أعادت الأحداث التي عاشتها مدينة سيدي إفني، نهاية الأسبوع المنصرم، إلى الأذهان مثيلاتها من الأحداث التي سبق وعرفتها مدن مغربية أخرى بغض النظر عن حجمها السكاني أو موقعها الجغرافي. ويظل القاسم المشترك بين الأحداث هو التذمر من الأوضاع المعيشية التي كلما زادت سوءا كلما تأجج غضب المواطنين وانفلتت ردود أفعالهم عن كل منطق وحكمة. وهذا حال الغضب والغبن حيث يفقد المواطنون تعقلهم خصوصا في غياب إطارات قانونية تدرك خطورة الانفلات الأمني على حياة المواطنين وممتلكاتهم، أو حينما تكون حشود الغاضبين واندفاعاتهم متحكما فيها من طرف جهة لها أهداف غير أهداف المحتجين. في هذه الحالة تتحول هذه الحشود إلى طوفان مدمر قد يأتي على أسس الدولة ومقومات الاجتماع. لهذا تبقى هيبة الدولة وكرامة المواطن متلازمتين. ذلك أن هيبة الدولة لا تأتي مما تمتلك من قوة أو تمارس من قمع وبطش، لأن مثل هذه الأسس قد تُرهب النفوس إلى حين لكن لن تقهر إرادة الناس في العيش الكريم. وكل الدول التي قامت على أساس القهر أو اتخذته الوسيلة الأوحد في التعامل مع المواطنين انتهت إلى زوال مهما طال أمدها. بل إن هيبة الدولة تتحقق بما توفر من عوامل الاستقرار النفسي والمادي لعموم المواطنين. وبقدر ما يفقد المواطنون شعورهم بالاستقرار بقدر ما تنتابهم رغبات التمرد والانتقام من الجهة التي هي مصدر الغبن والإحساس بفقدان الكرامة. والدولة المغربية أولى لها أن تدرك الحقائق التالية:
1 ـ انهيار الدول، بعظمتها وقوتها مثل الاتحاد السوفييتي، لم يكن بفعل تدخل عسكري خارجي أقوى كما حصل في العراق، بل جاء نتيجة لتراكم مشاعر القهر والغبن أفقدت المواطنين البسطاء الاطمئنان إلى المستقبل، وهم الغالبية التي تؤمّن استمرار الدولة وتضمن استقرارها. وكل الثورات والحركات الاجتماعية الاحتجاجية أو الانقلابية تراهن على سخط وغضب البسطاء والمهمشين وعموم الفئات التي تشعر بالغبن. إذ القوة العسكرية والقبضة الأمنية المحكمة أو الحديدية لن تجديا في إرغام فئات من الشعب على ابتلاع مرارة العيش أبد الآبدين وغض الطرف عن حياة النعيم التي يعيشها غيرهم الذين تجمعهم بهم أرض الوطن وتفرق بينهم المحن ومشاعر الغبن. ولعل ما حدث في سيدي إفني يعبر عن سخط المواطنين وغبنهم. ولا يمكن إقناع المغبونين إلا برفع حالة الغبن المتولدة عن حرمانهم من خيرات محلية هم أولى بنصيبهم منها ولن ينازعهم فيها بقية المواطنين في مختلف جهات المغرب ومناطقه. فالمغاربة يؤمنون “بنصيبهم” و “قدرهم” الذي لا دخل للإنسان فيه. فلن يأتي سكان أنافكو أو صفرو ينازعون الباعمرانيين خيراتهم البحرية. فالحذر كل الحذر أن تعم مشاعر الغبن عموم البسطاء في باقي أرجاء الوطن.
2 ـ وجود جهات /تنظيمات داخلية تتشوق إلى اليوم الذي تعم فيه مشاعر الغضب وتشتد ثائرة المواطنين البسطاء ضد أوضاع الغبن والتهميش. فهذه التنظيمات، وخاصة جماعة العدل والإحسان، وبعدها تنظيمات الانفصال أمازيغية وغير أمازيغية، تؤسس مشاريعها على القوة التدميرية التي تمتلكها الحشود الغاضبة والمغبونة التي تزيدها الأيديولوجيا حماسا وإصرارا على التضحية من أجل مشروع ليس مشروعها وأهداف لا تتعامل مع الغاضبين إلا كوقود لآلة التدمير أو أمواج عاتية لطوفان جارف. إن هذه الجهات المتربصة بأمن المغرب واستقراره تستغل مثل هذه الأحداث لاستقطاب المتعاطفين والأتباع وتوسيع قاعدة المناصرين لمشاريع انقلابية أو انفصالية لن يستفيد منها إلا المؤججون لكن سيخسر الوطن والمواطنون كل المكتسبات وفرص النماء. والحكومة، إذ تتغاضى عن مطالب البسطاء، تتخلى عن مسئولياتها الوطنية في تأطير المواطنين وإشراكهم في البحث عن مخارج للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهونها دون اللجوء إلى أساليب العنف أو القمع التي لن تزيد الأوضاع إلا تعقيدا. وحري بالحكومة أن تصغي للمواطنين وتحاورهم بجدية ووطنية. فالمواطنون ليسوا بلداء وليسوا أعداء. ومن شأن بسط المعطيات بدقة ووضوح أمام المواطنين أن يشعرهم بالمسئولية المشتركة في البحث عن حلول لا ضرر فيها ولا ضرار. وميزة المواطن المغربي البسيط أنه قنوع، وحين إشراكه في تدبير المشاكل العامة يقبل بأكثر الضررين وليس فقط بأخفهما، شريطة أن تتحمل كل الأطراف نصيبها. وقد دلت التجارب التي كان المواطن طرفا في البحث عن الحلول والمخارج أن المواطنين المعنيين يقبلون بحمل القسط الأكبر من الأعباء من أجل توفير مخرج وإنهاء المشكل.
3 ـ المغاربة شعب يريد العفاف والكفاف ويسخر من كل من “يتعلق فين يتفلق”. هذا ما تريده وتسعى إليه عموم فئات الشعب. والشعب الذي تربى على قيم الكفاف والصبر والتكافل لن تجد الحكومة عسرا في محاورته ولن تتخوف من حلوله. لأن الشعب الذي قيمه القناعة والصبر سيقنع بالبسيط لكنه لن يرضى بالغبن والاستغفال. والحكومة، إذ تتجاهل هذه الميزات النادرة والثمينة، حتما تغامر باستقرار المغرب من حيث كونها توفر العوامل التي تخرج البسطاء من بساطتهم في المطالب واعتدالهم في ردود الفعل إلى الغلو والمغالاة.
4 ـ أن الأزمة الاقتصادية ليست قدرا على البسطاء. وهذه الحقيقة لن تجعل الأساليب القمعية والوحشية ذات جدوى في الكف عن المطالب أو اللجوء إلى الاحتجاج. بل من شأن هذه الأساليب الهمجية أن تؤجج مشاعر الغبن والحنق وتدفع إلى التمرد والارتماء في أحضان المشاريع الانقلابية والانفصالية. ولا شك أن الأساليب المشينة التي كشفت عنها التقارير الصحفية في تغطيتها لأحداث سيدي إفني ( نهب، اغتصاب، عبث بأعراض الناس وممتلكاتهم، تكسير الأبواب وانتهاك حرمات البيوت الخ ) لن تقنع المواطنين بأن الحكومة جاءت لتنصفهم أو تريد بهم خيرا. كما لا يمكن إقناع المغبونين بأن الموت جوعا أرحم من الموت شنقا. فإذا كان الفقر كفرا فكيف بالحكومة أن تريده رضا وطاعة من مواطنين أضناهم الأمل والانتظار وأرهقهم الجوع والتهميش ؟ إن المخرج الأنسب والأسلم هو إشراك المواطنين في البحث عن حلول لمشاكلهم عبر حوارات جادة وصادقة، أما نهب الممتلكات وانتهاك الحرمات فلن يسكت الجائعين ولن يقنع المواطنين بأن الحكومة تتفهم مطالبهم وأن عناصر الأمن أقدمت على فعلاتها المشينة بحثا عن الفارين، فمتى كانت الحقائب ملاجئ ؟ أليس من دخل داره بات آمنا ؟ الأكيد أن هبة الدولة لا تحققها القوة وكرامة المواطن لا يصونها الجوع والغبن.
selakhal@yahoo.fr
المغرب