في منتصف الثمانينيات، أخبرني نجيب طالب، طبيب نادية تويني إلى حين رحيلها في سنة 1983، أن غسان تويني أهدى إليه كتاباً لي. كان الكتاب واحداً من أربعة كتب أولى أصدرتها سوية تقريباً، قبل أشهر من هذه الواقعة، ولم يكن لي قبلها ذكر يعتد به في دنيا النشر ولا في (الساحة) العامة. وكان نجيب طالباً قد قرأ الكتاب فدعاني إلى عشاء في بيته بعد أن اهتدى إلى الاتصال بي بعناية صديق مشترك. وأما غسان تويني فلم أكن طالعت وجهه في حياتي قط ولا حصل هذا إلا بعد مدة غير يسيرة من ذاك العشاء الأنيس في منزل آل طالب المتحفي. وفي سنة 1987، نشرت مقالة عن بيروت في عدد خصصته مجلة فرنسية للمدن المبتلاة بالحرب. وما عتمت صديقة لي أن أخبرتني بأن غسان تويني استنسخ المقالة ووضع النسخ على طاولته يهديها إلى زائريه. كان الرجل ماضياً لا يلوي على شيء في عنايته الغيابية بي. وكنت في أمس الحاجة إلى هذه العناية، وإن شق عليَّ طبعي الأعوج، في تلك الأيام، أن أعترف بحاجة من هذا القبيل، كان لي أقران أمازحهم أحياناً بالقول إن على أمثالنا، إذا وجدوا في مالهم فضلة، أن يكتروا بها قراء. كنا نكتب لنعلم من نصوصنا ما نريد أن نقول ولنتملى من النصوص وهي ناجزة. وأما أن يغير ما نكتبه شيئاً في شيء أو في أحد، فذاك ما لم يكن لنا فيه مطمح أو كان قد غادر مطامحنا قبل تلك المدة. وفي حومة هذا اليأس، كان غسان تويني يباشر من بعيد، إذكاء بعض الرغبة وبعض الأمل في نفسي بأن تخرج النصوص من نفسها شيئاً ما… بأن يكون النشر اسماً لمسمى.
قبل تلك الأيام (وبعدها أيضاً) كانت لي -بما أنا قارئ مواظب للنهار- علاقة خلافية، على التغليب، بمقالات غسان تويني وبسياسة الجريدة. ولأقل -لوجه الدقة- إن الثانية كانت تثير غيظي أكثر من الأولى. ولأذكر من قبيل الإيحاء الإجمالي بسياق تندرج فيه هذه الحال، أن غسان تويني كان وزيراً للتربية لمائة يوم عاصفة من سنة 1970 وكنت أنا مدرساً للفلسفة العامة في ثانوية الطريق الجديدة البيروتية، وأنه في شغله الشاغل ذاك، وجد ثانيتين لإحالتي إلى التفتيش، من دون أن يكون اسمي مقترناً في ذهنه بصورة أو بمعنى… وكان ذلك بتهمة تحريض التلامذة على الإضراب وإثارة الشغب في المدرسة. وهذا ما كنت أدأب فيه فعلاً، بهمة قعساء في ذلك العهد، أو أجهد لجعل الفلسفة العامة تفضي إليه. كان غسان تويني أقل الوزراء ضيقاً بشغب الطلاب، على الأرجح، ولكن تلامذة تلك الثانوية وبعض المدرسين فيها – وبينهم أنا- ما كانوا ليطاقوا على أن المفتش استقبلني بالإكرام وطرح عليًّ سؤالين على تخوم الموضوع ونال مني جوابين في خارج الموضوع ثم صرفني بسلام. لم تخلف هذه الحادثة في نفسي أدنى أثر. فلقد كان مستقرا في خلدي أن الوزير اذا عاقب معلما ما فذاك يشبه السماء تمطر في فصل المطر. وإنما أذكرما ذكرت تمثيلاً على أنني كنت أرى نفسي في واد وأرى غسان تويني و(النهار) في واد آخر، في تلك الأيام. ولا يعني هذا أنه كان في مكنتي الاستغناء عن (النهار) أو عن مقالات غسان تويني وميشال أبو جودة. فهذا شيء وذاك شيء آخر. كانت (النهار)، وما تزال، مناسبة يومية لرياضة المناكفة العقلية التي تديم علينا نعمة التفكير وتتيح أن يتكون لنا رأي في تيارات للحوادث تحمل حياتنا بين ما تحمله. مع ذلك باشر غسان تويني، حالما وقع في يده ذاك الكتاب من كتبي، مهمة استئناس (الحيوان السياسي) الذي كتبته. باشرها من بعيد ومن غير قصد منه. وكانت نشأة ذلك الحيوان وخبرته أو كانت حياته نفسها، على الإجمال، قد انتهت به إلى قدر من التوحش والتوحد في السياسة. وهذا مع علمه الراسخ بأن السياسة تدبير جماعات وبأن التوحد فيها إنما هو مغايرة قطعية لمعناها.
***
أول مرة قابلت فيها غسان تويني وجهاً لوجه كانت في موقف مهول من تلك المواقف التي يحتبس حيالها الكلام ويتصاغر. قصدت، في ذلك اليوم من سنة 1987، منزل مروان حمادة، لأقول لغسان تويني كلمة مواساة في مصرع ولده مكرم بحادث سير وقع في باريس. والحق أنني، مع كوني واحداً من سواد الناس اللذين هزهم مصاب الرجل، كنت سأعد ذهابي إليه، من غير معرفة، في نكبته تلك، تطفلاً مني ما كنت لأقدم عليه.. لولا أن الرجل كان قد باشر استئناسي، على ما أسلفت، من غير معرفة بي من جهته ومن غير قصد. لذا قصدته وكان في حسباني أنني سأشد على يده وعلى أيدي من معه وأنني قد أجد (وقد لا أجد) من يعرفني من محرري (النهار) فأداري بمجاورته اضطرابي دقائق معدودات ثم أنصرف. على أنني حين دخلت في صف المعزين، رأيت غسان تويني ينظر بانتباه تام في وجه كل مقبل عليه، مع كثرة الناس، ويخاطبه مخاطبة شخص فرد لشخص فرد وليس لأي كان. وحين وصلت إليه، استبقى يدي في يده وهو ينظر في عيني نظرة السائل عمن أكون. فذكرت له اسمي أما هو فوجد لحظة، في ساعته تلك، ليهز يدي شاكراً مرة أخرى وليعيد النظر في وجهي نظرة من أتم أمراً كان قد باشره من قبل. والحق أنه لم يكن أتم المطابقة بين اسمي وصورتي وحسب، كان قد أتم في يومه العصيب ذاك صناعة النسق الذي بقي لعلاقتي به حتى الساعة. وهو نسق يقوم على تدخل غسان تويني في حياتي تدخلاً جد متباعد، قد لا يدوم في غير ثوان في كل مرة ولكنه يجرني في بعض المرات، إلى تغيير جسيم فيما أفعل وفيما أكون.
***
ولأضرب مثلاً أو اثنين! في سنة 1993، دعيت إلى ندوة كُرّست للبحث في تصور لمركز الدراسات الإسلامية المسيحية الذي كان قد تقرر إنشاؤه في جامعة البلمند. وكان غسان تويني على أهبة التخلي عن رئاسته للجامعة. بدا لي أن الندوة المتعددة الجنسية تتجه بالمركز، على نحو ما، شطر مسيحية وإسلام معلقين في الفضاء ولا جنسية لهما. فاقترحت من غير سبق لتصور أو تصميم، إنشاء خلية في المركز تعنى بالطائفية اللبنانية من حيث هي شباك دائمة الحراك والتغير من الوقائع والعلاقات ومن التمثلات والمواقف والتصرفات. وقلت إن هذه الخلية حق للبنان على المركز ما دام المركز قائماً في لبنان، وإن لم يكن مختصاً به، وإن الحالة اللبنانية مختبر لصيغة من التخالط المسيحي الإسلامي غير محدودة الدلالة بحدود لبنان، وهذا مهما تكن درجة الخصوصية التي عليها. وفيت قسطي للعلى إذن متوقعاً أن يليه النوم عن كثب. على أنني، وأنا خارج من القاعة إلى استراحة القهوة، وجدت نفسي أسير لثانيتين بجوار غسان تويني. واتضح لي أن الثانيتين كافيتان ليلتفت إلي غسان تويني قائلاً: (هذا الاقتراح الذي قدمته، تفضل بتنفيذه). تكلم وهو يشعل سيجارته، ولكن شعرت أنه كبس رأسي لا زرّ القداحة وأنني غرقت لسنوات ما كان بوسعي أن أتوقع عددها في كلمات قليلة سوّلت لي النفس الأمّارة أن أتلفظ بها في تلك الجلسة.
نحن (من نحن؟) قوم يسعنا أن نقترح تعديلات جسيمة في نظام العالم إن وقعنا على قارئين اثنين أو على ثلاثة مستمعين. وآخر ما يخمنه واحدنا إذ يرفع عقيرته باقتراح على من يقول له: (قم فنفذ). هل أقول إن هذا ليس من (حضارتنا) في شيء؟ مالي ووضع نفسي في مواضع التهم؟ ما تعلمته يوم ذاك أن رياضة الاقتراحات الهوائية يجب تجنبها في حضرة غسان تويني. وما خبرته قبل أن تنقضي استراحة القهوة تلك أن أشخاصاً (وأشياء) في الجامعة أصبحوا (وأصبَحَت) رهن إشارتي. وهكذا نشأ (مرقب العيش المشترك) في المركز الوليد وغدا ركناً من أركانه… إلى أن أسقطته بعد سنوات أربع، واقعة وقعت تتصل بحق القيمين عليه في توجيه دفته. تلك واقعة لا محلة ٍللخوض فيها ها هنا. فإن غسان تويني كان قد ترك الجامعة فور اختتام الندوة. وكان يقيني أنه لو كان لا يزال يقودها، في سنة 1998 لما وقعت تلك الواقعة من أصلها.
في زمن أقرب إلى يومنا هذا (أي قبل عامين أو ثلاثة)، كنا خارجين، أنا وغسان تويني من ندوة أخرى واتفق أن ركبنا المصعد معاً. كان عليَّ أن أواجه مصيري لا لثانيتين فقط بل لعشر على الأقل. ولم يخرق غسان تويني في المصعد، حظر التدخين الذي يخرقه في أي مكان. بقي متفرغاً لي إذن. (قررنا في دار (النهار) أن نعتمد من نسميهم (كتاب الدار) فننشر لهم أعمالهم بانتظام. واسمك في رأس اللائحة): هذا ما قاله. (هذا شرف لي يا سيدي): هذا ما قلته، فأنا لا تعوزني الأجوبة البائخة في الملمّات. وأما الجواب الجواب فكان يعتمل في صدري، ونحن نفترق عند باب المصعد. (ما له ولي هذا الرجل؟ كم كتاباً جديداً سيكون عليَّ أن أدبِّج دفاعاً عن موقعي في (رأس) لائحته؟) نحن (من نحن؟) قوم نحفظ لنفسنا الحق كلما نشرنا كتاباً أن نتنفس بعده الصعداء وأن نعده الأخير. لا نقطع على أنفسنا عهداً بذلك… لا نسجل شيئاً بهذا المعنى عند كاتب العدل. ولكننا حين يقيض لنا الفراغ من كتاب آخر نعده خيانة جديدة لعهد لم نقطعه متعة هذا العهد المعلق وهذه الخيانة غير المؤكدة هي ما شعرت بأن غسان تويني أفسده عليَّ إلى أجل غير مسمى في ذلك المصعد. اعمل! اعمل كأنك تعيش أبداً.
في أيام سعدك لا يحملك غسان تويني أي عبء ولو قضيت معه ساعتين لا عشر ثوانٍ وحسب. حصل لي ذلك مراراً، ولو أن ما سبق لا يؤشر بإمكانه. ذات يوم سنة 2005، دعاني غسان تويني مع صديقي فارس ساسين مستشار دار (النهار) وهنري لورنس المؤرخ الفرنسي المعروف للمشرق العربي إلى غداء في مطعم. وكانت المناسبة زيارة لورنس إلى بيروت. وفي الحديث، روى لورنس طرفاً من زيارة قام بها إلى جنوب لبنان واستقبلتهُ خلالها في بنت جبيل، بلدتي. فنوّه ساسين بكتيب قديم لي عنوانه بنت جبيل – ميشيغان قصصت فيه وقائع زيارة قمت بها سنة 1988 لجاليتنا في ديربورن. سألني غسان تويني إن كان بقي عندي نسخ من الكتاب. فذكرت له أن النسخ، وكانت قليلة أصلاً، نفدت من زمن بعيد وأن الدار التي تبنت الكتاب لم تنشر غيره واختفت. فالتفت تويني إلى ساسين قائلاً: (أعيدوا نشره).
هكذا هو غسان تويني، يحملك أي شيء: همَّاً من هموم العالم تحسب نفسك بمنجاة منه أو هدية محضة. لا يتوقف عن استفزازك لتقول أحسن ما عندك أو لتستنبط شيئاً حسناً تقوله وإن لم ينشر لك كتاباً حملك كتاباً نشره: ضخماً في الأغلب: (بعلبك) أو مجموعة (الأحرار المصورة)، مجموعة (المجلة الفينيقية) أو مجموعة (فينيسيا) إلخ… شعرت، في ذلك المطعم، أن عليَّ أن أوسع مفهومي للكرم حتى يتسع لغسان تويني.
***
حصل لي أن قضيت بصحبة غسان تويني أكثر من ثوان وأكثر من دقائق أو ساعات. الشهران الماضيان مثلاً، حملني عمل أقوم به على قضائهما بتمامهما في قراءة تلة ضخمة من قصاصات (النهار). قصاصات فوق قصاصات من أعداد (النهار) المنتشرة من عام 1947 إلى عام 1951. وفي غمرات حملة القراءة هذه، طالعت نيفاً ومائة مقالة لغسان تويني هي بعض افتتاحياته الأولى للجريدة نشرها وهو يتدرج من سن الثانية والعشرين إلى سن الخامسة والعشرين، ليس في مقامي هذا متسع لحديث غسان تويني كاتب الافتتاحية. ولكن أحب أن أذكر صورة ألحت علي وأنا أتنقل بين تلك الافتتاحيات. (الفورمولا وان) يشبه هذا الفتى سيارة انتقلت من سرعة صفر إلى سرعة مائة من غير حاجة إلى ثوانٍ: لا خمس ولا ثلاث. لا تشعر أن كاتب الافتتاحية هذا (تكوَّن) بما هو كاتب افتتاحية. تشعر بأنه (حط) في الجريدة تام الخلقة الصحفية من أول مقالة، هذا حديث غير حديث هنا في كل حال..
في عام 1995، وقعت في (سر المهنة وأسرار أخرى) (الكتاب الآسر الذي قصَّ فيه غسان تويني أطراف من تجاربه في الصحافة وغيرها)، على صورة لذاك الفتى نفسه يوم تخرجه من هارفرد سنة 1947. يظهر الفتى في الصورة واقفاً بجانب زميلة له تعدله طولاً وزميل لهما منفرد عنهما انفراداً يسيراً، تكاد قامته أن تعدل قامتيهما معاً وفي تعليق على الصورة أسله معها إلى والده، يقول الفتى أن طوله وعرضه يبدوان قليلين بالقياس للأمريكيين كما يتضح من طول زميله وعرضه…
كنت قد أصبحت أليفاً نسبياً لطلعة غسان تويني ابتداءً من سنة 1988. فقد أصبحت أراه كثيراً لدواعٍ مختلفة في ظروف نهاية الحرب وابتداء ما بعدها. أراه كثيراً: أي مرتين أو ثلاثً كل سنة.. في باريس، في بوسطن، في فرايبورغ، في لارنكا، إلخ… وفي مكتبه في (النهار) وفي بيته ببيت مري أيضاً وفي مواضع أخرى متفرقة. أراه كثيراً بالقياس إلى سيرتي معه في الأعوام الـ44 الأولى من عمري، وهي أعوام لم أكن قابلته فيها قط. وعبر هذه اللقاءات كلها، بقي مستقراً في خلدي أن غسان تويني رجل فارع الطول. فلما وقعت على تلك الصورة في الكتاب، عجبت أشد العجب من الكلام الذي كتبه إلى أبيه بشأن قامته، وبيت في نفسي التصميم على جلاء الأمر حالما تسنح لي فرصة أخرى لرؤية الرجل. ولم تلبث الفرصة أن سنحت. فثبت عندي بعد إعمال النظر الموضوعي، أن الرجل أدرى مني بقامته وأنه، وإن لم يكن رَبعة في الرجال، فهو رجل معتدل الطول لا أكثر ولا أقل.
أحسب أن قامة غسان تويني الداخلية هي ما كنت أراه قبل أن أحزم أمري على الموضوعية. أو أن طريقتي في الشعور بحضوره كانت تشمخ بقامته المادية في إدراكي من غير افتعال من جهتي ولا تعمد.
* أستاذ جامعي