لم تزل العلاقات اللبنانية – الفلسطينية، رغم المقاربة الجديدة التي اعتمدتها الحكومة اللبنانية منذ 2005، مستندة الى إلحاح الامساك بكل مفاصل الملفات العالقة، لم تزل هذه العلاقات، وبسبب من اختلالات الرؤية، اللبنانية – اللبنانية، والفلسطينية – الفلسطينية، عرضة لاستعمالات البازارات السياسية الضيقة، ناهيك باتصالاتها بملف شائك على مستويين لا رابط لكل منهما بالآخر باستثناء الالتباس التدميري الذي حكم التماس بين الطرفين خصوصاً بين 1975 و2005.
المستوى الاول قائم في مقاربة مسألة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. والمستوى الثاني مستقر في خطر التورط الفلسطيني العسكري في لبنان بمعنى الانحياز الى هذا الفريق ضد ذاك أو العكس. التوطين شبح سنتطرّق اليه لاحقاً.
في المستوى الاول كل تقدم لتسهيل حياة اللاجئين الفلسطينيين يجابه بمقولة “التوطين”. وفي المستوى الثاني مع أي طرح حول نزع السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها، وهذا ما أكده استاذي الزميل جهاد الزين(•) على أنه اقتناع راسخ غير قابل للتأويل في فكر الرئيس محمود عباس، تنطلق أوركسترا مواجهة “التوطين”. فيُمسي من هم في موقع القرار في إشكال لامتناهٍ، إذ أن الحقوق “توطين”، وصدّ التوطين “تشريع السلاح”. في المحصلة حتماً، ودون وجل، “بلدنا مريض وطوائفه مريضة” يردّد مرجع رسمي رفيع. عنده كل الحق.
في أي حال، يأتي “إعلان فلسطين في لبنان” جواباً صريحاً من الشرعية الفلسطينية على قرارها بالانسحاب النهائي من اللعبة السياسية اللبنانية، ما يرفع الغطاء عن أي إمكان افتعال توترات بين الشعبين الشقيقين، لم يتوقف المغرضون في إطلاق شراراتها من مخيم نهر البارد. كانت بروڤات في مخيمي عين الحلوة وبرج البراجنة بالغة الدلالات. طوّقتها حكمة الشرعيتين، ورفضهما التسليم الاّ بسلطة الدولة وسيادتها، على الرغم من أن هناك من حاول الدفع في اتجاه إعادة تشكيل لجان أمنية ثنائية، أو ثلاثية، أو رباعية. المفارقة أن هذا الدفع تولّى تسويقه بعض الافرقاء اللبنانيين. الحمد لله فشل التسويق، وانتصرت الشرعيتان معاً إنما لسيادة الدولة.
والانسحاب الفلسطيني النهائي من لبنان، اقله إعلاناً، ولو مثقلاً باختراقات مموهة الانتماء الفلسطيني، يلاقي على ما يبدو ما ورد في “إعلان بيروت” أنه: “نريد أن نقول لاشقائنا الفلسطينيين: لقد طوينا نهائياً صفحة الحرب المشؤومة، التي كنا، نحن وأنتم، من ضحاياها، على اختلاف المواقع، والتصورات، والرهانات والاوهام (…) خلاص لبنان لا يكتمل الا باستقرار الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة سيدة (…) إن لبنان المعافى داخلياً هو خير عون لقضية فلسطين ولكل القضايا العربية (…) لم تعد القضية الفلسطينية مسألة خلافية بين اللبنانيين (…) وعليه فإننا نرفض معكم الاستغلال السياسي الذي يتعرّض له وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. كما نتضامن معكم للحصول على كامل حقوقكم الانسانية. كذلك ينبغي أن نعمل معاً على بسط سيادة الدولة اللبنانية على جميع المخيمات (…) نحن نؤمن، أخيراً، بأن قيام دولة فلسطينية مستقلة في حدود العام 1967، وعاصمتها القدس، تكون مسؤولة عن الفلسطينيين في الداخل كما في بلدان الشتات، سيساهم الى حد بعيد في حل مشكلة اللاجئين، وسيطرد شبح التوطين الذي نرفضه وإياكم على السواء”.
هذا التوصيف الرؤيوي لا لبس فيه لجهة موضعة حرّة سيدة مستقلة وشاملة تستند اليها الدولة اللبنانية في معالجتها قضية اللاجئين الفلسطينيين على أرضها، حتى عودتهم المنصوص عنها في القرار 194 الذي يتحدث عن “حق العودة والتعويض”. الواو هنا ليست “أو”. من هذا الاغفال تتأتّى كل بنية الهلوسة السياسية الضيقة، بأن تصريح الرئيس الاميركي جورج بوش اسقط حق العودة. لا يعنينا ما يقوله بوش. بل ما نريده نحن اللبنانيين كما الاخوة الفلسطينيون. ولا حاجة لتكرار ما حسمه الدستور اللبناني، وقرارات القمم العربية المتوالية الملازمة لما صدر عن الشرعية الدولية. وبدل أن ننبري معاً لبناء استراتيجية ديبلوماسية وازنة دولياً، ترى حملات التخوين والتحريض، تتاجر بقضية قومية لإخفاء مطامح شخصية، وإمرار مشاريع جماعية على حساب الدولة. كم من جريمة تُرتكب يومياً بحق لبنان واللبنانيين باسم درء المتآمرين للتوطين. التاريخ وحده منصف.
وما ورد في “اعلان بيروت” يلاقيه اعلان فلسطين في لبنان” في اعترافه بإثقال الفلسطينيين لبلد شقيق حتى تهديد صيغته، والاستقواء بالسلاح، والاعتذار عن لبنان، ورفض اشكال التوطين والتهجير، ومركزه أمن الانسان الفلسطيني على غرار المواطن اللبناني بيد الدولة، والابتعاد عن روحية مقايضة الحقوق بالسلاح. هذا كلام جازم. ينقصه الحسم في مسألة “السلاح” نعم. فمجرد الالماح فيه الى “النضال السلمي الديموقراطي” استثار سخط من يصرون على ان “السلاح ورقة سياسية، وحاجة ضد التوطين”. السلاح الفلسطيني المموه بعضه، مربطه ليس فقط اقليميا، بل ايضا لبناني لتأجيل البحث في واجب الا يكون في لبنان سوى بندقية الشرعية اللبنانية. لذا كان قبل الاعلان هجوم عليه فلسطينياً انما بمساندة لبنانيين، رغم قرارات هيئة الحوار الوطني.
بيت القصيد في الاعلان انه ينهي منطق “لبنان – الساحة”، هذا انجاز اول عمل ويعمل على تخريبه كثر بالاستعراضات للعضلات التسلحية، والخطابات النارية الجوفاء. الانجاز الثاني يتمثل في الاقرار بأولوية “ارساء العلاقات اللبنانية – الفلسطينية بين الشرعيتين: الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية – دولة فلسطين”، بما معناه سحب التفويض من المتاجرين بالقضية.
هذا الانجاز استهل في 2005 رسميا. على الدرب عثرات حتما. معركة نهر البارد كانت اخطرها لكنها لم تقم بقرار لبناني. فرضها ارهابيون على الحكومة والجيش اللبناني. على ما يبدو ما زال البعض يضربون على وتر ان المعركة كانت لبنانية – فلسطينية، ويستخدمون وجع الناس وقوداً. المخيم سيعاد اعماره وكفى استهدافا لهذا القرار تارة بالتكذيب، وطورا بالاستهجان الذي نشتم منه عنصرية مقيتة.
بعد معركة نهر البارد وانتصار الشرعيتين اللبنانية والفلسطينية، يأتي “اعلان فلسطين في لبنان” توكيداً لانتفاء مبررات الحديث عن ان فلسطين في لبنان ورقة، وتجرّؤا على الخبراء في استخدام الاوراق لجرف شعبين مناضلين في اتون صدامات عبثية تكرّسهم اوصياء. العبثية الاكثر تفخيخا هي المذهبية الديموغرافية التي يتلفظ بها صغار. متى نكون انسانيين في خطابنا السياسي؟
(•) جهاد الزين – إعلان غير تاريخي – “قضايا النهار” – الاربعاء 9/1/2008.
(الكاتب عضو اللجنة الحكومية اللبنانيةللحوار اللبناني – الفلسطيني )
نقلاً عن النهار
حول نفس الموضوع:
في ما بين النقد الذاتي الفلسطيني وانتفاضة الإستقلال المهدّدة
بيار عقل