قامات إعلاميّي إذاعة ألشرق الأدنى أم صياح الديكة على منبر “الاتجاه المعاكس”؟
يفترض كما في الأمم التي نهضت من كبوتها، أن يقود المثقفون موجة التغيير في المجتمعات‘ وتفعيل دورهم بعدم ارتهان كلمتهم وانحيازها إلا لصالح القيم الإنسانية وإن غلا الثمن. وإن إشكالية دور المثقف العربي ستبقى رهنا لتجاذبات مختلفة تمليها المصالح الاقتصادية والأمنية للمثقف.
واللافت للنظر أيضا هو صعوبة تقبل واستيعاب الظواهر التي تحمل التغيير، كونها تنقض أو تتعارض مع ما هو سائد ومتعارف عليه. وليس إعادة تقييم تلك الظواهر وإعادة الاعتبار لها يحالفه التوفيق دوما. وللإيضاح ومناسبة الحديث هو رأي الأستاذ فيصل القاسم في إحدى حلقات برنامجه الاتجاه المعاكس حول دور الفضائيات الغربية الناطقة باللغة العربية والموجهة للمشاهد العربي. حيث قال، بما معناه، في مقدمته التساؤلية المعتادة، بأن إذاعة الشرق قد دعمت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
إن رأيا كهذا إنما هو من باب إطلاق الكلام على عواهنه. وطالما فعلها القاسم في موضوعات عدّة. ولا يجدر بأعلامي بحجم فيصل القاسم إطلاق الأحكام المغلوطة تاريخيا. فأنا من المعجبين بكتابات القاسم وبخطه الوطني، وان كان برنامجه يثير التوتر في الكثير من حلقاته، ويعكس صورتنا كأمة صوتية أكثر منها أمة مفكرة وعلى قاعدة ( خذوهم بالصوت) أو (الفاجر بياكل مال التاجر). وهذه ليست حرية أفكار بل تثقيف على الصراخ ونحن لدينا منه الكثير. على كلّ حال فلنترك إساءة الأتجاه المعاكس وتربيته وتثقيفة المعوج. ولنتناول الموضوع التي وقع فيه الفاسم مسيئا الى الحقيقة والتاريخ والمواقف المشرّفة.
وردّي على الأستاذ فيصل القاسم ذو شقين..
الأول.. أن الرأي يتضمن تشبيها مبطنا لإعلامي إذاعة الشرق الأدنى بالكثيرين من إعلاميي ومثقفي وقتنا هذا وكثيرين منهم ضيوف برنامج الاتجاه المعاكس. وهذا لعمري إجحاف وظلم ما بعده ظلم بحق الرواد الأوائل ودورهم التاريخي في تأسيس وتطوير الإذاعات والتلفزيونات العربية.
حقا أن الإنكليز قد أسّسوا الإذاعة في أوائل الأربعينات الفلسطينية في مدينة جنين للرد على الإذاعة الألمانية التي كانت موجهة باللغة العربية إلى الجمهور العربي . ثم انتقلت الإذاعة إلى يافا ثم القدس وأخيرا إلى قبرص. لكن الفريق الإذاعي حصل على هامش من الحرية كبير، اذ اقتصر دور الإنكليز على إعداد نشرات الأخبارفقط، فيما انبرى الإعلاميون الفلسطينيون إلى ملء ساعات البث الطويلة وعلى الهواء مباشرة وذلك لعدم توفر التسجيلات في ذلك الوقت. فقاموا بجمع التراث الشعبي الفلسطيني من كل أنحاء البلاد‘ ثم انطلقوا إلى البلاد العربية فجمعوا التراث اللبناني والسوري والأردني من حكايات شعبية وأغان فولكلورية.. كما استضافوا كبار الفنانين والكتاب العرب أمثال عبد الوهاب وأم كلثوم وتوفيق الحكيم وطه حسين . وساهموا في اكتشاف وإطلاق مواهب فنية عديدة مثل عبد الحليم حافظ وفيروز والأخوين رحباني وتقديم الفرص لهم للإبداع وذلك بسبب توفر الإمكانيات المادية.
فريق الإذاعة هذا انتشر لاحقا بعد إغلاقه إلى الدول العربية‘ مؤسسا ومطورا لوسائل الإعلام العربي . ففي بيروت كان صبري الشريف ومحمد الغصين وكامل قسطندي المسؤول الفني وكاتب الدراما للاذاعة وقد اخرج وهو شاب يافع العديد من المسرحيات لعملاق الفن المسرحي يوسف وهبي . وفي العراق كان صبحي ابو لغد. في عام 1958 سافر محمد الغصين ومصطفى ابو غربية الى الكويت حيث قاما بتأسيس إذاعة الكويت. بعد ذلك بدأ إنشاء الإذاعات في الخليج العربي، فقد زار كامل قسطندي وفريقه السعودية حيث التقوا وزير الإعلام السعودي وتم التعاون معه بشأن إعداد العديد من البرامج. عام 1969 تلقى الفريق الإعلامي للإذاعة دعوة لزيارة أبو ظبي لافتتاح اذاعة هناك .هذا قليل من كثير من المشاريع الفنية مثل تأسيس ستديو بعلبك للتصوير والتسجيل . ثم اختراع ما يسمى بالبرامج المعلبة‘ أي الجاهزة والمعدّة مسبقا. وكان كامل قسطندي أول من أدخل الإعلانات الغنائية، وما زال جيلي يذكر ونحن صغارا دعاية (أسبرو خليه صديقك. أسبرو خليه رفيقك).
أفاد الفريق الإعلامي إذن من فرصة التعاون مع الإنكليز بالتعلم وتطوير إمكانياتهم‘ فكانوا الدعائم الأساسية التي قامت عليها الماكينة الإعلامية العربية من دون التخلي عن وطنيتهم التي عبروا عنها ببناء حضارة إعلامية، وهنا ندخل في الشق الثاني من ردي على الافتراء الذي طال إذاعة الشرق الأدنى.
الحقيقة أن الإذاعة لم تدعم الاحتلال الثلاثي ضد مصر عام 1956 بل ان العكس هو الصحيح وأن إغلاق الإذاعة جاء نتيجة ذلك العدوان.
استقالة جماعية وإغلاق للإذاع: أثناء العدوان دخلت عناصر من الجيش البريطاني إلى الإذاعة ومعهم تعليمات يجب أن توجه الىالشعب المصري وكانوا يحملون رشاشات صوبت الى رؤوس المذيعين وقالوا لهم:( هذه الإذاعة أصبحت ملكا للجيش البريطاني في قبرص وعليكم أن تلتزموا بما يقال لكم) وفي ظرف مأساوي سمع الجميع المذيعة مسرة فاخوري تبكي وهي تقرأ التوجيهات التي أعطيت للشعب المصري من قبل الجيش البريطاني (بأن الجيش سيشن غارات جوية على مصر ويجب أن يبتعد السكان عن الأماكن التي يستهدفها القصف). وفي تلك الفترة بالذات كان مدير الإذاعة البريطاني رالف فوستين محبا للعرب وقد اجتمع مع موظفي الإذاعة وقال لهم وهو يبكي (هذه ليست بريطانيا التي أعرفها . هذه ليست بلادي. هذه دولة استعمارية قتلت إذاعة الشرق الأدنى). وقد اعتقله الجيش البريطاني ورحّله في اليوم الثاني الى بريطانيا. وتقدم الفريق الاذاعي باستقالة جماعية. وبعد انتهاء العدوان حاول الإنكليز إعادة الأمور إلى نصابها لكن الفريق الاعلامي رفض وأصر على الاستقالة.
كان الموقف حرجا بالنسبة لهؤلاء الإعلاميين.. فالوطن سلب منهم ولا أمكانية للعودة إليه. وكان عليهم إيجاد أمكنة عربية يفجرون فيها طاقاتهم للتعويض عن فقدان الوطن بدل ارتهان كلمتهم ودورهم لمن يدفع الثمن الأعلى.
والسؤال المشروع الآن: هل يمكن وضع كل الإعلاميين وكل وسائل الإعلام في سلة واحدة؟ وهل يمكن مقارنة عمالقة إعلاميي إذاعة الشرق الأدنى بإعلاميين يطبلون ويهللون للاحتلال ونهب ثروات الشعوب المستضعفة؟
كنت قد سجلت مذكرات الإعلامي المخضرم كامل قسطندي المتعلقة بتجربته الإذاعية وعلى خمس حلقات في جريدة الخليج الاماراتية في أيلول سنة 1998، ويمكن العودة إليها لمزيد من الإيضاح.
albakir8@online.no
لبنانية فلسطينية من لبنان مقيمة في أوسلو
لقد أخطأت يا فيصل القاسم!
صدقت والله فالأتجاه المعاكس فعلا يربي على الصراع ويثقف على النزاع ويعطي تصور ان تبادل الأراء هو نزاع بين فحلين يتقاتلان على أنثى. لذلك يشك أغلب المثقفين في أنّ عذه الجزيرة تحاول تشويه أجمل ما توصل اليه العقل المتحضر وهو حرية الأفكار وابادل الأراء.