فيما نقصه عليكم ليس أروع القصص، الجعبة مليئة. ألف ليلة وليلة، أليس في بلاد العجائب؟؟ لا. هي سوريا أو (أوسيانيا ) في رواية جورج أرويل – 1984-.
ايفا داوود طالبة في الصف الثاني الثانوي في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، وردة لازالت تتفتح، غضة، تخجل من نسيمات الهواء عندما تداعب خدها، لم تتعرف بعد على مكر أنظمة الشرعية الثورية ولم تخبر بعد أنها ستظل متهمة حتى ولو أثبتت براءتها.
ليس ذنبها أنها ولدت لأبوين كرديين، كذلك ليس ذنبها أن أقارب لها وفي العائلة الواحدة، هناك من يحمل الهوية السورية وأخاه ليس ربما، بل أكيد، لايحمل نفس الهوية.
ما علاقتها ان كان القوميون العرب يحلمون بدولة من المحيط الى الخليج والقوميون الأكراد يحلمون بدولة كردستان بأجزائها الأربعة، ليحلم كل حسبما يريد، فالحلم قد ينسينا مرارة الواقع.
حلم ايفا شفاف وبسيط، تغمض عينيها، تسافر بين السحب، تفتح صدرها لفارس يأتيها على جواد أبيض، تنثر شعرها و تعيد تجديله ضفائر صغيرة، تربطه بشرائط حمراء وصفراء وكل ألوان الفرح، تلقي حقيبتها المدرسية على كتفيها وتركض مسرعة نحو مدرستها، تقف للحظات عند مدخل البيت على صراخ أمها “ارجعي، نسيت صندويشتك، ستجوعين في المدرسة”، تعود ايفا متذمرة، تدس زوادتها في حقيبتها كيفما كان وتسرع الخطى فالدرس قد ابتدأ.
عرب وأكراد، صابئة ويزيديون، مسيحيون وأثوريون…. هي ذي الحسكة وذاك هو الصف الذي (كانت)فيه ايفا.
لا تستغربوا نحن في (سوريا): “تفصل الطالبة ايفا ابراهيم داوود من جميع مدارس القطر فصلا نهائيا وذلك لأسباب أمنية”.
تبدأ رحلة الألف ميل. كل فروع الأمن، أرضية وجوية وعسكرية وسياسية تستنفر، فأمن الدولة في خطر. تتهاوى الطفلة المسكينة على وقع أسئلة المحققين. تصفر وتشحب وتتقيأ، تجحظ عيونها، ينعقد لسانها، يتحول جسدها كله الى اشارات تعجب واستفهام، ماذا فعلت؟!
والدها المسكين يتحول رغم انفه زائرا لكل تلك الفروع. يواجهونه بكل قواميس العمالة والخيانة والتآمر والانفصال : اقتطاع جزء من الدولة ومحاولة ضمه الى دولة مجاورة. اثارة القلاقل والفتن. ضرب الوحدة الوطنية. تعكير الصفاء الأهلي ومحاولة دق اسفين لضرب الاخاء العربي الكردي.
لم تنجح كل الوساطات لاعادة ايفا الى مدرستها، وجهاء عشائر، رجال لهم وزن وقيمة، محسوبيات، رشاوى. كل المحاولات باءت بالفشل. لابد من تشكيل “لوبي” ضغط مهمته فقط اعادة ايفا الى صفها. أيضا يتعذر ذلك، فالسجون لاتشبع وتنتظر المزيد، ولا مجال لا لرأي عام ولا خاص ولا بلوط في بلد يهوي بسرعة مذهلة الى القاع.
ما العمل؟ الأخوة الأكراد حاولوا تحويلها الى قضية رأي عام، لم يفلحوا لأسباب كثيرة.
تتساءلون ما هي جريمة ايفا، ماذا فعلت بحق السماء؟!
ربما من هو خارج سوريا لا يصدق، سيقول أنها قصة مفبركة ” تستهدف النيل من صمود سوريا في وجه ما يحاك ضدها من مؤامرات “، وسيتابع، خاصة ان كان مصدقا لاسطوانات الصمود والممانعة والمقاومة، أننا نصطاد في الماء العكر، ودروس في الوطنية…… الخ.
داخل سوريا، يعرف كثيرون قصصا تشيب لها الولدان في مسلسل القهر الطويل في تطويع وتدجين “المواطن” السوري لتحويله الى مهرج بامتياز.
كسوريين، أنا وأنت وهو وهي نعرف أن طلابا كثيرون فصلوا من معاهدهم ومدارسهم لا لشئ سوى أن أقارب لهم وربما من الجد الثالث و الرابع كانوا في العراق مثلا أيام الصراع بين صدام حسين وحافظ الأسد.
كسوريين، نعرف عن معتقلين أمضوا سنين طويلة في سجون تدمر وصيدنايا والمزة وبعضهم قضى نحبه في تلك السجون والسبب هو لقاء صدفة جمعهم مع معارض سوري في مقهى على الرصيف في تركيا تحديدا.
نعرف أيضا، أن سوريين كثر ممن يعتنق الديانة المسيحية أمضى سنوات ليست بالقليلة في المعتقلات في عز أزمة الثمانينات الدامية أثناء صراع النظام السوري ضد المجتمع السوري كله، والتهمة (لا تضحكوا) الانتماء الى تنظيم الاخوان المسلمين. (أخطاء كثيرة حدثت والضحايا عوضوا عن سنوات كثيرة في المعتقل بكلمة أسف).
قصص لا تنتهي. لا نريد نكء الجراح. أما وفي عصر الشعارات الجديدة، تطوير وتحديث، احترام القانون، احترام الرأي الآخر وقس على ذلك، تفصل ايفا “فصلا نهائيا من جميع مدارس القطر لأسباب أمنية” لأنها شطبت من السبورة اسم بشار الشطي وأبقت على اسم محمد حجازي في البرنامج الشهير “ستار أكاديمي” لأنها كما قالت لا تحب بشار؛ وبفرض أنها لا تحب بشار الأصلي كما افترضت ابنة ال… ضابط المخابرات، زميلتها في الصف وكان ما كان حيث كان “التقرير” ومأسأة ايفا والد ايفا وأم ايفا……. ما المشكلة؟ ايفا من حقها أن تحب وتكره، من حقنا كسوريين أن نحب من يعزّنا ويحترمنا وينظر الينا كشعب لا كقطيع ومن حقنا أن نكره من يجوعنا ويذلنا ويمايز فيما بيننا.
ربما بسبب هذا الكره: “يفصل الشعب السوري عن جميع الشعوب في العالم ولا يحق له أن يقارن نفسه بأي من تلك الشعوب التي تتطلع الى الحرية والعدالة والمساواة”.
ahmadtayar90@hotmail.com
* كاتب سوري