رويترز) – توفي يوم الثلاثاء في القاهرة المؤرخ المصري يونان لبيب رزق عن 74 عاما.
وقال عماد أبو غازي المشرف على اللجان بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر إن رزق الذي كان عضوا بلجنة التاريخ بالمجلس توفي “صباح اليوم وكان يمارس نشاطه العلمي بشكل معتاد حتى اليومين الماضيين” حيث كان يكتب لأكثر من عشر سنوات صفحة أسبوعية عنوانها (الأهرام.. ديوان الحياة المعاصرة) بصحيفة الأهرام.
ولد رزق يوم 27 أكتوبر تشرين الأول عام 1933 وتخرج في قسم التاريخ من كلية الآداب بجامعة عين شمس عام 1955 ونال الدكتوراة من الجامعة نفسها عام 1967.
ولرزق كتب منها (الحياة الحزبية في مصر في عهد الاحتلال البريطاني) و/حرية الصحافة في مصر من عام 1778 حتى عام 1924/ و/مصر والحرب العالمية الثانية/ و/قراءات تاريخية على هامش حرب الخليج/ عام 1991 و/الأصول التاريخية لمسألة طابا.. دراسة وثائقية/ و/طابا قضية العصر/ ويؤرخ في هذين الكتابين للنزاع المصري الإسرائيلي على قرية طابا الحدودية الواقعة على خليج العقبة والتي استعادتها مصر عام 1989.
ونال الراحل جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية من مصر عام 1995 وجائزة مبارك في العلوم الاجتماعية عام 2004 وتعد الأخيرة أرفع الجوائز في البلاد
كان سامح سامي قد أجرى المقابلة التالية مع د. يونان لبيب رزق التي نشرها “الشفّاف” في 25 مايو 2004، ونعيد نشرها في ما يلي:
الدكتور يونان لبيب رزق:
الدين عنصر من عناصر صناعة التاريخ وليس التاريخ
أجرى الحوار: سامح سامي
الدكتور يونان لبيب رزق أحد أهم المؤرخين المصريين حاليا. فهو أستاذ تاريخ مصر المعاصر بجامعة عين شمس، مقرر اللجنة العلمية لمركز تاريخ مصر المعاصر، ومشرف على مركز تاريخ الأهرام، له العديد من المؤلفات وصلت حتى الآن أكثر من 34 كتابا،. في هذا الحديث طرحنا معه عددا من القضايا للحوار، منها ما هو خاص بالتاريخ المصري ومنها ما هو راهن وخاص بالواقع الآن.
*ثار خلاف بين المؤرخين في تحديد تاريخ مصر سواء الحديث أو المعاصر؟ فمتى بدأ تاريخ مصر الحديث وتاريخ مصر المعاصر؟.
**إن عملية تحقيب التاريخ المصري موضع اختلاف بين المؤرخين المصريين. فبينما يرى البعض أن تاريخ مصر الحديث يبدأ بالحملة العثمانية أو الفتح العثماني لمصر عام 1517، يرى البعض الأخر أن هذا التاريخ يبدأ بقدوم الحملة الفرنسية على مصر عام 1798. وطبعا لكل طرف من الطرفين حجته. فأولئك الذين يقولون بقدوم الفرنسيين يرون أن الفترة العثمانية كانت أقرب في كل معطياتها إلى العصور الوسطى، وبالتالي فلا ينطبق عليها التوصيف بأنها تاريخ حديث.
بينما الذين يرون أن الفتح كان بداية لتاريخ مصر الحديث فهم يربطون ذلك بأوربا؛ لأنه في نفس التوقيت تقريبا، أي أوائل القرن السادس عشر، بدأت أوربا نهضتها الحديثة ودخلت العصور الحديثة. وكما أقول، فكلا الطرفين له حجته. وطبعا القول بأن التاريخ الحديث يبدأ بعصر محمد علي عام 1805 قول رصين ولكن لا يمكن الفصل بين الحملة الفرنسية وعصر محمد علي؛ لأن الفرق بينهما سبع سنوات. وإذا كان هناك ثمة خلاف، فأن الآخرين الذين يرون بأن تاريخ مصر الحديث يبدأ بتولية محمد علي عرش مصر وبناء مصر الحديثة عام 1805 لهم حجة وجيهة وهي انه”لا ينبغي أن نبدأ تاريخنا الحديث بحدث أجنبي وبقدوم حملة أجنبية على البلاد”. أما القول بأن نشأة الأحزاب السياسية عام 1907 بداية لتاريخ مصر المعاصرة، أو ثورة 1919، فهو ليس صحيحا؛ لأن تاريخ مصر المعاصر له قضية مختلفة عن قضية تاريخ مصر الحديث.
لأن التاريخ المعاصر”الكونتمبرري” هو شيء مختلف عن الحديث”المودرن”. والتاريخ المعاصر هو تاريخ المفترض أن يكون قد عايشته أجيال لا تزال قائمة على قيد الحياة. ونحن عندما كنا في مستهل دراستنا الجامعية في أوائل الخمسينيات كنا نعتقد أن ثورة 1919 بداية لتاريخ مصر المعاصر؛ لأن هناك من عايشوا هذا الحدث وعاصروه. وأظن أنه بعد مرور حوالي نصف قرن فإن سنة 1919 لم تعد نقطة بداية ملائمة لبداية تاريخ مصر المعاصر.
وأريد أن أقول إنه ليس هناك كلام نهائي كما قلت لك فهناك اختلافات حول هذا الموضوع.
*وهناك من يصنف التاريخ على أساس ديني!
**أنا لست من أنصار تقديم توصيفات دينية للتاريخ المصري، ممكن أقول الحقبة الفرعونية ولكن أن اسمي فترة بعينها بالحقبة القبطية وفترة أخرى بالحقبة الإسلامية فكأننا نحدث عملية صراع بين الحقب التاريخية المختلفة. وهو صراع لا محل له لأن التاريخ المصري كما قال الدكتور ميلاد حنا في كتابه “الأعمدة السبعة للشخصية المصرية” عبارة عن رقائق متراكمة فوق بعضها البعض ولا يمكن الفصل بين الفترة التي تلت الفترة الفرعونية وبين تلك التي تلت العربية أو الفترة الحديثة، فكلها نتاج حركة تاريخية واحدة. لهذا فأنا لست من أنصار تصنيف التاريخ تصنيفا دينيا. حتى في أوربا، لم يصنفوا التاريخ على أساس ديني. فقد صنفوا التاريخ إلى الفترة القديمة والفترة الوسطى والفترة الحديثة. ورغم أنه في الفترة الوسطى كانت الكنيسة الكاثوليكية تتحكم أشد التحكم في مسار الأوربيين وكان يمكن أن يسموا هذه الفترة بالعصر المسيحي، ولكن سموا هذه الفترة بالفترة الوسطى؛ لأن الدين عنصر من عناصر صناعة التاريخ وليس التاريخ كله.
*هناك رؤية لبعض الأقلام في الآونة الأخيرة تري أن مدرسة الحزب الوطني القديم هي التي كانت سببا في التطرف بل وفي ضياع الحقوق المصرية نتيجة التشدد في مقابل الواقعية ؟
**الحزب الوطني القديم نشأ في ديسمبر عام 1907 عندما أسسه مصطفى كامل، وإن كان من الناحية الواقعية موجودا عندما أصدر مصطفى كامل جريدة اللواء في يناير عام 1900. وكان هذا الحزب يتبع الأساليب السياسية حنى ارتكب إبراهيم الورداني حماقته. وأنا اسمي ما فعله الورداني حماقة؛ لاني لا أبرر استخدام العنف من المصريين للمصريين لكن أبرره من المصريين للمحتلين، وعدم تبريرى للعنف لسبب واحد وهو ليس لتعاطفي مع جانب على حساب جانب أخر، وانما لأن العنف يؤدي في نهاية الأمر إلى نتائج وخيمة جدا. فمثلا عندما اغتال الورداني بطرس غالي باشا عام 1911 أدى ذلك إلى كوارث جاءت لتاريخ مصر. فقد أدى إلى مصادرة الحريات وأدى إلى نفي محمد فريد وإلى تحالف الخديو عباس حلمي الثاني مع الإنكليز وعودة سياسة الاتفاق مرة أخرى، بالإضافة إلى أن محمد سعيد الذي خلف بطرس غالي كان أكثر رؤساء الوزراء تشددا في تاريخ مصر. والكارثة نفسها حدثت عند اغتيال الأخوان المسلمين للنقراشي باشا عام 1948, وإذا نظرت من هو المستفيد الأساسي من هذا العنف تجده الإنكليز. وأنا أميز بين العنف الوطني ضد الأجانب المحتلين وبين الإرهاب، ولسوء الحظ ان الإرهاب يأخذ من الدين ستارا له مثل اغتيال الورداني لبطرس غالي وعبد المجيد للنقراشي ومحاولات اغتيال الخازندار؛ لان الإرهاب يشحن عقول البعض بان العنف”الإرهاب” هو الجهاد. ولكن الجهاد الصحيح في رأيي هو الذي يكون ضد أعداء الوطن وليس أعداء أبناء الوطن. مهما اختلفنا مع بعضنا البعض واتهمنا بعضنا بالخيانة رغم أن تهمة الخيانة عسير جدا إثباتها، ومن قال إن النقراشي خائن وبطرس غالي كان خائنا.
*اذكر أن الورداني وقتئذ قال كمبرّر لقتل بطرس غالي:”إن بطرس غالي متحالف مع الإنكليز لمد امتياز قناة السويس بعد انتهاء مدة الاتفاق الأول ليصبح الامتياز حتى سنة 2004، وهذا ما جاء في كتاب”مصر المجاهدة” للكاتب عبد الرحمن الرافعي.
** هذا ما حاول ان يبرره عبد الرحمن الرافعي؛ لانه كان من أنصار الحزب الوطني القديم فكان يحاول تبرير هذه الأعمال.
وأيضا سنة 1924 عندما حدثت حادثة اغتيال السير ستاك كان إنكليزيا وكانت الفكرة نفسها مقبولة واستغلها الإنكليز استغلالا شديدا جدا لحرمان مصر من المكتسبات التي اكتسبتها مصر منذ عام 1922. وما يبين أن هذا العنف كان في صالح الإنكليز وليس ضدهم قول اللورد اللنبي المندوب السامي البريطاني في ذلك الوقت: “لقد أرسلت لنا الأقدار جثة السردار لمواجهة موقف لم يعد محتملا”. معنى ذلك أن الاغتيال ليس هو الحل للمشكلات، بل في كثير من الأوقات يؤدي إلى تعقد هذه المشكلات. خلاصة القول إن مدرسة الحزب الوطني القديم خرج العنف من قلبها، وأيضا التشدد في مقابل الواقعية. نعم هذا ما حدث بقولهم:”لا مفاوضة إلا بعد الجلاء”. وهذه نظرة رومانسية جدا.
وفى الوقت نفسه لا نستطيع أن نقسم التاريخ إلى ثنائية بين التشدد والواقعية فلكل حدث بيئته المحيطة والمشكلّة له.
* بمناسبة الحديث عن التشدد والواقعية والرومانسية في المفاوضات، اعلم انك شاركت في مفاوضات طابا فما رأيك بالمفاوض الإسرائيلي والمفاوض العربي؟.
** كان لي الشرف أن أشارك في الوفد المصري لحل قضية طابا، والقضية هنا بالأساس “أساس العمل”. ولعل السبب في نجاح المصريين في مفاوضات طابا أساس العمل الذين اتبعوه. فكان نظام عمل متحضر ومنتظم وقائم على الروح الجماعية، وكانت هذه الامكانات يتميز بها الجانب الإسرائيلي. وبعد نجاح مفاوضات طابا طالب البعض بتدريس وتطبيق هذه الامكانات وان نسميها”نموذج طابا”.
* كمؤرخ ما رأيك في سيل المذكرات المنهمرة علينا الآن؟.
**ليس عندنا في مصر والعالم العربي تقاليد كتابة المذكرات بعد، ولما عرف العالم المتقدم كتابة المذكرات عرفها لكي تستفيد الأجيال الآتية منها. وقد عرفها العالم المتقدم من خلال الأشخاص العموميين أو رجال السياسة أو من يشتغلون بالحياة العامة الذين اعتزلوا الحياة العامة بمحض إرادتهم. ولكن في مصر لا توجد هذه الشخصيات. ومنْ يكتب مذكراته يكتبها من منطلق المدافع عن ما فعله وإظهار نفسه كأنه بطل وفعل ما لم يفعله الأولون ولا الآخرون، وكل هذا بالطبع يضعف من قيمة المذكرات. وهذا عكس مذكرات الأشخاص العموميين في العالم كله التي تكون مفيدة للباحثين وتتسم باليسر والموضوعية.ومنْ يريد قراءة المذكرات الآن في مصر لابد من أن يتسلح بروح نقدية شديدة وبعين نفاذة.
*التجربة الحزبية الآن في مصر ما رؤيتك لها وهل هي امتداد للتجربتين الأولى والثانية أم هي تجربة جديدة؟.
**عرفت مصر ثلاث تجارب حزبية… التجربة الأولى التي نشأت عام 1907، عام نشاة الأحزاب السياسية في مصر، وكانت مع قيام الحرب العظمى أو التي سميت بعد ذلك بالحرب العالمية الأولي عام 1914. والتجربة الثانية بدأت مع قيام الوفد عام 1919، وانتهت مع حل الأحزاب السياسية سنة 1953. أما التجربة الحزبية الثالثة فهي التي نعيشها الآن. وكل تجربة من التجارب الثلاث بها قسمات من التجربة السابقة عليها ولكن بها في نفس الوقت اختلافات شديدة، ومن بين هذه القسمات وجود ما يسمى بالحزب العملاق. ففي التجربة الأولى كان الحزب العملاق هو الحزب الوطني القديم، وفي الثانية كان حزب الوفد، وفي الثالثة الحزب الوطني الحاكم.