(يسعد “الشفّاف” أن ينشر هذا الموضوع كبشرى لقرّائه بأن الدكتور عبدالله المدني خرج من الحادث الصحّي الخطير الذي تعرّض له محتفظاً بكامل قدراته وبكامل “ليبراليته”. نرجو ألا يبقى من هذه المحنة سوى أنها كانت مناسبة ليعبّر أصدقاء عبدالله الكثيرون عن محبّتهم وتقديرهم لشخصه ولعمله الإستثائي).
**
استطاعت الأنظمة المتعاقبة في باكستان دائما أن تستفيد من التقلبات والتطورات الدولية والإقليمية بمثل ما لم تستفد أية أنظمة أخرى، سواء لنيل مشروعية كانت تنقصها أو إنقاذ الوطن من إفلاس اقتصادي أو تعزيز قدرات المؤسسة العسكرية أو نيل التأييد و الدعم لسياساتها إزاء الجار الهندي، أو لتحقيق كل هذه الأهداف مجتمعة. فمثلا حينما روج الأمريكيون والبريطانيون لمشروع حلف بغداد في الخمسينات، وجدت حكومة رئيس الوزراء الأسبق شهيد سهرواردي فيه وسيلة لتعزيز قدرات البلاد العسكرية في مواجهة الهند والحصول على معونات مالية وفنية معتبرة، فقررت الانضمام إلى الحلف المذكور دونما اكتراث لمناشدات العديد من الدول العربية والإسلامية أو لمباديء إسلامية ألزمت باكستان نفسها بها وقت ولادتها.
وفي أواخر السبيعينات قام رئيسها الديكتاتور العسكري الجنرال ضياء الحق الذي كان نظامه يفتقد إلى الشرعية بخطوة مماثلة، وذلك حينما انتهز حدوث الغزو السوفياتي لأفغانستان لتحويل بلاده إلى جبهة رئيسية للجهاد ضد موسكو وحلفائها في كابول. فكان أن حصل نظامه على الشرعية معطوفة على مساعدات عسكرية ومالية ببلايين الدولارات من الغرب وبما ساعد على بقاء نظامه طويلا. أما في بداية التسعينات فتخلصت حكومة بي نظير بوتو من مشاكل ضعفها وانهيار الأوضاع الاقتصادية في البلاد وتراجع أهمية باكستان الاستراتيجية بفعل انسحاب السوفييت من أفغانستان وانتهاء الحرب الباردة بانضمامها سريعا إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت من القوات العراقية. وبذلك ضمنت المكافأة في صورة مساعدات عسكرية ونفطية ومالية كبيرة، وبالتالي نجحت في التغلب على مشاكل داخلية خطيرة.
وتكرر الأمر في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي جعلت دوائر صنع القرار في واشنطون تهدد برد فعل يعيد باكستان إلى العصر الحجري باعتبارها حامية نظام طالبان الأفغاني والمساهمة الكبرى في استمراره كحاضن لجماعة القاعدة وحلفائها من المتشددين. حيث سارع نظام الرئيس الحالي الجنرال برويز مشرف إلى تغيير سياساته الأفغانية بمقدار 180 درجة والاستجابة لمطالب سبعة قيل أن نائب وزير الخارجية الأمريكي وقتذاك ريتشارد ارميتاج نقلها إلى رئيس المخابرات الباكستانية الجنرال محمود احمد الذي تصادف وجوده في واشنطون وقت هجمات سبتمبر، ومن بينها الانضمام إلى الحرب ضد الإرهاب في أفغانستان وغيرها.
وكالعادة لم يكن الانقلاب المثير في الموقف الباكستاني من حال إلى نقيضه دون ثمن. إذ استطاع مشرف بذكاء أن يستفيد من انضمامه إلى الحرب الأمريكية ضد الإرهاب في تعزيز شرعية نظامه وتمتين قدرات جيشه بأحدث الأسلحة الأمريكية والحصول على مساعدات وقروض وهبات بقيمة عشر بلايين دولار مكنته من إنعاش الاقتصاد الباكستاني، إضافة إلى منع واشنطون من الرهان كليا على الخصم الهندي، وإقناعها برفع العقوبات عن مبيعات الأسلحة الأمريكية لبلاده وإدارة النظر بعيدا عن مشاريع باكستان النووية.
لكن مشرف العارف بأوضاع بلاده وما تعانيه من انقسامات سياسية وطائفية وعرقية وقبلية وجهوية حادة، وما تشكله هذه الانقسامات من تحديات تستوجب الحذر، حاول في الوقت نفسه أن ألا يتماهي كليا مع شروط ومطالب واشنطون. فبينما كانت بلاده منخرطة رسميا في الحرب ضد الإرهاب كان جنرالاته يحيون روابطهم القديمة مع رموز طالبان، الأمر الذي مكن الطرف الأخير من مشاغبة الأمريكيين في أفغانستان وتحقيق انتصارات ضدهم، وبعبارة أخرى تصرف مشرف مع بقايا طالبان و تنظيم القاعدة بازدواجية، بمعنى انه كان يتراخى في ضربهم كلما شعر بأن النتيجة تكون تأليب قبائل البلاد البشتونية وأحزابها الأصولية المتعاطفة مع طالبان ضد نظامه، ويتشدد في ملاحقتهم كلما استشعر أن الحليف الأمريكي منزعج أو يهدده بحجب المساعدات، وهذه السياسة المراوغة عرفها الأمريكيون فكانت ردود أفعالهم قوية وتمثلت في أكثر من واقعة في إرسال مبعوثين إلى إسلام آباد لنقل رسالة واضحة إلى مشرف مفادها انه لا يستطيع الحصول على مساعدات أمريكية إلا بانتهاج سياسات أكثر جدية في ملاحقة بقايا طالبان والقاعدة من الذين بنوا لأنفسهم معسكرات داخل الأراضي الباكستانية بدعم من قبائل الحدود الشمالية الغربية حيث لا وجود للسلطة المركزية، بل وصل رد الفعل الأمريكي إلى التلويح بإمكانية خرق القوات الأمريكية المتواجدة على الجانب الآخر من الحدود لسيادة باكستان، وهو ما أشعل غضب جنرالات مشرف ضد واشنطون في سابقة لم تحدث سوى مرة واحدة من قبل في تاريخ علاقات واشنطون بالمؤسسة العسكرية الباكستانية وذلك حينما اصطدم الجنرال ضياء الحق بالأمريكيين بعيد انسحاب السوفييت من أفغانستان، حيث حاول ضياء الحق الحصول من واشنطون على ضمانات تؤهل بلاده للعب الدور الأول في تقرير الأمور في أفغانستان المحررة، الأمر الذي كانت واشنطون تعارضه بسبب تعارضه مع ما كان الأمريكيون قد اتفقوا عليه مع الرئيس السوفياتي وقتذاك ميخائيل غورباتشوف في جنيف.
لكن أين تكمن معضلة الأمريكيين في باكستان؟ الجواب هو أهمية هذه الدولة بالنسبة لاستتباب الأوضاع في أفغانستان و تحجيم قوة الحركات الأصولية والإرهابية المتشددة، وإذا كانت العين الأمريكية على هذه الزاوية، فعينها الأخرى على قدرات باكستان النووية التي لو سقطت في أيدي الإرهابيين في حال انتشار الفوضى وانهيار السلطة في باكستان فسيكون ذلك بمثابة الكارثة للولايات المتحدة، فحينئذ من المتوقع أن تتقاسم المناطق الباكستانية بما فيها تلك التي يسيطر عليها أتباع طالبان و القاعدة ليس فقط ترسانة البلاد من السلاح النووي وإنما أيضا خبرات علمائها الذين سيتوزعون طبقا لأصولهم العرقية والقبلية، وهذا تحديدا هو أكثر ما يرعب الأمريكيين خاصة وان باكستان وهي تحت السيطرة و التحكم باعت أسرارا نووية إلى جهات كثيرة معادية في نظر الأمريكيين على نحو ما أفصحت عنه التحقيقات في قضية العالم النووي الباكستاني عبدالقدير خان، بل على نحو ما أفصحت عنه تقارير للمخابراتية الألمانية مفادها أن اثناين من زملاء عبدالقدير و هما الرئيس السابق لوكالة الطاقة النووية الباكستانية الدكتور سلطان بشير الدين محمود و الدكتور تشودري عبدالمجيد زارا المدعو أسامة بن لادن داخل كهفه الأفغاني – مؤخرا لحثه على الحصول على السلاح النووي ، ونظرا للاهميتين المذكورتين نشطت الدبلوماسية الاميركية مؤخرا من اجل تفادي مثل هذا السيناريو الخطير، وذلك عبر ضغطها على مشرف لتقاسم السلطة مع رئيسة الحكومة السابقة بي نظير بوتو المرغوب فيها أمريكيا بسبب توجهات حزبها ( حزب الشعب العلمانية والليبرالية، والمعروف أن مشرف رضخ لتلك الضغوط فعقد اتفاقا مع بوتو سرعان ما سقط على خلفية قراره المتسرع بفرض الأحكام العرفية في البلاد، وهو القرار الذي عارضته واشنطون رغم علمها أن صاحبه اتخذه للحيلولة دون وقوع ما تخشاه واشنطون وهو الفوضى، ومشرف المدرك جيدا لعدم وجود خيارات أخرى لواشنطون في باكستان سوى تأييد نظامه العسكري، وحاجة الأمريكيين لخدماته خاصة في هذا الوقت الذي تواجه فيه واشنطون مشاكل خطيرة في أفغانستان و العراق و تواجه فيه إدارة الرئيس جورج بوش سباقا رئاسيا صعبا، تصرف ضد كل النصائح والتحذيرات التي انهالت عليه من واشنطون ولندن بضرورة إعادة الحكم إلى المدنيين و إجراء الانتخابات النيابية القادمة في موعدها ورفع حالة الطواريء، بل بدا أيضا مشاغبا بمحاولاته التفاهم مع خصمه اللدود رئيس الحكومة الأسبق نواز شريف غير المرغوب فيه أمريكيا، وذلك بتوسيط السعوديين الذين تربطهم علاقات خاصة قديمة بباكستان وقياداتها واحزابها الدينية والسياسية، وهو ما أثمر عن عودة نواز شريف من منفاه السعودي إلى باكستان مؤخرا، لكن مشرف يبدو انه لا يعول كثيرا على عودة خصمه إلى البلاد لجهة تخفيف حدة الصراعات السياسية الراهنةكون نواز شريف ليس رقما صعبا فيها وحمايتها
ومن الأمور الأخرى التي لجأ إليها الأمريكيون لتفادي السيناريو المرعب المذكور آنفا، تلويحهم مؤخرا بضرورة أن تكون لها سيطرة فعلية على ترسانة باكستان النووية، الامرالذي اغضب جنرالات المؤسسة العسكرية ودفعهم إلى التصريح بان قدرات باكستان النووية في مأمن و موجودوة في أماكن لا يمكن حتى للأقمار الاصطناعية الأمريكية أن ترصدها فكيف يمكن لأصوليين يعيشونون في الكهوف أن يتمكنوا من الوصول إليها ويسيطروا عليها
و الحال أن الأوضاع في باكستان سوف تستتب في نهاية المطاف لللجنرال مشرف، الأمر الذي يعرفه مشرف عين المعرفة بناء على سوابق تاريخية مشابهة ، فطالما أن المؤسسة العسكرية تتبعه و مخلصة له ، فان الأمور ستتوجه نحو الاستتباب، و إن أراد آخرون غير ذلك، وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن تأييد الجيش للرئيس عامل حاسم في باكستان، و هذا التأييد اليوم في أعلى درجاته بسبب، سعادة الجيش بما فعله مشرف ضد السلطة القضائية التي شاغبت المؤسسة العسكرية في مناسبات عديدة سابقة عبر إثارة قضايا فساد أو إفساد ضد جنرالاتها.
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh