(الصورة: أنطونيو غرامشي: “المثقّف العضوي”)
التدعيم الحقيقي لكل أمة هي ثقافة المجتمع وديناميكيته في دعم الحياة الثقافية، وخصوصا في مجالات النقد والفلسفة والعلوم الحديثة. والتي من خلالها استطاع أن يشكل أبعادا كبيرة لثقافة المجتمع، ولكن المجتمع العربي يقف ساكنا أمام هذه العلوم ، و هذه تمثل أزمة حقيقية يمر به العقل العربي بشكل عام للبحث عن دور له في ظل الثورة المعلوماتية، مع حالة من الإحباط والضياع وفقدان الروح المتحفزة للعمل وقتل الإبداع في نفسه ونسف طموحاته عبر سلسلة طويلة من التراكمات الثقافية والتراثية الموغلة في القدم، ما جعلته يفقد مرجعيته الثقافية أو يعيش توترا وتناقضا بين واقع علمي وآخر غيبي، بين رجال التراث الديني المتزمت، وبين رجال العقل الواقعي. بين عقل يسترجع الماضي ويعيش من خلاله وبين عقل ينقد الماضي ويتجاوزه للمستقبل، وبين من يسأل ويبحث عن كل حدث لتفسيره وبين من يقف مذهولا ثم ينشغل بالتسبيح والتهليل!!
ويبدو عبر تلك الصور الثقافية لواقعنا العربي والإسلامي يستوجب علينا البحث عن حقيقة دور المثقف في المجتمع، وعن رغبته الحقيقية وإيمانه الصادق في أهمية دور الثقافة في التغيير، لتأصيل وتأسيس مفهوم الثقافة،المثقفون ينزعون دائما لأن تكون لغتهم نوعا من إبراز القدرات اللغوية، وتكريس للغة غير مفهومة وبعيدا عن لغة المتلقي الثقافية والمعرفية، وفهم السياق الثقافي والتاريخي الذي يعيشه الفرد في مجتمع لا يسمع إلا شعارات مسجعة وخطب نارية متكررة، ويُحمَّل الفرد العادي تبعات ومعاناة الثقافة وانتكاساتها. وبذلك تظهر دور الثقافة بصورتها الباهتة بعيدا عن الواقع المعاش.
كتب د. تركي الحمد في كتابه الثقافة العربية في عصر العولمة فصلا بعنوان (فكر الوصاية ووصاية الفكر) عن إشكالية أزلية في معرفة علاقة النخب المثقفة والمجتمع عبر سرد مجموعة من الشواهد والأمثلة عبر الحقب التاريخية المختلفة، والذي يبين فيها البون الشاسع الذي خلفه الوضع الاجتماعي والاقتصادي بين النخب المثقفة والجماهير، وقد عمّق المثقفون هذه الهوة عبر مجموعة من الإصدارات يستخدم فيها المفكرون العرب مصطلحات وموضوعات لا يفهمها سوى النخب المثقفة. ويقول د تركي الحمد “فلو سألت أكاديميا لمن يوجه خطابه، لأجابك بأنه موجه للمعنيين بالأمر من زملائه – النخب – ولو سألت مفكرا عاما عن الخطاب الثقافي لربما قال “الناس” ولكن مَنْ من هؤلاء الناس القادرين على فك تلك الطلاسم، والتعامل مع المفاهيم المجردة، ويقول الدكتور تركي الحمد “خطاب يراد من خلاله تغيير الذهن العام ولكن العامة المراد تغييرها لا تفهمه”.
فمن هنا يأتي دور النخب الثقافية، هل الثقافة والفكر هو سبيل للتغيير أم سبيل للتميز على المجتمع؟ وهذا لا يعني بالضرورة أن نبخس حقه في المعرفة والثقافة الموسوعية للبعض والتأسيس الثقافي لبعض المفاهيم العلمية للثقافة، ولكن التساؤل يقوم ضمن إطار دور المفكر في دائرة المجتمع والناس، والذين هم – الناس – بالنتيجة المحور و المعني في إبراز مدى تأثير المفكر في المجتمع والتغيير الذي يطرأ على حياة الناس، والإقبال الشديد على دور النشر للبحث عن آخر المستجدات الثقافية في عالم المعرفة. وعلاوة على هذا التلاعب في الألفاظ واستخدام اللغة المعجمية الغارقة في الرمزية دون تحديد مباشر أو النتيجة المراد إيصالها، يبتعد المفكر المصلح عن المجتمع ويبقى خارج نطاق هموم المجتمع والناس، وبعيدا عن التدعيم للفكر التنويري الذي ناضل الآخرون من أجله. بل نجد ابتعاد رجال الفكر والفلسفة عن تبسيط المفاهيم الفلسفية لعامة البشر بل يمعنون في إغراق المعاني بألفاظ بعيدة عن لغة الثقافة المحلية، مع الاحتفاظ بتلك اللغة للمختصين بالمجالات اللغوية والفلسفية.
ومن خلال هذا المشهد لتلك الثقافة النخبوية يظهر الخطاب الغوغائي اللاعقلاني المتميز بالسرد اللامنطقي في معالجته لمشاكل المجتمع، ليجد طريقه إلى المجتمع عبر الخطب التحريضية ضد المثقفين والمفكرين لأنهم علمانيون أو ليبراليون لفظهم المجتمع بسبب انحرافاتهم الفكرية الموجهة ضد الدين وأخلاقيات المجتمع المسلم. ولتواجد رموزهم والحضور المستمر بين قواعدهم مما يشعرهم برضى وهمي بوجودهم ويعزز من أهميتهم في دعم تلك المؤسسة الدينية، بينما يبقى رجال الفكر العقلائي خلف أسوار الغربة والوحدة في مجتمع يعيش بتكنولوجيا وعلوم متطورة وبعقلية ماضوية!!
الخطاب الثقافي عليه أن يكون بشكل مبسط ومنسق يتوافق ومدارك الإنسان البسيطة وحمله على التزود بزاد معرفي يقوى به على الخطاب الساذج للأفكار الضحلة التي لا تخلو من التكرار والاجترار لماض سحيق. وتصدي المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي والعلمي بالرد على أوهام الإعجاز العلمي – الذي أصبح سوقا رائجا لرجال الدين – بفكر علمي واقعي دون تجزئة أوانتقائية وفصل كلي وبينونة كبرى بين الفكر التراثي الماضوي والفكر العقلائي على الخطاب الثقافي إيجاد مناخات ثقافية مناسبة لتجديد الفكر والثقافة والابتعاد عن الخلافات الدينية والسياسية وتوجيه الناس حول الثقافات الأخرى المهملة من حياة الناس من الأدب والرواية والمسرح والفلسفة والموسيقى والعلوم الطبيعية وغيرها من العلوم والأفكار الإنسانية، والتي أصبحت لا تشكل من حياتنا سوى معلومات نستقيها عبر الأخبار أو المدرسة كمعلومات دون مقدمات لهذه العلوم ودورها في حياتنا.
Almole110@kwtanweer.com
كاتب كويتي