من يتذكّر 14 آذار 2005؟ من يتذكّر تلك الوثبة المحمومة؟ تلك الخفقة المجلجلة للقلوب؟ كان حلماً، فصار كابوساً.
هل كان حلما خطيراً؟ ام كان حلماً في ارض خطيرة؟ هل كان علينا ساعتذاك ان لا نحلم؟ تجنبا للكابوس؟ استباقا للكابوس؟ هل الحكمة الاستشرافية كانت ممكنة في تلك اللحظة، الأكثر قربا من الحلم؟ لحظة انبعاث الحياة من رماد الموت؟ الفرح من الشجن؟ التخفّف من القهر؟ لحظة صرخَ فيها لبنان العميق: هيا الى لبنان الذي نحب. لبنان على صورة احلامنا القديمة المنسية. هيا ننتشل هذا اللبنان من الفولكلورية التي غرق فيها عبر عقود من الخيالات المنقوصة، الممنوعة عن واقعها، والمجمّدة الى آجال توراتية.
كان حلما، لا مشروعا، لا خطة، لا أجندة… ولا مؤامرة بالطبع. تلاقينا حوله ونحن نحلم. بكل ما في الحلم من ضبابية وسوريالية ورغبات وقلّة تدبّر. حلم اوحي لنا، نحن غالبية اللبنانيين، في لحظة تجلٍّ. هذا ما قلناه للمشكّكين من بيننا، الذين بخلوا على حلمنا صفة “التأسيس”. لحظة تأسيس الوعي اللبناني الجديد بلبنانيته: “أن نبقى موحّدين الى ابد الآبدين”، وهذا من أهون استنتاجات الحروب الاهلية القريبة… ومرارات الفرقة والوصايات التي استدرجتها.
هي ما زالت تأسيسية، تلك اللحظة؛ بالرغم من خفوت ملامحها الآن. ربما لأنها لم تنغرز بعد في ارض مطمئنة. لحظة تأسيسية قد تتحول مع ما ينتظرنا من اضطرابات اضافية الى مجرد نقطة روحية تنشلنا من اليأس النهائي. اليها نركن في مسيرتنا الطويلة منعاً لانتقالنا الى يأس آخر. وهو مصير تعرفه احلام وطنية مبكرة… ربما.
اذاً، قد نكون بكّرنا في الحلم بالديموقراطية والاستقلال؛ كما بكّرنا ربما في الاستقلال الأول، نحن وبقية العرب. الاستقلال من الاستعمار، الذي لم نكن جديرين به، ولم نصنع منه غير مجتمعات ممزّقة و”دول” ليست بدول؛ لا قانون فيها ولا مؤسسات… الخ.
حلِمنا… وها نحن نصرخ “خلّصونا!”. ونرتعب خوفا من نشوب حرب اهلية او من تفجير امني او من اغتيال آخر، ونفرّ الى ارض الله الممكنة. منذ وقوعنا في اسر الحلم، منذ اقل من ثلاثة اعوام، سُفِك المزيد من الدماء ونُحِر المزيد من الأنفس والمؤسسات، وشُلّ المزيد من الاقتصاد، وخيض المزيد من الحروب (إقليمية ومحلية)، ثم هاجر المزيد من الشباب والشابات. الساحة نفسها التي شهدت هبوط الحلم على المتظاهرين، تحولت الى ثكنة مخابراتية بعدما قادت طلائع المعتصمين فيها محاولة اقتحام السرايا الحكومية، واستمعوا بحماسة مسبقة الى قائدها يخوِّن فيها سكانه… بأنهم تواطأوا مع الاسرائيليين ضده وضد حزبه… الخ.
المذاهب بعد الطوائف تحولت الى دشم ومتاريس. الشوارع والاعلام والعائلات، والاصدقاء والزملاء، تصفع بعضها بعضا، وتحيي احقادا تاريخية وهمية او مطوية، تغذّيها سموم السياسيين اليومية وعنجهيتهم، وسجالاتهم الهابطة والمملّة، وتجريحاتهم المكرّرة وانحدار مستوى الفاظهم.
حتى هذه اللحظة، ذلك هو مآل الحلم: لم يتحقق. بل هو يقترب من الكابوس. مزيد من الكوابيس المقبلة. وهو ينبئ بضرورة تعليقه موقتا. بهذه الذريعة، قد يلجأ قادته الى المساومة عليه، والعودة عنه، وعما اعتراه من “شوائب”، وبرضا من فهِم قدر حصته.
لم يكن حلما “مغدورا”. اعداؤه لم يختبئوا، لم يتنكّروا، ولم يسكتوا. من مهرجان “الوفاء لسوريا” مرورا بحرب تموز وانتهاء بالجهر بمتانة التحالف مع ايران وسوريا. ايران الآن، لم يحسب الحلم الديموقراطي لها حساب. خصوم الحلم في الداخل، حلفاء اعداء الحلم في الخارج الاقليمي. الارث السوري الثقيل والمتجذر. ترسانة صواريخ ومصالح وتحالفات وايديولوجيات… كلها “ممانعة”. والحليف الايراني الآن.
كان يمكن قادة الحلم ان ينتبهوا الى خطرهم؛ اثناء الانتخابات البرلمانية، مثلا. ولكنهم لم يفعلوا. خوفا من سقوطهم هم انفسهم. كان ذلك يقتضي قانون انتخاب جديداً، لا يجدد في الضرورة لزعامتهم. واستمرارهم زعماء طوائف وممثلين لها في المؤسسة الاشتراعية التابعة للدولة. كان مرهونا باستمرار خصومهم.
التواطؤ الطائفي هذا هو تواطؤ ضد النفس. انه سبب ونتيجة. تعميق التفرقة بين اللبنانيين؛ بمنع اي خطوة او مؤسسة، تستطيع ان تكون اطارا واحدا لهم، توحّدهم، وإن موقتا. “المجتمع المدني” نفسه. او بالاحرى المجتمع الاصولي الديني المسلح… ماذا يبقى؟ ميشال عون، الذي كان من باريس يصدح بخطاب وطني جامع، تحول بعيد عودته الى لبنان “زعيما مسيحيا” إضافيا، يتنافس مع بقية المسيحيين من الزعماء على حصته بين المسلمين.
لم ينوجد بعد حلم 14 آذار إطار يجمع حامليه مرة اخرى في بقعة واحدة. اللهم سوى الجنازات التي سارت خلف الشهداء، الذين سقطوا لأنهم كانوا يطالبون بالكشف عن قتلة من سبقهم من شهداء: يلتقون حول غضب يكاد العجز ان يهزمه. وافضل ما سمعوه في هذه الجنازات المتضائلة كان كلاما عن ثمن الحلم. الموت ثمنا لحلم. “ما ابشع الاحلام!”، تكاد تقول لنفسك.
لم ينوجد اطار واحد يلتقي فيه غالبية اللبنانيين من كل المذاهب والطوائف، حول فكرة لبنان وحده. لبنان قبل غيره. لبنان أولا واخيرا! قد يكون هذا النقص هو سبب الضعف الروحي لللبنانيين. ضعف حافزهم الداخلي العميق تجاه لبنان. رغم هواهم به وتتيّمهم بربوعه.
الارث السوري. ولكن العربي ايضا. والأسلمة خصوصا. والأسلمة المذهبية في لبنان بصورة أخص. الشيعية منها وقد رست على السيد المعصوم القائد الى يوم الدين. فيما السنّية منها موزّعة بين تيارات و”قاعدة” ومخابرات وزعامة حذرة. والاصوليتان، لا حاجة للتكرار، تنبذان “الشرّ المطلق” الآتي من الغير بكل حذافيره. فأين نذهب بحلم الديموقراطية؟
لنبْني لبنان الديموقراطي، علينا ان يكون لنا لبنان. دولة لبنان. ذات قانون وسيادة وحرمة. عكس “الساحة” التي تعتنقها الميليشيات الام، المتباهية بصواريخها وعقيدتها الخاصة وعلَمها الخاص وقانونها الخاص ومخابراتها الخاصة: دويلتها الخاصة. فضلا عن الميليشيات النظيرة، التي تحاول تقليد نموذجها المنتصر، الذي نجح في الاحتفاظ بكينونته، كميليشيا مسلحة… في وجه اسرائيل نفسها.
قال لي كاتب اسلامي عربي بشماتة الذين تأكدت صحة نظريتهم: هل تحقّقتم من التجربة، انتم اللبنانيون، بأن التعددية نظام غير قابل للحياة عندكم؟ ولا تالياً عندنا؟ وبأن الناس كلهم يجب ان يكونوا على دين الله فحسب؟
الفشل حتى الآن هو فشل لفكرة، بعد فشل لملمة الكيان. العربي الشامت بسقوط النموذج اللبناني التعدّدي، هو بدوره ساهم في هذا السقوط. انه “المحيط العربي”، الذي لم نعتد على قياس حجم تأثيره، ولا تعيين مواضع هذا التأثير.
الاصولية والطائفية او المذهبية سيان. وهي مقترنة بالجهادية، وبصناعة الغوغائية الانتصارية الجارفة. اسرائيل معها “شر مطلق” ابدي. و”حزب الله” هو قائد مواجهتها، فتهبّ الجماهير صائحة بحياته وبزعيمه وبانتصاراته، فيكسب الحزب شرعية شعبية فضائية، هي واحدة من مرتكزات جبروته في إفحام الخصوم؛ فجمهور “المحيط العربي” صار بفضل سلطة الفضائيات “حاكماً” ايضاً… بعد الحكّام “الرسميين”.
أضِف الى ذلك ان الدولة ضعيفة في هذا “المحيط العربي”. مع انها شرسة وقاهرة، او هي بسبب ضعفها كانت كذلك. ومن كان الأقوى من بين ابنائها يستولي على مقدّراتها بروح ابن القبيلة او العائلة او الطائفة. الأضعف من بينهم يبتزّ الأقوى، أو يستقوي عليه بميليشياه المسلحة وغير المسلحة. الاستثناء الوحيد، لبنان، حيث الميليشيات المهددة، والمستقوية والمبتزة… اقوى من الدولة.
هذه الميليشيا صاحبة الغلبة الصاخبة على الارض، أغرت جمهورها الفضائي الحاضن لها بالتباس صميمي: سمّت نفسها “معارضة”. “المعارضة” بالعربي… في التعريف العربي البائد طبعا، مظلومة ومغلوبة وبريئة؛ مقصية من المشاركة واتخاذ قرار. اما ان تكون “المعارضة” اللبنانية، بكل مظلوميتها هذه، قادرة على مجابهة اسرائيل، فهذا من باب المعجزات الإلهية فعلا!
“الربيع العربي” الذي حلّ علينا بعيد الغزو الاميركي للعراق، والضغوط الغربية على الدول العربية لكي تصلح نفسها، لم تدم طويلا. تعقيدات العراق، ونتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وعدم تأهّل العرب لغير مقاتلة بعضهم بعضاً وقتل غيرهم، أفضت الى فتور هذا الربيع الذي لم يدَم اكثر من ثلاث سنوات.
الاميركيون في لبنان كانوا الأحقّ من بين الامكنة الاخرى، العربية خصوصا. فاذا كانوا يساندون اسرائيل في تشبثها وثباتها، ويبحثون في العراق عن تأمين مصالحهم الخاصة، حتى على حساب “الديموقراطية” التي لم تساعدهم… الخ، فإنهم في لبنان شيء آخر: بعدما كانوا قد غطّوا الوصاية السورية عليه، اصبحوا الآن من المعادين لها. لا يريدونها، لأنها لا تتناسب مع مصالحهم الجديدة. ألم تكن هذه فرصة ثمينة تقدّمها لنا الامبريالية الاميركية؟ وكنا في انتظارها منذ زمن؟ كما تبين لدى خروجنا عن بكرة ابينا في 14 آذار 2005 مطالبين الوصاية بالكف عن البقاء بيننا؟ لم يحصل النصيب. الحظوظ التاريخية لم تؤازرنا: البنية، التوزانات، النظام الطائفي… وفي المقابل اولوية العراق، مهارة الايرانيين في إشغال الاميركيين بأوهام القنبلة النووية، جماهيرنا الطائفية المذهبية المؤمنة بقائدها ايمانها بأنبيائها، والجماهير الجهادية الهاتفة بحياتها.
اللبنانيون يحتاجون ربما الى إعادة تعريف لبنانيتهم. الى اعادة صياغة لبنانيتهم. لا بواسطة زعماء طوائفهم، المعادين الاول للبنانيتهم، ولا بواسطة “الجمعيات الاهلية” التابعة لهذه الطوائف. يحتاجون الى الاجابة الصريحة، غير الانشائية، غير الخطابية: هل يريدون دولة؟ قانونا؟ وايّ دولة؟ وايّ قانون؟ البدء من دولة وقانون يستطيعون الاستسلام للحلم من غير الخشية ان يفيقوا على كابوس!
dalal.elbizri@gmail.com
النهار