عن وثيقة “إعلان فلسطين في لبنان”
قبيل انفجار “حرب السنتين” في لبنان، وهي كانت حرباً فلسطينيّة ـ لبنانيّة توازي حرباً لبنانيّة ـ لبنانيّة، كان المثقّف السوريّ ياسين الحافظ يطالب بإحلال شعار “لبننة العرب” بدلاً من الشعار المرفوع “تعريب لبنان”.
فالحافظ، اللاجئ يومها إلى بيروت، لم يستوقفه السطح السياسيّ الذي تسمّرت عنده المقاومة الفلسطينيّة وحليفتها “الحركة الوطنيّة” حينذاك، بل ذهب إلى صلب مجتمعيّ أعمق وأوثق يندرج فيه وضع المرأة وحريّة البحث ووجود الأحزاب والنقابات وحال الصحافة. وهي جميعاً تعيش لبنانيّاً في سويّة متقدّمة بالقياس إلى مثيلاتها في العالم العربيّ.
وكان ما كان مما أفضى إلى انهيار هذا البلد ونموذجه، وهو معروف للجميع. لكن 11 أيلول (سبتمبر) أعاد إشعارنا، أو إشعار بعضنا، بضرورة لبنان، وبأن النموذج الذي دافع عنه ياسين الحافظ أهمّ بكثير من “عدد الدبّابات” التي نعى ستالين افتقار بابا روما إليها.
فحين ضُرب البرجان ووقعت بقرتنا كثُر الذبّاحون، وكانت الحجّة التي ردّدها البعض لأنهم يتمنّون لنا التقدّم، والبعض الآخر لأنهم لا يكتمون مشاعر عدائيّة لنا متعالية علينا، أننا لا نملك، في هذا العالم الإسلاميّ، نموذجاً يعيش فيه المختلفون المتغايرون بسلام.
يومذاك بدا كم كان مُكلفاً فقد لبنان مقابل إطلاق حفنة من صواريخ الكاتيوشا، أو من صواريخ أطول مدى قليلاً.
ولأسباب قد لا تكون مطابقة للوارد أعلاه، داور “إعلانُ فلسطين” الأخير واعتذارُه “غير المشروط” الحقيقةَ هذه: ذاك أن “الوجود الفلسطينيّ في لبنان، بحجمه البشريّ والسياسيّ والعسكريّ، قد أثقل كثيراً على هذا البلد الشقيق ورتّب عليه أعباءً فوق طاقته واحتماله، وبالتأكيد فوق نصيبه المعلوم من واجب المساهمة في نصرة القضيّة الفلسطينية (دولة مساندة)، الأمر الذي أصاب دولته واقتصاده واجتماعه الإنسانيّ وصيغة عيشه إصابات بالغة لم تعد خافية على أحد”.
وفي الشقّ الأخلاقيّ، أخلاقيٌّ جدّاً كلامٌ كهذا، يستدعي من مقابله اللبنانيّ استجابة من الطينة نفسها، علماً بأن “منظّمة التحرير” لم تطلبها. وهو إذا ما حصل كان ضرورة لبنانيّة أيضاً، أخلاقيّة وسياسيّة في آن.
فكما يُطالَب الفلسطينيّون بالاعتذار عن تصديع ألحقوه بوطن ونموذج، وعن دم سفكوه، يُطالب اللبنانيّون بالاعتذار عن آلام مماثلة أنزلوها بالفلسطينيّين تتعدّى الدم إلى هضم أبسط الحقوق الانسانيّة ومنعها عن أصحابها، وتتجاوز المَقاتل إلى الإذلال والمهانات التي تذكرها المخيّمات والحواجز من دون استثناء.
أما سياسيّاً، فتسوية العلاقة اللبنانيّة بالفلسطينيّين، وهي إجراءات تتّصل بالعمل والانتقال وسواهما قبل أن تكون اعتذاراً، شرطٌ شارط لاستقرار لبنان نفسه. ولم يكن نهر البارد قليل الدلالة على نتيجة التجاهل والإهمال وما يترتّب عليهما من أصوليّة مسلّحة بقدر ما هي ملوّثة تهدم الهيكل على رؤوس الجميع.
ثم ان لبنان الطامح إلى التساوق مع جواره ومحيطه في “الاعتدال العربيّ”، فضلاً عن صورته عن نفسه، لا يسعه أن يتساوق حين يعالج الفلسطينيّين بأحقاد الطوائف بدلاً من قوانين الدولة.
بيد أن اللبنانيّين، شأنهم شأن الشعوب ومشاريع الشعوب جميعاً، لا يعتذرون إلاّ حين يضعون الحروب وراءهم. وللأسف، فهذه مرتبة لم نبلغ إليها بعد.
لهذا يسهل على الفلسطينيّين في لبنان أن يعتذروا لأن أحداً في هذا البلد لا ينافسهم على شرعيّة منظّمتهم. أما اللبنانيّون الذين لم ينجحوا في بلورة “منظّمتهم”، أي الشرعيّة الجامعة المتّفق عليها ومن ثمّ الرواية الواحدة لما حصل، فأمرهم مع الاعتذار أصعب.
لكننا إذ نتذكّر غزّة واحترابها من جهة، وأن “مقاومة إسرائيل”، من جهة أخرى، لا تزال العنوان الأبرز لتصديع الشرعيّة اللبنانيّة، نخال أن فهم ما حصل، منذ 1975، وربّما منذ 1948، شرط لعدم التكرار. والأمر يبدأ بإقرارنا جميعاً بمركزيّة الدولة ونهائيّتها في حياتنا لبنانيّين وفلسطينيّين وغير ذلك. فالدولة القائمة، التي لا دولة غيرها إلاّ في الأوهام الإيديولوجيّة، هي هي الأمّة وهي هي أداة الوطنيّة ومؤسّستها.
وإذا كانت مفهومةً مرارة الفلسطينيّين من أن الدول العربيّة قد نشأت من ضمن نفس العمليّة التي حالت، في الأربعينات، دون دولة فلسطينيّة، بقيت لنا حقائق أخرى جديرة بالاهتمام. فأن تنهار الدول القائمة فهذا معناه، والتجارب وراءنا كثيرةٌ، حروبٌ أهليّة و/أو دول أصغر تكون أقلّ قدرة على إقالة الفلسطينيّين من عثارهم. في المقابل، فإن كلّ نجاح تحرزه الدول القائمة، وكلّ تعزيز لنماذجها، تقصير للمسافة التي تفصلهم عن نيل دولتهم.
والراهن أن أبناء المشرق العربيّ كلّهم، لا سيّما منهم أهل فلسطين، دفعوا كلفة الاختلاط الدمويّ حيث الدكتور جاكل قوميّةٌ وأخوّةٌ فيما السيّد هايد تذابُح وتكارُه. والأكذوبة الضخمة هذه امتُحنت مرّتين على الأقلّ في تاريخنا المعاصر القريب نسبيّاً:
مرّة بعد 1948 حين صار “أبناء أمّتنا” و”أخوتنا” لاجئين فلم نعاملهم، على ما تستدعي المزاعم العروبيّة، كما عامل الألمان أبناء ألمانيا المقيمين خارجها، في أوروبا الوسطى، حينما هُجّروا منها. يومها، حين عُهد إلى “الأونروا” بالإنجاد ونُحّي الفلسطينيّون إلى خارج المجتمعات القائمة ودورات حياتها، تبدّى أن الدول والتوازنات الأهليّة الناشئة أقوى من المزاعم القوميّة المذكورة. مع هذا، بقي من ذلك توسّل “قضيّة فلسطين” لأغراض السلطات القائمة، على حساب شعب فلسطين.
ومرّةً أخرى عندما ترافق “انتصار العروبة في لبنان”، مرموزاً إليها بالرعاية البعثيّة، مع حروب في طرابلس والمخيّمات استنزفت الفلسطينيّين وأدمتهم على نحو غير مسبوق، قبل أن تتولّى سياسات الضبط الاجتماعيّ والأمنيّ تحويل مخيّماتهم بؤراً للبطالة والبؤس وتفريخ تنظيمات الإيمان المسموم.
فليس صدفةً، من ثم، أن يلتفت فلسطينيّو لبنان هذه الالتفاتة فيما فلسطينيّو فلسطين يشيحون بأبصارهم عن “الثورة”، ويصبّون اهتمامهم على “الدولة”، ما يستدعي، في ما يستدعيه، وداعاً جليلاً للسلاح، الفلسطينيّ منه وغير الفلسطينيّ، في المخيّمات وفي سائر لبنان أيضاً.
المستقبل