إسلامية فحسب.
كل هذا يجعل التساؤل عن “تيار إسلامي منفتح” يجري “تجسير الهوة المعرفية” معه نافلا. فأنت مدعو إلى نقد متسق للإسلامية ودعاتها، سواء كانوا منفتحين أم منغلقين. رفض التكفيرية العلمانية ليس شيئا تفعله من أجل الإسلاميين أو كيدا بأصناف من العلمانيين، بل من أجلك أنت ومن أجل استنارتك أنت وسداد تفكيرك. هذا الرفض هو ما يجعلك علمانيا متسقا وليس هو ما يخرجك من العلمانية.
لعله يخرجك من “الطائفة العلمانية”؟ بلى؛ لكن أليس الخروج من الطوائف هو ما يحدد هوية العلماني؟
ولا أوافقك الرأي على أن العلمانية تدور حول محور السلطة وغياب الديمقراطية. كما لا أوافق على رأي معاكس قد ينص على أن الديمقراطية تدور حول محور الدين وغياب العلمانية، أو يقرر أن العلمانية هي شرط الديمقراطية. هذه اختزالات تناسب بناء الهويات والمعسكرات والعصبيات، وربما تناسب الفاعلية السياسية بالمعنى الضيق و”الفعلجي” للكلمة، لكنها لا تفيد في بناء مفهوم واضح للعلمانية ولا للديمقراطية، ولا في صوغ سياسات علمانية وديمقراطية. وتصوري أن لدينا مشكلة في الدين لا يصح اختزالها في الأصولية الإسلامية، ولدينا مشكلة في الدولة لا يستنفدها الكلام على الاستبداد (اسمح لي أن أحيل هنا إلى مقالة لي بعنوان “في نقد الديمقراطية والعلمانية، أو مشكلتا الدين والدولة”). هذا يحثنا على انكباب على التفكير الأساسي أو النظري في هذه القضايا.
على الفلسفة أيضا. الفلسفة في وصفها تفكير نقدي لا يرتاح إن لم يزعج ويغضب كل سلطة أو مؤسسة أو عقيدة مستقرة، التفكير الذي يلحق الأذى بالغباء على قول جيل دولوز. هذا ما قد يناسب لتأسيس جديد، ربما ينازع الدين سلطته المعرفية والأخلاقية. بفكر تعبوي ودعوي فقير لن تعجز عن مناطحة الدين فقط، بل ستسهم في تجديد شباب نمط تفكيره المتقادم.
يبقى أن أقول أني لا أجادل في “حق التيارات العلمانية أن تساهم ولو من باب المحاولة، في تأطير الواقع ضمن مقولاتها، لأنها تعتبر هذا جهادا من نوع خاص” حسب تعبيرك، كما أني لا أجادل في حق الإسلاميين في العمل على سيادة الشريعة الإسلامية، على نحو ما أخذ علي ناشط وكاتب إخواني سوري (الطاهر إبراهيم). لأي كان أن يفعل ما يشاء في مجال الفكر والثقافة، لكن بأدوات الفكر والثقافة، أي النقاش والبرهان. غير أن نقاشنا كله هو حول “الحقيقة” وليس الحق. فهل “يتأطر الواقع” ضمن مقولات “الجهاد من نوع خاص” العلماني، أو الجهاد الشرعي الخاص بالإسلاميين؟ أي هل يتيح لنا الجهاد الدنيوي تحليلا أصوب لواقعنا وصوغ السياسات النازعة للطائفية والضامنة للمواطنة المفترضة؟ أم تراه لا يعدو تعبيرا جديدا عن حاجة اعتقادية لم تعد تلبيها مذاهب سبقتها، أي أنه في الواقع اقرب إلى الدين مما يفضل أن يعتقد؟ هذا هو السؤال.
وجوابي أن العلمانية معرفة كجهاد دنيوي، أي كعقيدة أو أسطورة سياسية، ليست “هي الحل”. ليس فقط لأنه ليس ثمة “حل” إلا بقدر ما ثمة إكسير، وإنما لأني ألحظ أن هناك ضربا غريبا من ضروب تضييق التحليل عند العلمانيين المذهبيين، يثبت نظره على الدين والدينيين فحسب، مغفلا السياق الاجتماعي والتاريخي، والشروط الاقتصادية، وبالخصوص بنى السلطة والسياسة. أنا عاجز عن فهم كيف نأمل بفصل الدين عن الدولة دون أن نهتم ببنية الدولة وتكوينها وشرعيتها. لذلك لا مناص في اعتقادي من إصلاح العلمانية، والانتباه بالخصوص إلى أنها رأي في الدولة قبل أن تكون رأيا في الدين، على نحو ما يقول جون مالينيون.
والواقع أن العلمانية، عندنا وعند غيرنا، سياسية جدا. كيف يمكنها ألا تكون كذلك ما دامت معنية باللاقة بين الدين والدولة؟ ولا تظلم إلا نفسها العلمانية المذهبية حين تتكتم على صفتها السياسية وتغفل عن نمط ممارسة السلطة. الاعتراف بالصفة السياسية لكل علمانية يفرض حتما كلاما في الدولة والهياكل السياسية والطبقات والإيديولوجيات والأحزاب والطوائف وما إلى ذلك. فإذا أسدلت ستارا من الصمت على عناصر في صميم موضوعك فإن كلامك يرتد إلى إيديولوجية، إلى حجاب للواقع. انظر إلى نصوص مذهبيي العلمانية المكرسين: إنها كلام في السياسة يجتهد في حجب وجهه. لكن الهرب من السياسة يجعل العلمانية عرضة للتسييس، أي للتلاعب بها لأغراض تخص اللاعبين. فالتسييس سياسة “بالورب”، سياسة مخاتلة لا تقر أنها سياسة.
لماذا ينزع العلماني المتوسط عندنا إلى تعريف العلمانية بدلالة الدين حصرا؟ لأن سياسته تقتضي ذلك. لماذا يسكت المفكر العلماني، من يفترض انه العلماني المعياري، على ذلك؟ ربما أيضا لأن سياسته تقتضي ذلك. أو، وهذا هو الشيء نفسه، لأن دواعي بناء “عصبية علمانية” تقتضيه.
وفضلا عن التضييق الفكري ألمس عند العلمانيين النمطيين ضيقا نفسيا أو انقباض صدر كما قلت فوق. وقد يكون أصله متصلا بالتضييق الفكري الذي تكلمت عليه للتو. فإذا كنت تعرف العلمانية بدلالة الإسلام والإسلاميين حصرا، أو الدين فحسب، فمن المحتمل أن حساسيتك المفرطة للشأن الديني ستدفعك إلى المبالغة في شأن قوة وشمول حضور الدين، وإلى الاعتقاد بأن عموم الناس متشددون دينيا وأقرب إلى الإسلاميين. وما قد يترتب على هذا الافتراض من شعور بالعزلة والحصار هو، إذاً، ما يبعث الانقباض في النفس. لكن لا العلمانية مسألة دين ومتدينين فقط، ولا عامة الناس مع الإسلاميين في رأيي، وإن كانت أكثريتهم مؤمنون ومتدينون.
من جهتي أسلّم بأن الناس عندنا كما عند غيرنا عقلانيون، وأنهم يختارون دوما ما هو أنسب لهم ضمن المعطيات الاجتماعية والثقافية المتاحة. قد يبدو لك أو لي أن خياراتهم وتفضيلاتهم غير عقلانية، لكن الأرجح أن عقلانيتنا نحن مجردة وشكلية منفصلة عن المعطيات الواقعية التي يعيش فيها المعنيون، و/ أو أنه لم يتح لأكثر الناس الانتظام والعمل، والأمل، في إطار عقلانية مختلفة، أعلى اتساقا. أسلم أيضا أنه إن أتيح لهم إطار حياتي أكثر عقلانية يلبي مصالحهم المشروعة، بما فيه المصالح المعنوية والرمزية، فلن تحول دون انتظامهم وفقا له نزعات لا عقلانية أو تعصبية ينزع بعضنا إلى نسبتها لهم. هذه المسلمات عقلانية هي ذاتها، لأن العقلانية مبنية على افتراض تساوي الناس في العقل وتنكر وجود طبائع إنسانية فاسدة أو لاعقلانية، محمولة على الدين أو الثقافة أو اللغة أو العرق أو اللون أو الجنس.
والقصد من ذلك أنه حتى إن صح أن أكثرية الناس عندنا مع الإسلاميين، وهو ما أشك فيه، فإن ثمة أسباب معقولة لذلك يتعين استخلاصها من أجل تطوير عقلانية أرقى، أو مصالحة العقل والشعب. والسياسة الناجعة في مثل هذه الحالة هي تحويل الشروط الاجتماعية والسياسية والتعليمية والاقتصادية.. من أجل أن يتوافق إدراك الناس لصوالحهم مع عقلانية عليا متسقة، أي انضباط العقلانية العرفية العامة بقواعد مطردة وقوانين منتظمة.
أما إنكار العقلانية المبدئية لعموم الناس فيقترن نسقيا بتفسير نظري لصعود الإسلامية يركز على مؤامرات وخطط وأحلاف لجهات خفية أو معلنة معادية، ومن الطبيعي أن يزكي سياسة عملية حيال الإسلاميين تقوم على الاستئصال العنيف والدموي.
السؤال الثامن: يرى فيما يرى المفكر جورج طرابيشي، أن الطائفية هي داء إسلامي- إسلامي، ويجب حله انطلاقا من هذه المعادلة، وكأن كل الدول العربية تعاني من هذا الداء. وهذا لمسته عندك أيضا، في قراءتك للمسألة الطائفية، أو ما يمكننا تسميته، التطييف السياسي، والذي من شأنه أن يحول المختلفين إلى طوائف، وأعطيت أنت أكثر من مثال، ولم أوافقك حينها، بصراحة إن كنت اختلف مع مفكرنا القدير، حيث أن الأمر يبدو إسلاميا فقط، بمعزل عن بؤرة الحدث الأساسي: السلطة. ولكن في المقابل ألمح عندك تطييفا بنيويا لما أسميه خلافات طبيعية، في مجتمعات عربية شبه مفتوحة، كالمغرب، لكونه أتى في أحد أمثلتك، حيث تعزل تاريخية الظاهرة في كل بلد على حدة، وتتعمم في سياق مصفوفة واحدة، كله عند العرب طوائف! وهذا ليس صحيحا. مع ذلك لنبق في سورية هل الطائفية هي داء إسلامي- إسلامي؟
الأرجح أن طرابيشي يعني أن العلمانية ليست محض إشكالية إسلامية مسيحية على نحو ما شاع التصور في “عصر النهضة” وما بعده، أو ربما منذ عصر التنظيمات العثمانية، وإن بلغة مختلفة وقتها، وإنما هي تستوعب أيضا المشكلات المتفجرة بين جماعات إسلامية، على نحو ما نشهد ونشاهد في السنوات الأخيرة في العراق، وفي لبنان. فإذا كانت العلمانية حلا للتوترات المحتملة بين مسلمين ومسيحيين، فإنها بالمثل حل لأية توترات تنشب بين سنيين وشيعة أو سنيين وعلويين إلخ. أرجح أن هذا هو مقصده. لكن هذا بديهي، يقرره كثيرون في سورية والعراق ولبنان، ولا يكفون عن قوله. ما يحتاج إلى إثبات هو أن العلمانية تعالج وتحل المشكلات الطائفية. لكن طرابيشي يصادر على ذلك ولا يثبته. ويبدو لي أن نصه المقصود مبني على قياس صوري، يسير كالتالي: العلمانية هي الحل لأية مشكلات طائفية محتملة؛ لدينا مشكلات طائفية؛ إذن العلمانية هي الحل… لقد تركت “المقدمة الكبرى” دون برهان.
قد يُسأل في هذا المقام، لماذا لا يكون “الإسلام” هو الحل للمنازعات بين جماعات إسلامية؟ بكل بساطة لأن مفهوم “الأمة الإسلامية” غدا من الماضي، ولم يعد يحوز أية طاقة توحيدية أو مساواتية. ولا يعدو دوره اليوم سلم صعود سياسي لمجموعات إسلامية طامحة إلى السلطة. وبحدود ما أتبين فإن من يطرحون هذا المفهوم يقصرونه على المسلمين السنيين، وقد يوسعونه ليشمل المسلمين الشيعة. يبقى العلويون والدروز والاسماعيليون.. خارج الأمة. أسوق هذا الكلام لأقول إن ما يمكن أن يضع الصراعات الطائفية في مجتمعاتنا في أفق الحل هو بناء أمة المواطنين المتساوين. وأتصور هذه حركة اجتماعية ناهضة ينبثق مفهوم لا ديني للأمة من تكوينها بالذات. إنها ليست تيارا أو حزبا يعتنق فكرة برانية عنه، أو “ينقل إليها الوعي” العلماني من الخارج على غرار الحزب اللينيني، بل إن تكونها ذاته يحمل حلا للتمايزات الديني والمذهبية. ومن هذا المنظور تكون العلمنة ومعالجة المشكلات الطائفية، بين مذاهب إسلامية أو بين مسلمين ومسيحيين..، محصلة لعملية بناء الأمة. وقد كان ما في دولنا الحديثة من علمانية محصلة لحقيقة أن الحركة القومية العربية في البلدان المشرقية تصورت الأمة عربية، أي جامعة لمسلمين ومسيحيين، ولسنيين وشيعة وعلويين ودروزا واسماعيليين..تكونها متأثرة بالحداثة الغربية وفي مواجهة السلطنة العثمانية جعلها حاملة لهذا التصور. لماذا لم تكتمل هذه العملية؟ بسبب ضعف الأساس الفكري للحركة القومية العربية من جهة؛ ومن جهة أخرى افتقار تفكير القوميين إلى إطار تراكم واقعي بسبب انفصام الأمة بالمعنى السياسي (دولنا القائمة) عن الأمة بالمعنى الثقافي، أي الأمة العربية التي انشغل بها القوميون العرب؛ ومن جهة ثالثة تعثر التحديث الاقتصادي والاجتماعي وانقطاعه على يد الأطقم الشعبوية التي تغذى صعودها من شروط عسيرة، اجتماعية (المسألة الفلاحية والفجوة الهائلة بين المدنية والريف) وجيوسياسية (إسرائيل والحرب الباردة..) وثقافية (إحياء للغة والثقافة العربية ركز على الفتوحات والسلطة والشعر..). ستهتم الأطقم الشعبوية تلك أولا بتركيز سلطتها، فتعمل على ضرب أشكال الانتظام الاجتماعي المدنية المستقلة التي قد تشكل تهديدا للسلطة هذه، كالأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات الطلابية والمنظمات النسوية والشبابية، بينما سنرى الحكام الشعبويين المتأخرين، في سورية والعراق مثلا، يستقبلون زعماء العشائر وأرباب الشعائر الدينية ومشايخ الطوائف. أي أن الدولة هذه لا تتصرف كدولة قومية (أو وطنية) تحديثية، بل كسلطة محض، تحركها غريزة بقاء نامية جدا، لا تكف عن تفكيك كل انتظام اجتماعي مستقل عنها.
لقد كانت التنظيمات الشيوعية، مثلا، تتيح التقاء عرب وأكراد وأرمن.. في صفوفها، ومسلمين ومسيحيين..، وسنيين وعلويين ودروزا..، ورجالا ونساء؛ حين تحطم هذه الأحزاب فإنك تحرم المجتمع من وسيلة ابتكرها أو أتيحت له كي يتجاوز انقساماته العمودية. وإذ تنفرط التنظيمات هذه فإن الناس سينزعون إلى تعريف أنفسهم بأصولهم لا بمشاريعهم، أي بالدين والطائفة والعشيرة وما إليها. وهكذا ترى أن مقتضيات بقاء السلطة تتعارض هنا مع مقتضيات الاندماج الوطني. ولا أرى كيف تنفع وصفة طرابيشي هنا، اللهم إلا إذا عرفنا العلمانية بأنها هي الحل لمشكلات الطائفية على نحو ما يقرر هو فعلا. لكن هذا التفاف صوري على المشكلة بدلا إضاءتها ومعالجتها. وهو تبسيط مذهبي مناسب لتعبئة أنصار لا لبناء وطنية عصرية. نحن نتحدث ضمن سياقات اجتماعية وتاريخية نعيش فيها لا ضمن عالم المثل الساكنة. وضمن هذه السياقات المسألة الطائفية أعقد بكثير. وهي في تصوري تقتضي عملية تنمية يستفيد منه أكثرية السكان وحركة بناء وطني ناهضة. والرؤية الإجمالية التي أنحاز لها من أجل تجاوز الأوضاع الطائفية تحيل إلى شراكة مبدئية في السلطة وفي التنمية بين السكان دون أي استبعاد على أساس أهلي أو جهوي، وجهد تربوي وثقافي وإعلامي يهدف إلى بناء تمثيلات إيجابية عند السكان على اختلاف أصولهم عن بعضهم، وذلك في إطار استثمار مادي ومعنوي في الوطنية السورية الديمقراطية.
أيا يكن، فإني أرى أن العلمنة ومعالجة المشكلات الطائفية نتاجان لشيء مختلف عنهما معا، بناء الأمة، وليست الثانية نتاجا للأولى وفقا لتصور رائج وتبسيطي…
ورأيي أنك أنت تبالغ في الجهة المعاكسة، أعني مركزية مطلقة لدور النظام عندنا. هذا يصلح تحريضا، لكنه لا يصلح تحليلا. بلى، النظام في سورية وفي بلاد عربية أخرى يشغل بلا منافس الموقع الذي يمكنها من التأثير إيجابا على مسارات بلداننا، لكن أخشى أننا بالتركيز المفرط عليه نلعب لعبته، فنعمى عن مشكلات أخر ستواجهنا من كل بد إن زالت النظم الحاكمة، مشكلات اجتماعية وثقافية وقانونية واقتصادية واستراتيجية.. وتاليا ستكون الفرصة كبيرة جدا لأن تحل محل السلطة القائمة سلطة تشبهها تماما.
أنا ممن يعتقدون أن المشكلات الطائفية هي من أخطر ما تواجهه مجتمعاتنا. وفي السنوات الأخيرة كتبت نحو عشرين مقالة أو أكثر في هذا الشأن. أرفض بكل قوة موقف التعفف الذي يمارسه كثيرون بيننا حيال هذا المشكلات. فمن خلال الانكباب على التفكير في الطائفية والكتابة عنها يمكن للمرء أن يطور أدوات نظرية لمقاربتها، وربما رؤى وخططا عملية لمعالجتها. هذا يقتضي بلا شك التحلل مما يسميه صادق جلال العظم “ذهنية التحريم” التي تحيط بتناولها. وملاحظتي المطردة أن المتعففين عن مقاربة الطائفية بالتحليل يقولون كلاما طائفيا فجا حين يضطرون إلى الكلام عليها. هذا لأنهم حرموا أنفسهم من التدرب على مقاربتها وإنضاج أدوات نظرية، وربما خطط عملية، للتعامل معها. والمغزى الأبسط لذلك أن التحرر من الطائفية يمر حتما عبر التفكير بها وتسليط الضوء عليها وكشف منطقها ورهاناتها..، أي باختصار تحويلها إلى موضوع وتطوير معرفة علمية بها. وبالعكس من شأن كبتها، سواء تحت طبقات من الكلام الشيوعي أو القومي أو الوطني أو العلماني، أن يبقيها حية في أعماق النفوس، متدخلة في تشكيل ذواتنا، فلا تلبث أن تطل برأسها حين تترقق طبقات الكبت هذه لسبب ما.
وتصوري أن الطائفية ليست حصيلة حتمية لوجود “طوائف”، أي تمايزات دينية ومذهبية في المجتمع المعني. إنها بالأحرى خصيصة للحقل السياسي في هذا المجتمع. نتكلم على طائفية حين تشحن الانقسامات والصراعات السياسية بقيم ثقافية مكثفة، فتتحول من صراعات نسبية وموضعية تقبل التسوية، إلى صراعات “ثقافية” أو “حضارية” أو دينية تتعذر تسويتها. مثال ذلك الصراع بين حماس وفتح، رغم كون أكثر الفتحاويين مسلمين سنيين كالحمساويين؛ ومثاله أيضا الصراع بين فرانكوفونيين وعروبيين في بلدان المغرب. أما الصراع الطائفي في العراق مثلا، وقبله في لبنان، فهو بدوره صراع سياسي على السلطة والثورة والنفوذ، يستنفر تمايزات أهلية مورورثة وقد يسبغ عليها قيما ثقافية حديثة، كالاستقلال أو الديمقراطية أو المساواة. لكن لا يكفي وجود التمايزات هذه كي يكون الصراع طائفيا.
رأيي أيضا أن “الطوائف” ذاتها، وليست الطائفية وحدها، عمليات صنعية وليست جواهر ثقافية أو دينية أو معطيات طبيعية. بل إن النتاج النوعي للطائفية هي الطوائف بالذات. وصناعة الطوائف عملية صراعية، داخل الجماعات الأهلية التي تتعرض للتطييف وفيما بينها، تبتغي منها نخب سياسية أن تحتل مراتب القيادة وتحوز مواقع امتيازية من أجل النفاذ إلى السلطة والثروة. وأضيف أن نظمنا المشرقية، ومنها سورية، متمركزة حول السلطة وليس حول الطائفة، وأن الطائفية استراتيجية سيطرة سياسية…
وعلى عكس ما تقول أنت، هذه المقاربة التي ترى أن الطوائف نتاج عمليات تطييف يحفزها اتنزاع على السلطة والثروة والنفوذ..، هي التي تجعل من الطائفية ظاهرة تاريخية، وهي التي توفر نقدا جذريا لاعتبار الطائفية ظاهرة طبيعية في مجتمعاتنا.
السؤال التاسع: كي ننهي هذا القسم، أقول بصراحة تامة، أنه في هذا الزمن لا يمكننا الحديث عن إصلاح ديني في سورية أو في غيرها من البلدان، دون فضاء سياسي وقانوني، وإذا كان هذا الفضاء مرتبط أصلا بارتجالية التطييف، في سورية، وأسميتها ارتجالية لأن السلطة لا تستطيع مأسسة هذا التطييف، وقوننته، وهذا أيضا ما عجز عنه صدام حسين، بينما الرئاسة المصرية كرست مثلها مثل الدستور السوري- المادة الثالثة منه- أن دين رئيس الجمهورية يجب أن يكون الإسلام ,أصبح الدستور المصري دستورا مذهبيا ودينيا وبالتالي إقصائي وطارد لمفهوم المواطنة. هذه المأسسة التي تمت على مستوى الأديان، يعجز النظام عنها على مستوى التطييف والطوائف، فهو لا يستطيع سن قانون، أو مادة دستورية تنص على أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون من طائفة محددة؟ ألا تعتقد أن هذا وجه من وجوه المأزق السلطوي، لاحظ رغم وجود المادة الثالثة فهي لا تشعر بمشكلة إزاءها، بينما هنا لا تجد مجالا أبدا لتأسيس التطييف قانونيا. هل يمكننا الحديث في ظل هذا الفضاء عن إصلاح ديني في سورية؟ مع العلم أنني بت ميالا في هذا العصر المتسارع، إلى أن الإصلاح الديني، لم يعد مهمة أحزاب سياسية( نضالية) عفوا على هذه المفردة، ولكنه مهمة مؤسسات رابضة على الأرض.
هو ليس مهمة أحزاب قطعا، نضالية كانت أم غير نضالية. أميل إلى تصور الإصلاح الديني عملية تاريخية مديدة، اضطرارية وموضوعية أكثر منها اختيارا إيديولوجيا ذاتيا. ويخيل لي أحيانا أننا فيها فعلا. يوما قد ينظر إلى أيامنا هذه بأنها مرحلة الإصلاح الديني الإسلامي. وفي هذه العملية يتكون مفهوم جديد للصلاح وللدين والإيمان، أساس جديد أو منبع جديد للمعنى. أتصور أيضا أن الحصيلة الموضوعية والمرغوبة معا للإصلاح الديني الإسلامي هي نزع السيادة من الدين على المستويين السياسي والعقلي لمصلحة تنظيمات وأفكار بشرية. بعد نحو 14 قرنا ربما حان الوقت لانفصال تاريخي، لفتح صفحة ثقافية حضارية جديدة في العالم الإسلامي. للتحرر وتكون ذاتية جديدة. لا مجال للحرية بالمعنى الكبير للكلمة، بمعنى فتح آفاق حضارية وروحية جديدة، دون نزع السيادة من الدين وولوج أفق روحي وحضاري مختلف. على الجذع الإسلامي لا مجال لمزيد من النمو، بالعكس إننا مهددون بالقزامة. بالمقابل يمكن للإسلام نفسه أن يتجدد وبتفتح بقدر ما يتحرر (ربما مكرها في البداية) من أية مطامع سيادية. سيضطر إلى تطوير البعد الروحي والضميري الضامر فيه اليوم، وسيضمر بالمقابل البعد التشريعي والقانوني المتضخم اليوم. باختصار سيجنح الإسلام إلى أن يشابه المسيحية، لكن على أرضية توحيدية أكثر صلابة، وهذا في رأيي تطور مرغوب وضروري.
وأعتقد أن استقلال الدين عن الدولة وثيق الارتباط باستقلال الدين بحيز روحي وإيماني خاص به، وربما بحيز مؤسسي مستقل أيضا، بقدر ما إن ارتباط الدين بالدولة اليوم أو تطلعه إلى الارتباط بها متصل أيضا بفقدانه لحيز خاص مميز. لكن هل يمكن أن يستقل الدين عن الدولة وبحيز خاص به وأن تتشكل سلطة دينية مستقلة ومركزية تحد من التبعثر الديني والفوضى الدينية الهائلة في مجتمعاتنا اليوم؟ لست أدري لماذا لا يكون ذلك ممكنا. وقد يكون عسر كل شيء في عالمنا العربي والإسلامي، والذي يراه كثيرون بيننا دليلا على تعذر انعطاف كبير في عالم الإسلام، هو الدليل بالأحرى على ضرورته التاريخية وإمكانيته. ويخيل لي أن أي تقدم نحققه على صعيد السياسة والاقتصاد والفكر سيكون محدودا دون اختراق في المجال الديني. ليس هذا لأن الدين يحكمنا اليوم، ولا لأن خطر الحكم الديني قائم، ولكن لأننا بحاجة إلى أساس جديد أو منبع جديد للمعنى كما أشرت فوق. وتاليا سيادة جديدة وذاتية وثقافة جديدة. العملية هذه ينبغي أن توضع على مستوى ولادة الإسلام قبل أربعة عشر قرنا. ولا أظننا يمكن أن نغدو أحرارا فعلا ومبدعين فعلا بدونها.
بحكم الزمن على الأقل، التشكل الإسلامي اليوم، في القرن الخامس عشر الهجري والحادي والعشرين الميلادي، متقادم ومتجمد ولا يصلح أساسا لنهضة وتحرر حقيقيين. ما يمكن أن يصلح أساسا هو فكر جديد، شيء سيقع على عاتق مؤمنين وغير مؤمنين القيام به.
وبالمناسبة، لا أتصور الإصلاح الديني شغلا على الدين فقط. إنه بالأحرى شغلان مستقلان. اجتراح أساس جديد للمعنى والحقيقة والصلاح والسيادة (أو الحاكمية). وإعادة هيكلة الدين ضمن هذه السيادة الجديدة. ويتراءى لي أن مذهب الحاكمية الإلهية الذي هو اليوم الشكل القياسي للإسلامية المعاصرة يندرج ضمن الحركة التاريخية الكبيرة المفضية إلى إعادة توزيع علاقات السيادة والسلطة في عالم الإسلام المضطرب والمشوش. بعبارة أخرى، قد تكون الحاكمية الإلهية التي تعتبر الشريعة الإسلامية الأساس الأوحد لحياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والدولية الشكل الأقصى لتنظيم وتركيز الوعي الإسلامي، ومن ثم خطوة في مسار عقلنة دينية واجتماعية، سيتشكل مقابلها وضدها وبالتفاعل معها أساس جديد وسيادة جديدة وشرعية جديدة. والأرجح أن تكون عملية الإصلاح ببعديها شاقة ومؤلمة جدا، وربما دموية أيضا. أليست كذلك منذ الآن؟
هل العلمانية هي الأساس الجديد المأمول؟ حتى لو لم تكن صيغتها الرائجة مذهبية وفقيرة قيميا وفكريا معا ومتمركزة بإفراط حول ذاتها، فإنها لا يمكن أن تكونه. يمكنها أن تكون إطارا فكريا لحفز الاهتمام بالشأن الديني كما هو واقع الحال اليوم، لكنها تبدو عصبية ونافدة الصبر، فكأنها تتصور أن حل المشكلة الدينية الإسلامية مسألة زمن قصير أو متوسط. وربما لهذا السبب تجد دعاتها أقرب نسقيا إلى نظم الحكم القائمة في بلداننا.
..لا أظن أن السلطة في سورية أو غيرها “تستطيع مأسسة هذا التطييف، وقوننته” أو ترغبه. فبقدر ما إن الطائفية هي أداة من أدوات السياسة والصراع السياسي على السلطة والثروة والنفوذ فإن مأسسة مواقع ثابتة للجماعات الدينية والمذهبية أمر محتمل فحسب. فلا تقتضي الطائفية المأسسة حتما ولا ينفي غياب المأسسة الطائفية. هناك حالات طائفية قصوى نجدها في إسرائيل وفي جنوب أفريقيا العنصرية في أزمنة سابقة، وبدرجة جزئية في لبنان. هنا يتكرس الفصل الاجتماعي على أساس الدين أو اللون دستوريا وفي بنية الدولة ذاتها. وهنا يصح الكلام على مراتب للمواطنة: مواطنو درجة أولى ومواطنو درجة ثانية… وهذا موجود بصورة ما في أكثر الدول العربية عبر المادة الدستورية التي تقرر أن الإسلام دين الدولة أو دين رئيس الدولة. وقبل أن يكون بند كهذا غير عادل، فإنه يتعارض مع مفهوم الدولة بالذات. لذلك لا يمكن الدفاع عنه بينما نرفض حزبية الدولة. ومن يقول إن الاعتراض على الماد الثامنة في الدستور السوري التي تجعل من حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع..، والسكوت على المادة الثالثة من الدستور السوري التي تقرر أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام يمثل موقفا متهافتا محق تماما إذا أسس موقفه على مفهوم الدولة الحديثة والمساواة بين المواطنين، أي إن لم يكن محركه هو مقايضة هذه بتلك، أو المماحكة وتبرير ما هو قائم.
لكن هنا أيضا أتصور أن أفضل شيء نعمله هو بناء موقع متفوق فكريا وأخلاقيا، يمكن لنا انطلاقا منه ممارسة نقد جذري وعادل في آن معا لهياكلنا السياسية والاجتماعية والدينية والثقافي.
السؤال العاشر: على مسافة من اللوحة السورية، ومنخرط بها في آن معا، تبدو لي العلمانية ضحية طرفين: السلطة وفضاءها، والمعارضة الإسلامية التي لم تدرك بعد أن النسق الفكري الذي تعتمده يشكل نفسه مادة أساسية لحرمانها من النشاط. وهو نفس النسق الفكري الذي تحارب فيه السلطة أية تعديل علماني على دستورها نفسه، وهذا أمر لا يراه أيضا دعاة العلمانية المتشددة، باعتقادي أنهم هم أيضا مهمشون، ولا تسمح لهم السلطة بتأسيس ما بناء على علمانيتهم المتشددة هذه! بل أن السلطة تتركهم في هامشها ينقدون أي فعل معارض، ويحملون المجتمع مسؤولية المستقبل اللا علماني الذي ينتظر سورية في حال التغيير! فتحولت العلمانية بذلك إلى دفاع عن الاستبداد والذي هو ليس علمانيا أبدا؟ علما أنني أرى أن الخطر على مستقبل سورية، يكمن أيضا في بروز بدائل أقلياتية، ترفض مبدأ العلمانية في فضاء ديمقراطي؟ اعتبر كلامي هذا هذيان استشرافي للمستقبل، نحن لا نعرف ما الذي يدور داخل مجتمعات أقليات سورية ولا نوليه أية أهمية- أو ممنوع علينا أن نعرف- بل نولي الأهمية فقط إلى أن المعارضة السورية ليست علمانية، وبالتالي يتم التركيز دوما على الجانب الذي يمثل الأكثرية الدينية والطائفية، بكونها الخطر الذي يجب أن يتم مواجهته! أرى أن العلمانية التي تطفو على سطح المشهد السوري، تتفنن في إظهار أنه لا بديل عن هذا الاستبداد المزمن؟ والحجج كثيرة مخاطر أمريكية، ومخاطر الأخوان المسلمين..الخ المعزوفات، كيف يرى ياسين هذه اللوحة؟
في السنوات الأخيرة التي اتسع اهتمامي فيها ببنى المجتمع السوري وتكويناته الأهلية تطور عندي في الوقت نفسه تصور لهويتي الشخصية كوطني سوري. هذا هو الإطار السياسي والاجتماعي الذي أتصور أن تعالج وتحل مشكلة الطائفية فيه، وهو الانحياز الشخصي الذي أبذل له ولائي، وهو بعد “الموقع المتفوق فكريا وأخلاقيا وسياسيا” الذي يمكن أن نستند إليه لنقد الطائفية نظريا وتجاوزها عمليا. لا أضع نفسي تاليا خارج “مجتمعات أقليات سورية” ولا داخل “الأكثرية الدينية والطائفية” حسب تعابيرك. سياسيا ومعنويا أنا بين الجميع منهم ومعهم. ولست مستعدا لمنح مصادفات الميلاد سلطة موجهة لتفكيري وتحديد ولائي وصداقاتي وخصوماتي. كمثقف أعمل على بناء “خارج” تحليلي وسياسي أنظر منه بتجرد إلى التمايزات والجماعات المختلفة. هذا الخارج هو الموضوعية كقيمة معرفية والوطنية السورية كانحياز سياسي أول. فتجدني كدارس أخالف كثيرين وأتكلم فعلا على أقليات وأكثريات، وعلى مسلمين ومسيحيين، وعلى سنيين وعلويين وغيرهم. بالمقابل لا أجد مقبولا على الصعيد العملي والسياسي الكلام على أقليات وأكثريات دينية وطوائف وما إلى ذلك. لو كنت بصدد كتابة وثيقة سياسية أو برنامج سياسي لأغفلت التمايزات تلك وركزت على مدركات مثل الشعب والمواطنين والأمة. ولهذا السبب اعترضت على فقرة ركيكة ومختلة وردت في وثيقة “إعلان دمشق” تتكلم على الإسلام وعلى أكثرية وعلى آخرين. الإعلان وثيقة سياسية عملية لا يصح لها أن تتكلم بهذه الطريقة. لو كان وثيقة تحليلية أو دراسة عن المجتمع السوري أو بحثا تاريخيا لكان لا بد من الكلام على هذه التكوينات وبوضوح تام ودون غمغمة ومواربة. وللأسف تجد المزيج المعاكس عند مثقفين وناشطين آخرين: يتكتمون على وقائع التكوينات الأهلية السورية تحليليا، لكنهم لا يظهرون الانضباط اللازم في نشاطهم العملي.
ضعف الوطنية السورية سواء بسبب حداثة سن البلد أو لضيق قاعدة التماهي الوطني (بفعل شخصنة السلطة وضمورها فكريا رغم تضخمها الجهازي)، أو لقوة حضور هويات فوق وطنية مثل العروبة والإسلام، أو لسوية التطور الاقتصادي للبلد.. تضعف مستوى اندماجه وتبقي الهويات الفرعية حية وقوية نسبيا. وهذا يؤثر بدوره في أفكارنا وانحيازاتنا السياسية. والملاحظة البسيطة تفيد أن هناك فرصة كبيرة لأن ينحاز المسلم السني المتوسط المهتم بالشأن العام إلى الديمقراطية، فيما من المرجح لمتحدر من أقلية دينية أو مذهبية أن ينحاز إلى العلمانية. هذا مفهوم جدا. فبما هي تعني حكم الأكثرية، فإن الديمقراطية، إن لم تعن حكم المسلمين السنيين، فإنها تفسح مجالا واسعا لهم في السلطة. هذا انحياز قد يكون غير واع. لكن التنبه النقدي إليه أخف عند المسلم السني المتوسط. بالمقابل تعني العلمانية الفصل بين الدين والدولة، والدين الذي لديه مطامح سياسية في سورية هو الإسلام السني. من المفهوم لذلك أن يوالي العلوي أو الدرزي..، أو المسيحي، العلمانية. هذا أيضا انحياز غير واع بالضرورة، ينبع من أن التنبه النقدي لهذا التحديد أقل في هذه الأوساط.
قد تقول إن الديمقراطية ليست مجرد حكم الأكثرية والعلمانية ليس مجرد فصل الدين عن الدولة. بالتأكيد. لكننني أتكلم على مستوى التصورات الشائعة، هنا حيث تطرد العملة الفكرية المبسطة العملة المركبة من التداول وفقا لنوع من “قانون غريشام” فكري (قانون غريشام يقرر أن العملة الرديئة، أي التي فيها ذهب اقل، تطرد العملة الجيدة التي فيها ذهب أكثر من التداول، لأن الناس يفضلون الاحتفاظ بالعملات المضمونة القيمة والتخلص من العملات الأقل ضمانة). لا نتحرر من تلك التصورات التي توجه تفكيرنا وانحيازاتنا ربما دون وعي منا إلا بالشغل عليها، إلا كذلك بمراقبة وعينا والشغل عليه.
تلك عناصر أولية لا شك فيها في اعتقادي لسوسيولوجيا العلمانية والديمقراطية التي تواجه، أعني السوسيولوجيا، عندنا كما في كل مكان بمقاومة أكيدة، لأنها تكشف محددات تفكيرك وسلوكك، بينما يفضل الواحد منا أن ترى أفكاره تعبيرات عن الحقيقة وسلوكه موجها بالقيم العليا. أي بالضبط لأن السوسيولوجيا هذه علمانية.
المقاربة السوسيولوجية لإيديولوجياتنا مهمة جدا في رأيي، لا لأن مفهوم الإيديولوجية ذاته مفهوم سوسيولوجي ومركزي في نطاق ما سيسمى بعد ماركس بعقود سوسيولوجيا الثقافة، أي إظهار المحددات الاجتماعية لأفكارنا؛ لكن كذلك لأن من شأن الاهتمام به أن يدفع إلى الأمام تفكيرنا بالديمقراطية والعلمانية وما إليها. أي يخرجها من المقاربات المعيارية التي ترى أننا لا نوالي الديمقراطية إلا لأنها متفوقة قيميا وسياسيا وكلها خير (“الديمقراطية هي الحل”)، أو أني لا أدعو للعلمانية إلا لأن العقل والتاريخ والتقدم والحضارة تدعو إليها (“العلمانية هي الحل”). هذه مقاربات ساذجة، تشبه من يقول إن أفكاري من عند الله وأفكار غيري من عند الشيطان.
لكن ليس المحدد الديني والمذهبي هو وحده ما يمكن لمقاربة سوسيولوجية أن تتنبه إليه. ثمة عناصر أخرر تتصل بالطبقة أو الشريحة الاجتماعية، وبمستوى التعليم، وبمحددات جهوية: مدينة، قرية، بلدة صغيرة أو متوسطة.. وما إلى ذلك. ولدي انطباع أن الشرائح الأفضل تعليما والطبقات العليا تنحاز على العموم إلى تنظيم علماني للمجتمع والدولة، دون أن يعني ذلك أنها غير مؤمنة بالضرورة. لكننا كمن يتخبط في الظلام عند مقاربة هذه القضايا لأن التمايزات الاجتماعي والاقتصادية في سورية كانت خفية ومتوارية عن الأنظار، ولم تنزع إلى الظهور إلا مؤخرا بفضل نوع من اللبرلة الاقتصادية والإعلامية. وتقديري أن تنبهنا إلى ارتباط الطبقات والشرائح الاجتماعي بتفضيلات وانحيازات فكرية وسياسية وإيديولوجيات سيزداد في بضع السنوات القادمة بفضل الظهور العام المتنامي للمجتمع السوري.
لكن وفقا لمستوى معرفتنا الحالية يشغل العنصر “الطائفي” بين العناصر المشار إليها مكانة خاصة في سورية. هذا لأنه إما أن لا نراه أبدا، أو أن نراه فلا نرى غيره. هذا عائد في اعتقادي إلى كونه خاضعا في ثقافتنا السياسية لمنطق المكبوت الذي إما أن يوارى في أعماق النفس أو أن يتفجر فيحتل المساحة النفسية كلها. ومع ترقق طبقات الكبت الثقافي والسياسي بفعل تدهور الشيوعية والقومية العربية أخذ هذا المكبوت يظهر على السطح، وإن بصور مواربة وبأشكال متنوعة من التحايل.
هنا أيضا مهم أن نطرح الأمور في إطار اجتماعي وتاريخي أعرض. نحن الناشطون السياسيون والثقافيون في سورية معرضون لتشوه منظوري كبير وشائع: نهتم اهتماما مفرطا بما يقوله الحزب الفلاني والكاتب الفلاني والناشط الفلاني. فكأن العالم مكون من عدد قليل من الغيتوات المسكونة بمنظمات سياسية محدودة الأثر وبناشطين أكثر محدودية بعد. العالم أوسع من ذلك بكثير. وسورية الضيقة ذاتها أوسع من ذلك بكثير جدا. ويبدو لي أنك تبالغ في الاهتمام بمواقف وأنشطة كان يمكن وضعها في موقعها المناسب لو حولنا انتباهنا أكثر نحو العمليات الاجتماعية والفكرية المديدة في مجتمعاتنا بدل التفاعلات وردود الفعل الآنية.
سؤال اعتراضي1 أبدا لدى ياسين ترسيمة لا يحيد عنها، وهي أن السلطة ذيل إشكالي في مجتمعاتنا، بينما هي في الحقيقة بؤرة مولدة للفعل، لا بل هي الفعل بحد ذاته، لمجرد وجودها بهذا الشكل الذي نتحدث عنه فهي بؤرة مولدة لإشكالياتنا المتعددة الوجوه والمستويات. السلطة الإشكالية مولدة للإشكاليات وعلى طريقتها موضوعيا وذاتيا. وإشكاليتها تكمن في أنها أتت بطريقة صادرت المجتمع حتى بإشكالياته كلها لتعيد إنتاجها من جديد داخل حقول تسلطها بشكل كامل. كان هنالك طوائف فهل كان هنالك طائفية قبل هذه السلطة كمثال؟ لهذا إصرارك دوما على أن كل من يريد جعل العقلانية السياسية في بؤرة الحدث والتي تتمحور حول فهم السلطة كبؤرة مولدة للنكبات أمرا “فعلجيا” بينما السلطة وآلياتها وفاعليتها تحتل المساحة الأولى من العقلاني السياسي، أو من محاولة عقنلة السياسي. ما كان بودي أن أثير هذا الاعتراض لولا أنك تصر على جعل فهم السلطة والمجتمع والدولة كما تفهمه سلطة مخفية لفهم أحادي، يرفض الحركة بفعل انسداد الأفق الشمولي لعملية التغيير؟
يدفعني تكويني وتجربتي الأساسية، السجن، إلى أن أرى كل شيء من منظور السياسة وأن “أتثبّت” حول مسألة السلطة. سيكولوجية المعتقل السياسي تدفع في هذا الاتجاه. لذلك أتساءل أحيانا ما إذا كان ما أقوله وأكتبه أوثق صلة باستعداد مناهض للنظام أورثتني إياه التجارب منه بواقع الحال في سورية. لذلك أيضا أن ترى أنت أني أقلل من شأن دور السلطة أو النظام هو خبر سار في نظري، لأنه يقول لي: أنت لا تركز على مسؤولية النظام عن مشكلاتنا رغم كل ما فعلته وتفعله، لك كما لغيرك!
على أني لا أركن إلى هذا الخبر كثيرا. أعتقد أني، وأننا، بحاجة إلى انشغال أقل بعدُ بمسألة السلطة لا إلى انشغال أكبر. وكنت اقترحت في غير مقال أن ننسى السلطة كي نرى المجتمع ونستطيع التفكير في السياسة ذاتها. لكنها نصيحة قلما التزمت بها أنا نفسي.
قد يكون تفحصي لوعيي ونفور مكتسب من الخرافات السياسية والإيديولوجية وشيء من الحرص على الإنصاف يدفعني إلى محاولة بناء تصور أوسع لمشكلاتنا هو سبب حكمك. ومنزع فحص الذات هذا هو فيما أعتقد ما يبعدني عن “السياسة”. فهذه، في منطقتنا على الأقل، وربما في كل مكان، إحدى مشتقات الحرب. وأنا لست محاربا ولا مجاهدا، ولست مستعدا لأي حرب أو الانخراط في أي معسكر أو الانضمام إلى أي “أمير”. ولست محرضا ولا معبئا ولا داعية استنفار أو تجييش. الحرب تتعارض مع تأمل الذات وفحصها ونقدها. والسياسة مثلها في ذلك. وهما معا اليوم مصنعان لخرافات لا تنضب حول من نكون وحول العالم وتحولاته وحول الأديان والطوائف والأحزاب والسلطات وكل شيء.
وبالعودة إلى السؤال، لا أرى أن سلطة قادرة على تحويلنا جميعا إلى ذيول، هي ذيل، لكنها في الوقت نفسه ليست الكلب كله. ورأيي أنك حين تمنح عمل السلطة دورا تفسيريا حاسما فإنك ستكون مدعوا إلى تفسير سبب تضخم دورها هذا. وليس تفسيرا مقنعا أن أصل ذلك هو أن الحكام أشرار وفاسدون وما إلى ذلك. تقديري أن تضخم دور السلطة في بلداننا عائد إلى تفاعل عنصرين. أولهما، أن مجتمعاتنا في طور انتقالي تاريخيا، فلا هي مجتمعات تقليدية ولا هي مجتمعات حديثة؛ وهو ما يعني أيضا افتقارنا إلى نظم قيم ومؤسسات فاعلة، لأن القيم التقليدية معطلة دون أن نتوفر على مؤسسات وقيم حديثة. إن صح ذلك، فإن “السلطة”، بمعنى التوسع في ممارسة القوة القسرية، تملأ فراغا قيميا وقانونيا وسياسيا في مجتمعات ضعيفة التشكل. وهذا ما يجعل منها حلا لمشكلة قائمة. وثاني العنصرين أن مصالح نخب السلطة وطموحها إلى تأبيد حكمها يتوافق مع بقاء المجتمعات المحكومة ضعيفة التشكل، سائلة البنى، فاقدة التماسك، كي تكون السلطة القسرية مبدأ تماسكها الوحيد. أي أن شرطا تاريخيا موضوعيا يلتقي مع مصالح ذاتية لنخب السلطة فيضخمان وزن السلطة في بلداننا. وما يضفي طابعا مشؤوما على هذا الالتقاء هو أن مقتضيات الحفاظ على السلطة وتوسيعها قد تدفع إلى استناد الحاكمين إلى أهل ثقتهم، فلا تلبث سلطة الدولة أن تتفرغ من عنصرها الوطني العمومي. فتجد أن أهل ثقة الحاكم (أي أسرته وعشيرته وطائفته..) يتماهون بسهولة نسبية مع نظامه بينما ترتفع عتبة تماهي جماعات أخرى. وعلى هذا النحو، سيجنح المجتمع المحكوم إلى التشكل وفقا مثال السلطة، أي تحل علاقات الثقة والقرابة والمحسوبية محل علاقات المواطنة. هذا هو أصل الطائفية في اعتقادي.
وهكذا أيضا تغدو سلطة الدولة عنصر انقسام وطني بدل أن تكون عنصر توحيد، فهذا ما يسهل لها أن تستمر ممسكة بالمجتمع المحكوم. وكنت اقترحت لفهم هذا الواقع تمييزا بين المجتمع المتماسك ذاتيا والمجتمع الممسوك الذي قد يفرط إذا لم يُمسك من خارجه. ويقيني أن “إعادة إنتاج” النظام الحالي عندنا تمر عبر إعادة إنتاج ما كنت سميته أزمة الثقة الوطنية وتقويض شروط تكون منظمات وحركات وطنية قوية وعابرة للتكوينات الأهلية. الأمر الذي يعني أن تجاوز أزمة الثقة هذه متعذر دون تجاوز الشكل الحالي لنمط ممارسة السلطة.
ولعل هذا يقتضي منا جهدا جديا على مستويين. على مستوى فكري باتجاه بلورة تحليلات معمقة للبنية الاجتماعية والسياسية السورية، وليس لدينا تراكم يذكر في هذا المجال. وعلى مستوى عملي باتجاه ترقية الثقة الوطنية وتطوير التماسك الذاتي لمجتمعنا. هنا أيضا التراكم ضعيف. بل إنه ثمة تراكم سلبي حتى في أوساط الناشطين العامين. ويبدو لي أن أكثرية جيل كامل، جيلنا، قد فسد عقله ووجدانه إلى حد أنهما لا يقبلان إصلاحا. وأزمة الثقة العامة في أوساطنا المعارضة أكبر من أن تتيح لهذه الأوساط أن تسهم في معالجة أزمة الثقة الوطنية. لا يسرني قول ذلك، لكن هذا ما أراه.
يبقى التغيير مرغوبا في بلد يعاني من ركود خانق منذ أربعة عقود ونصف. لكن ينبغي ألا تنحصر خياراتنا بين تغيرات عاصفة لا نظام لها على نحو ما كان حال سورية قبل عام 1963، وبين استقرار بلا تراكم هو بالموت أشبه على نحو ما آل إليه حالنا في الربع الأخير من القرن العشرين. كيف يمكن أن نطور نظاما سياسيا يجمع بين التغيير والاستقرار؟ هذا سؤال جدي يستحسن أن ننشغل به. ولما كان من المرجح للتغير السوري أن يكون مؤلما بعد سنوات الركود هذه، فإن هذا يدفع إلى الصدارة مسألة مستوى النخبة السياسية والثقافية في البلد. فكلما توفرت لنا قوى عامة منظمة، أرفع مستوى فكريا وسياسيا وأخلاقيا، كان ذلك كفيلا بتخفيف آلام التغيير وتقصير زمنها.
وإنما لذلك أقر لك أني اليوم “مرجئ”، أفضل تأخر التغيير السياسي في سورية إلى حين ربما تتبدل الاصطفافات الإقليمية والدولية الراهنة التي من شأنها أن تقوض أي أثر تحريري محتمل لتغير النظام؛ وإلى حين قد تنشأ حركات اجتماعية ومنظمات سياسية جديدة، أقل تركزا حول السلطة في تفكيرها وأكثر تحررا من الإرث السام للعقدين الأخيرين من القرن السابق في سيكولوجيتها وتفكيرها وسلوكها وسياستها.
وأرى على أية حال إما أنه لن يتغير النظام في المدى المنظور أو أن يقع التغيير بأيدي غيرنا ممن هم أقوى من النظام: الأميركيون ومن ينضوي تحت إمرتهم. وإذا لم نكن راغبين بالعمل كأدوات للأميركيين أو غيرهم، يبقى أمامنا أن نعمل على أنفسنا فكريا وسياسيا وأخلاقيا. هذه “سياستي”.
وهي كما ترى معقدة أو موسوسة إلى درجة أني أفتيت لنفسي بالابتعاد عن السياسة العملية التي لا تحتمل استداركات وتحفظات وشكوكا كثيرة مما تراه أنت وآخرين عندي.
سؤال اعتراضي 2: لهذا إن الديمقراطية هي رد طبيعي على هذا الانغلاق الدائري- زمانيا ومكانيا- للسيطرة الإشكالية ذاتها من قبل السلطة على كامل مساحة حركة مجتمعاتنا. حاضرة بدء من دور الحضانة حتى الصور والملصقات في الشارع، كحد أدنى من الأمثلة على درجة حضورها. أما ما يخص ما يمكن أن يواجهنا في المستقبل، أظن أن ياسين يوافقني أن الديمقراطية مدرسة لتخريج مجتمع صحي في ظل حريتها، وإن كان هذا المخاض يختلف من مجتمع إلى آخر في آليات انتقال السلطة من استبدادية إلى ديمقراطية، لهذا نقول الديمقراطية هي سلطة أيضا، ويمكننا المجازفة بالقول أن شموليتها تكمن في تعدد الحضور الحر والقانوني لكل السلط المجتمعية. لهذا مجتمع مطيف لا يمكن في فترة انتقاله أن يخفي هذا التطييف لمجرد انهيار سلطة احتواءه القسرية؟ وإلا لماذا تختلف البشرية على تصوراتها عن المجتمع ما بعد الاستبدادي؟
قبل سنوات كان هناك إجماع على أن الديمقراطية مرغوبة وممكنة وواجبة في أوساط المثقفين والناشطين العرب، والسوريين منهم طبعا. بعد احتلال الأميركيين للعراق تحت راية الديمقراطية، وما تلا من تمزق المجتمع العراقي، دخل شيئان جديدان ساحة تفكيرنا السياسي. الأول هو الاحتلال الأجنبي، الغريب وغير الودي، كيلا نقول أكثر. يعني يأتي جندي أميركي ويمنعك من أن تسير في هذا الشارع أو ذاك من شوارع مدينتك، فإن اعترضت ربما يسجنك ويهينك ويعذبك، أو حتى يقتلك. وهذا لا يمكن أن يكون مقبولا. والثاني هو بنى مجتمعاتنا وما فيها من عناصر تفكك وتفجير وحروب أهلية. وقد رأى عموم الناس في سورية والعالم العربي التأثير النازع للأمن لمزيج الاحتلال والحرب الأهلية في العراق. والأمن يتقدم حتى على تأمين وسائل العيش، ويتقدم أكثر طبعا على الحريات والحقوق السياسية.
أريد أن أقول أنه لا يكفي أن تكون الديمقراطية حلا مبدئيا للاستبداد كي لا تكون مشكلة هي ذاتها في شروطنا العينية. وعلينا أن نعالج هذه المشكلة، ونبنى تصورنا للديمقراطية حول تحليلنا للاستبداد وهياكل ممارسة السلطة وبنى المجتمع والثقافة في بلادنا، بدل التصور الشكلي والمجرد الذي يجعل الديمقراطية ترياقا شافيا أو “هي الحل”.
من جهة أخرى لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين، خلافا لما كان بدا يوما للأستاذ غسان سلامة وتوافقا مع ما قاله عزمي بشارة في كتاب له صدر هذا العام. ورغم أنه ليس لدي عقدة نقص حيال فكرة الديمقراطية (أو هكذا أظن)، أعتقد أننا لسنا ديمقراطيون وليس لدينا ديمقراطيين. وأقول ذلك عن خبرة وتجربة. وأعتقد أيضا أنه يمكن أن يوجد لدينا ديمقراطيون إذا بذل جهد كاف من أجل هذا الهدف. لا أحد يبذل جهدا في هذا الاتجاه. القوم مستنفرون، أما ضد الاستبداد أو ضد الامبريالية أو ضد الأصولية… فلا وقت لديهم للنظر في أنفسهم وتربية ذواتهم.
من اجل أن تكون الديمقراطية حلا كما تقول أنت ينبغي أن تكون مشكلاتنا السياسية والاجتماعية والدينية والوطنية محلولة سلفا. أي أن الديمقراطية ممكنة أكثر في بلدان استكملت تشكلها كدول أمم حديثة، فلم تبق لديها غير مسألة السلطة. هذا ربما كان الحال في أسبانيا بعد وفاة فرانكو أو في البرتغال في الفترة نفسها أو اليونان. وهو ليس الحال في بلداننا. نحن لسنا أمما تعاني من الدكتاتورية فقط ليكون التغيير الديمقراطي هو الحل. نحن مجتمعات تعاني من دكتاتوريات ومن تشكل وطني (“أموي”) منقوص فاقمت الدكتاتورية من اعوجاجه ونقصانه.
هذا لا يدعو إلى سحب الديمقراطية من التداول، لكن هناك حاجة إلى شغل نظري على مفهومها، لا يقل أهمية عن الشغل السياسي المقاوم للتسلطية، ولا عن ترقية السوية الفكرية والأخلاقية للمعارضين، ولا قبل هذا وذاك عن التفكير في مسألة تكون الأمة في بلداننا. لا يكفي أن أكون معارضا لنظام استبدادي فاسد حتى أكون على حق في كل ما أقول وأفعل، فأستغني عن تطوير أهليتي على نحو ما يبدو أن أكثرنا يفعلون.
السؤال الحادي عشر: قال لي أحد المهتمين الغربيين في أوضاع بعض الدول العربية ومنها سورية، أن الانتقال في هذه البلدان للديمقراطية لا يتم إلا بفعل عاملين: إما بانتقال داخلي عبر انتقال السلطة نفسها بخيار إرادي واع من سلطة أحادية إلى سلطة تؤمن بالتعددية دول المعسكر الشرقي مثالا أو موريتانيا، أو العامل الثاني بتضافر ثلاث قوى رئيسية: أمريكا والأخوان المسلمين وحزب السلطة. وما تبقى من معارضة فهي رونق لحفظ التعدد ورقابته إن أمكن! وفي حالتنا إعلان دمشق وبقية تيارات جبهة الخلاص. كيف ينظر ياسين إلى هذا الأمر؟
قول “المهتم الغربي” أقرب إلى تقرير لواقع، لا يحتاج إلى نباهة خاصة. ولو كنا نحن راضين بهذا الواقع والممكنات المقترنة به لالتحقنا بأحد الأطراف المذكورة. إلا أن رفضنا لذلك يقتضي، كي يكون متسقا، التنبه إلى البعد الثقافي والتأسيسي في معارضتنا أكثر من البعد السياسي بحد ذاته. فهذا ما قد يميزنا من الثالوث: النظام والإسلاميين والأميركيين. وهذا للأسف ما لا نتبينه أو نحرص عليه. لسنا قوة سياسية بالمعنى الضيق للكلمة. سياستنا أقرب إلى الهيمنة التي كان صاغ تصورها غرامشي. الفوز بالمعركة الثقافية وصوغ تصور للعالم (للمجتمع والسياسة والدولة ..) أوسع وأغنى من التصورات الأخرى، بما فيها تصور الإسلاميين. هذا جهد تأسيسي ومديد ولا يعد بثمار قريبة. ومعك حق إن قلت إنه غير سياسي بإطلاق.
هذا لا يعني بالضرورة أني أعترض على العمل السياسي من الصنف الذي اعتدنا عليه، لكني أشعر أكثر وأكثر أنه جهد سيزيفي عقيم. وأجد نفسي أكثر وأكثر منحازا إلى شغل مختلف، اقرب إلى مجال “الثقافة”.
هذا لأن مجتمعنا يعاني من أزمة هيمنة عميقة، أي لأن السياسة فيه بلا أساس قيمي وفكري. الديمقراطية ليست “هي الحل”، لأن المشكلة ليست في السلطة بل في الدولة ذاتها، وفي “الأمة” قبلها. توزيع مختلف للسلطة لا يحل المشكلة. المطلوب تغيير السلطة بالذات، لا بمعنى تغيير النظام فقط وإنما تغيير نمط إنتاج السلطة ومنابعها الفكرية والرمزية وأسس شرعيتها. وربما تغيير مفهوم الديمقراطية أيضا. أحيانا يخطر لي أن حل مشكلاتنا يقتضي تغيير حلولنا، أو لنقل تحويل الحلول، ومنها الديمقراطية، إلى مشكلات والتفكير فيها.
قد يكون شغل في هذا الاتجاه هو ما يخرجنا من وضع “الرونق” الحافظ لتعدد شكلي. خصوصا أنه إن كان من شيء يميزنا الآن عن غيرنا فهو علاقتنا بالثقافة. هذا شيء لا يفتقر إليه النظام والإسلاميون فقط، بل والأميركيون أيضا. فكقوة إمبراطورية، أميركا أقل ارتباطا بالثقافة التحررية والإنسانية والديمقراطية منا نحن الناشطون الديمقراطيون الخُرَقاء. وهذه نقطة أساسية لم نبرزها كما ينبغي في السنوات السبعة المنقضية، فتركنا لإيديولوجيي المؤسسة الأميركية أن يطابقوا أنفسهم بالحداثة والديمقراطية والحرية ووضعنا أنفسنا في موقع دفاعي. من هو الديمقراطي: نحن أم بوش وعصابته؟ الدفاع عن الثقافة المنفتحة والنقدية هو فعل ديمقراطي مضاد للسلطنة الأميركية، قدر ما هو مضاد للاستبداد المحلي وللأصولية الإسلامية. فلم نهدر ميزتنا الأبرز، على تواضعها، ونزاحم، على ما نحن فيه من هزال بدني، قوى مفتولة العضلات، لا يجعلها صغر عقلها إلا أشد خطرا؟
سؤال 12: انعقد لمجلس الوطني لإعلان دمشق في 1.12.2007 وتبعه اعتقالات بالجملة والمفرق، ورافقه هجوم حاد وتشهيري في الحقيقة وهذه لن نقف عندها مطولا، ومنه هجوم ذو طابع أكاديمي الدكتور برهان غليون نموذجا! يحمل استراتيجية بوش في الحرب على الإرهاب في الدرجة الأولى مسؤولية الاعتقالات، لأن هذه الاستراتيجية سمحت بانتصار الحرس القديم داخل النظام، ويطالب الإعلان بفصل الإخوان المسلمين منه، وتحديد موقف مما يدور في العراق وفلسطين، لكي تكتمل هوية الإعلان. ما هو موقف ياسين من هذا الجدل الذي دار بعد مرور أشهر على الاعتقالات وبقاء الأصدقاء في السجن؟
أفضل ألا أتكلم على تفاعلات ما بعد اجتماع إعلان دمشق. اكتفي ببضعة نقاط.
أولا، هناك أزمة سياسية وفكرية كبيرة تعاني منها حركة المعارضة السورية. وهي في جانب منها نتاج وانعكاس لأزمة الثقة الوطنية، وفي جانب آخر حصيلة لخمود فكري مديد وغياب النقاش العام. من وجوه هذه الأزمة في أوساط الإعلان أن قضية الديمقراطية تكاد تختزل في مسألة السلطة. وهذا قبل أن يكون خطأ سياسيا وفكريا هو حشر للنفس في زاوية ضيقة تعطل إمكانية التحرك السياسي المرن.
ثانيا، ليس العالم مكونا من المعارضين السوريين ونزاعاتهم. ورغم أني أقرب إلى بعضهم من بعض آخر، إلا أن الواحد منا يحكم على نفسه بضيق الأفق إن بقي أسيرا لما يقوله هذا ويراه ذاك. هذا يفعله كثيرون بيننا. وأكثر ما أجده دالا ومؤسفا هو أن المواقف الأكثر غنى بالألوان والطعم والرائحة والكثافة النفسية واللغوية والعاطفية هي الموجهة ضد معارضين، من قبل من يفترض أنهم معارضون أيضا. الشيء الآخر الدال هو انقلاب خلافات وخصومات معروفة بسرعة قياسية إلى عداوة وضغينة لا تحرص على إخفاء ذاتها أو تلطيف حدتها. وكذلك تشكل “تحالفات كراهية”، قد تكون عارضة وقصيرة العمر، لكنها سممت أجواء العمل المعارض إلى درجة رهيبة.
ثالثا، أنا مع الشباب في السجن. هم على الأقل شجعان سياسيا. وهذا شيء ثمين في شرطنا السوري الكاسر للشجاعة. لعلي أكرر، لكني أعتقد أننا بحاجة إلى شجاعة فكرية تفوق حتى الشجاعة السياسية التي تحلى به معتقلو إعلان دمشق. أما الجمع بين خور سياسي ونكوص إلى متاع فكري متقادم، شيوعي وقومي عربي، فهو خذلان لتاريخ المعارضة الديمقراطية السورية طوال 3 عقود أو أكثر وليس فقط 3 سنوات أو أقل هي عمر إعلان دمشق.
رابعا، عبر الدكتور برهان غليون عن آرائه كمواطن وكشريك للمثقفين والناشطين المعارضين في بلده. فلا داعي لإضافة صفة “أكاديمي” إلى ما قال. وأنا أؤيده في جزئيات انتقد بها إعلان دمشق، إلا أني أتحفظ على توجه وروحية بعض ما كتب. والتوظيف الذي خضع له بعض ما قال هو محاولة لجر مثقف عريق في معارضته لتسويغ خيارات يبدو لي أنها متعارضة تماما مع التوجه العام لعمل الدكتور برهان.
أخيرا كانت لحظة صدور إعلان دمشق في خريف 2005 لحظة تاريخية، مكتظة سياسيا ومتوترة نفسيا ومشحونة بالاحتمالات والأهواء والآمال والمخاوف والرغبات والاندفاعات. وكان جميع الفاعلين السوريين، بمن فيهم النظام، شركاء في حقائق وأوهام اللحظة الخصبة المفتوحة على كل الجهات تلك، حتى لو فضل بعضنا لأسباب تخصهم أن ينسبوا لأنفسهم حكمة باكرة وبعد نظر لا لا دليل عليهما. ولإثبات ذلك سأقترح عليك تمرينا مسليا (وللانترنت الحمد): أن تعود إلى ما كتبه وأصدره ناشطون ومثقفون وتنظيمات سورية في الشهور الأربعة الأخيرة من عام 2005، أو طوال العام الممتد من الانسحاب السوري من لبنان حتى ربيع العام التالي، وترى بنفسك كم كانت التحليلات والمواقف والنبرات أكثر التباسا وغنى وتركيبا وتعددا وترددا مما يفضل “مراجعون” تصويرها بمفعول راجع. هذه سمة الفاعلية الإنسانية عموما، خصوصا حيال أوضاع تاريخية متمردة على المألوف.
أعود إلى القول أن كثيرا مما كتب ونشر وقيل يطعن في تاريخ المعارضة طوال أكثر من ثلاثين عاما.
على أني أضيف أن معالجة أزمة العمل المعارض في سورية تتجاوز تشكيلتي المواقف والمقاربات والتحليلات المتاحتان اليوم. فلا مخرج منه بحذف إحدى التشكيلتين وتثبيت أخرى ولا بالعكس، ولا بالجمع بينهما. محتاجون إلى جهد للتجاوز.
سؤال 13: آليات التغيير في سورية، عنوان أساس ولا يحتاج إلى تفصيل في سؤاله، كيف يرى ياسين هذا الحقل المجهول، والمغيب؟
كما لاحظت من إجاباتي السابقة، لم تعد قضية التغيير كعملية سياسية يفترض أن تجري خلال سنوات (وإلا لا معنى للانشغال بها) تشغل تفكيري.
على أني أعتقد أن الأولوية في أي عمل سياسي معارض في سورية تتمثل في إخراج العمل الديمقراطي المعارض من أزمته. وأول ما ينبغي من أجل ذلك هو الخروج من الزاوية الضيقة التي “زنق حاله” بها في السنوات الثلاث الأخيرة، أعني التثبت على مسألة السلطة. وكنت دعوت في ورقة حول إعلان دمشق في ربيع 2007، أي قبل اجتماع مطلع كانون الأول بأكثر من 7 شهور إلى انعطاف كبير، يطوي لحظة إعلان دمشق، وما حملته فرادتها السياسية والنفسية من انفعالات وأهواء. والانعطاف ضروري من أجل تدشين طور جديد من أطوار العمل الديمقراطي، يستعيد روحيته كنضال تحرري هدفه تمكين الشعب من المبادرة وحيازة المقدرة على صنع حياته والتحكم بشروط وجوده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والروحية. وثانيا، إفساح مجال أوسع في تفكير وسياسية الديمقراطيين السوريين للتحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية والمتسارعة في البلد، وتطوير نقد وسياسة ديمقراطيين متماسكين حيالها، دون حنين رجعي إلى أيام الاقتصاد الدولاني. وثالثا، وعي أننا في أزمة فكرية جدية، وأن الارتجال السياسي من جهة والعودة إلى مذاهب سياسية خاصة بالقرن العشرين من جهة ثانية، لا يصلحان علاجين ناجعين لهذه الأزمة.
سؤالك عن آليات التغيير في سورية، وجوابي عن آليات تغيير المعارضة الديمقراطية. هذا لأني أرى أن تغيير الذات هو الأولى اليوم.
وشكرا لكم ولياسين..
باريس
ghassanmussa@gmail.com