لا نعرف علي وجه اليقين من الذي ادخل في روع العرب انهم أمة. فكلما تحدث القوميون او الاسلاميون نجد لفظ امة حاضرا في خطابهم. يعتبرونه بديهية، رغم ان الامة بمعناها الحضاري يستحيل ان تجد لها ظلا او شبه ظل فيما وصلنا من تاريخ العرب أو بعد نشرهم للاسلام. فكرة الامة فكرة عظيمة لكنها لا تتحقق الا بشروط صعبة لم يعرفها أهل الوبر. فكثير من المجتمعات التي دخلها الاسلام هي امة بالمعني الحضاري والتاريخي واحتاجت لزمن طويل حتي تستقر قواعد بنائها المادية. لهذا قامت حضارات صينية ومصرية وفارسية واوروبية. يشتركون ان مكونهم هو تفاعل البشر مع الواقع استثمارا له وتطويرا لذاتهم وارتقاءا بقواعد وجودهم في الكيان الحضاري المتحقق بهم. هكذا يتشابه الانسان ككائن بيولوجي وككائن ادراكي متطور صعودا مع الحضارة كمظهر للنشوء والارتقاء الاجتماعي والسياسي والاخلاقي. فكلما ارتقت حضارته ارتقي هو معرفه ووجودا علي مستويات كثيرة اهمها المستوي السياسي. كلاهما كائن تاريخي تطوري صاعد. كلاهما يبني عبر تراكم خبرته فكما تنشا عند الفرد والجماعة ملكات وخبرات ومواهب من ذواتهم المتفاعلة مع الواقع فان الحضارة تنشا لها ايضا المؤسساسات والهيئات التنظيمية الحاكمة والضابطة لوحدة وهدف الكيان الحضاري، مثل مؤسسات العبادة او الجامعات او دور القضاء او مؤسسات السلطة والادارة. فهل تحققت ذات الشروط عند العرب لوصفهم بامة؟
لكل بيئة ثقافة خاصة بها لها بصمتها بما تمليه طبيعة الجغرافيا وحال المناخ وشروط العمل والانتاج. لكن المشترك الحضاري الجامع لكل تلك الثقافات انها قدمت الفن بكل صورة كاول منابع التعبير عن المعرفة الوليدة. ويعتبر الفن كاجراء تدبرياً واكتشافاً اختراعياً يقوي به الانسان ملكاته ويحميه ويعينه علي ادراك الطبيعة ويزيده اعجاباً وحباً لها. فحيث لا يوجد الفن لا توجد الحضارة. فهل هناك حضارة للبداوة؟ ربما كانت هناك ثقافة لا نجد بصمتها سوي في اللغة كتعبير عن مقتضيات العرب.
من شروط الحضارة ان يوفر الفرد والجماعة من الطبيعة والواقع ما لم توفره الطبيعة والواقع له. فالعمل والانتاج علي كل المستويات هو اصل بناء الحضارة. فمن انتاج الفنون الي الغذاء والمعمار والاخلاق والقانون وشكل الدولة يمكن للحضارة ان تثبت احقيتها وان تسجل نفسها ضمن باقي الحضارات.
في اصل كل حضارة يكمن الانقلاب علي الموروث السابق الذي يختفي بلا رجعة. فهدف الحضارة هي اخفاء عورات جاهلية ماقبلها او تجاوز سلبيات عصور الهمجية، وتحسين العلاقات لتكون اكثر انسانية مع اكتشاف لكل ما يبرهن علي احقية الجديد في الوجود علي حساب القديم الزائل. ولكل حضارة منجز علمي لما تحققه واصل فلسفي لما تقول به تخرج به من الظلمات الي النور. وخلو أي حضارة من فلسفة وفن او غيابهما عمدا عنها معناه اننا امام حضارة زائفة او اكذوبة حضارية.
كل حضارة تهتم بالتنظيم واختيار الافضل لقياده مؤسساتها. فخلو أي مجتمع من مؤسسات يعني خلوه من الحضارة. ففي الميدان الثقافي لا يجوز ان يضع المفكر ذهنية الدهماء والسوقة في اعتباره او يحاول ان يكتب لهم او ان يشعرهم برقابتهم عليه وتجديدا لقوي عدوانهم. وإلا فان خصائص الدهماء تفرض نفسها علي قلمه وعقله فتسحقه في طريقها فتخسر الحضارة قيمة فكرية وعبقرية نادرة تعتز بها. فالحضارة هي الجديد وليس استعاده القديم. هي التطور وليس تثبيت او العوده للاصول. فليس هناك علماء للدهماء والسوقة لكن هناك زعماء للغوغاء والجهلة. وظيفة مثل هؤلاء الزعماء هو بقاء الحال، رغم ان بقاء الحال من المحال. لهذا تختفي روح الهمجية ونزعات الغريزة كلما دخل البدائيون مجتمعات حضرية، يذوبون داخلها حيث يختفي زعمائهم ممن يحتقرون الحكمة الانسانية والخبرة البشرية. فهم ملهمون اتي بهم التاريخ في موعده مع قدرهم ليتعلموا من بلاد الحضر ما عجزوا عن ابداعه ولحماية الحضارة منهم وليس تمكينا لاستمرارهم.
كان رد فعل الانسان في ادراكه الوجودي مع البيئة بتشكيلها استئناسا لها وتدجينا لعنفها معه. فرسم وشكل ونحت وصنع ونسج وبني وحفر وشق وزرع ونطق وكتب ورصد وفكر فيما هو تحت يديه وقادر علي التعامل به ومعه. كانت اهم انجازاته في نسج العلاقات الاجتماعية بشكل افقي بين الافراد وبشكل راسي بينه وبين السلطة. وكان اختراع السلطة من افضل ومن اسوا ما تم انجازه في وقت واحد. فوظيفيا لا يمكن الاستغناء عنها لضبط السلوك العام وإدارة الدولة فاخذت موقع المتسلط علي من يريدها لضبط ايقاعة اليومي. وتظل السلطة سلطة طالما الفرد همجيا لا يردعه سوي العنف. وتتحول السلطة الي خادم للشعب عندما يرتقي الشعب بنفسه ويعلو فوق عنفها. فالسلطة القمعية هي ناتج ثقافة همجية جاهلة لا تعرف الصواب من الخطأ. لكنها تطبق ما تعرفه بالغريزة. وكما ينمو ويشيخ الكائن والحضارة تشيخ السلطة ايضا وتتحول في نهايتها الي عائق يقف حجر عثرة امام النمو الحضاري.
كانت القبيلة بسلطة كبير شيوخها اولي اشكال الوجود الاجتماعي. ولانها بدائية ولا تصلح لبناء حضارة فقد سعي نص القرآن بعد اكتشافه عجز القبيلة عن الوفاء بمتطلبات الحضارة الا يذكرها سوي مرة واحده في صيغة الجمع كاعتذار عن وجودها. فقال “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.
فالتواصل عبر ما يعرف كل طرف هو ضمان ترقي المتخلف وليس بفرض معارفه علي المتحضر. هدف النص الي الغاء عصبيات الجنس او علاقات القرابة الدموية التي امتنعت معها امكانية بناء الحضارة. ورغم ذلك النفي للعنصر فقد انبعثت فكرة العروبة التي هي عنصرية ولا يقر بها الاسلام وفي ذات الوقت ادعي المسلمون ان لهم حضارة هي في مجملها مجموع الحضارات السابقة عليهم كالفرعونية والفارسية والفينيقية ولم يشاركوا هم في صناعتها. فهل أخطأ حاملوا الرسالة اثناء انتشارهم بها شرقا وغربا؟
ما يميز تلك الحضارات هي عظمة عطاء وابداع اهلها وليس ما املته السماء. بمعني ان الجهد البشري هو اصل صناعة الحضارة. ومع ذلك ظل العقل الاسلامي او العربي وهو يجدد نفسه علي حساب الحضارات الاخري يردد اقوال في غاية الغرابة متناسيا انه يمتهن ذاته قبل تجريمه للحضارات. فكم وصف المقريزي في كتاب المواعظ والاعتبار عجائب مصر. اسماها عجائب رغم انها افعال بشر وجهد انسان وادي النيل. لكنه لم يتطرق كيف ان هناك من يحكم مصر في زمنه ولا عجائب له رغم حيازته لكتاب الله وسنة رسوله؟ مثل هذا الخطاب نابع من موقف بدائي وعدواني موروث لا يعرف معني العمران والحضارة اعاد القبيلة الي سابق وضعها رغم ان الكتاب ينفيها ويغسل يديه منها.
خلط العرب مفهوم الامة ومفهوم الملة أو الدين باستخدامهم للغة قالت عن مجرد مجموعه من الرعاه انهم امة في قصة موسي حول بئر بارض مدين. وتتاكد تصورات القرآن عن الامة بذات المعني في سورة آل عمران بالقول ” وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ “. فإذا كانت الاديان في تلك الزمان هي مصدر الفضيلة فان مجرد قيام جماعة بالدعوة لا يعني سوي خلط بين الامة وبين الدين. وهو ما اكده القرآن ثانية في سورة الاعراف بالقول ” كلما دخلت أمة لعنت أختها”. والامة المقصوده هنا هي امة كل نبي او داع او رسول جاء به التاريخ لحث الناس علي الفضيلة. فالقرآن خاطب العربي الامي بنفس ذهنيته وحالته المزاجية. لهذا شعر العربي في زمن الجاهلية بالفخر عندما وضعه النص القرآني في مصاف الامم بالقول في سورة يونس والرعد والنحل علي التوالي ” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ” – كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ…” – ” وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ “. فرغم غياب الديانات السماوية الثلاث عن مناطق كثيرة بها امم عريقة وحضارات شامخة الا ان مفهوم الامة تداخل ومفهوم الجماعة الدينية او الطائفة. وتعدد لفظة أمة في القرآن وتكرر 64 مرة، كلها تقريبا تعني جماعة من الناس يدعوهم حكيم. لكن الذات العربية المتضخمة صاحبة شعر الفخر والهجاء عكست نوايا وتوجهات النص الديني بتعظيم العرب لانفسهم فقالوا بانهم أمة لمجرد ان جائهم رسول. لكن يظل معيار التصديق في السؤال عن حقيقة ما ابدعوه لو انهم امة أي مؤسسين للحضارة؟
لكن تظل مفاهيم ابن خلدون هي الجامعة والفيصل في فك الاشتباك بين مفهوم الامة حضاريا وبين مفهوم الجماعة ذات الزعامة الدينية. فابن خلدون قرن بين مفهوم الامة وبين مفهوم الوطن فقال في المقدمة ” إن كل أمة لا بد لها من وطن هو منشاهم ومنهم اولية ملكهم”. هنا يصبح مفهوم الوطن ملازما لمفهوم الامة. بعكس حال المسلمين كجماعة تؤكد ان الاسلام وطن ولا تعترف بالاوطان حيث تبني الحضارات بهذا فض ابن خلدون وكذلك جماعات الاسلام السياسي الاشتباك المتعسف بين الحضارة والاسلام. بضرورة الوطن عند الاول وبين نفيه عند الثاني. وأكد عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي الامر فقال «إن النظرة المبالغ فيها إلى اللغة العربية والحضارة العربية والإسلامية، تدفع العرب إلى تقويم أنفسهم وحضارتهم تقويماً غير واقعي ومبالغاً فيه، وعندما يجابه العرب ضعفهم وانقساماتهم يعزون ذلك إلى الجهل والتدخل الأجنبي (المؤامرة) وليس لأسبابه الحقيقية التي تفسخ المجتمع العربي إلى عشائر وقبائل فيعوض العرب عن شعورهم بالضعف والتخلف بادعائهم انهم منبع الحضارة الغربية، فيشعرون أنهم شعب مختار (تضخم الأنا)، وبهذا يرسم العرب الماضي والتاريخ كما تمليه عليهم آمالهم وطموحاتهم (الأحلام)، فهم لا يستطيعون رؤية المستقبل، إلا من خلال الماضي الذي يخترعونه لأنفسهم».
elbadryk@gmail.com
* القاهرة