أن يعقد «إعلان دمشق» مجلسه الوطني بنجاح، وأن تجري انتخابات شفافة ونزيهة، وأن ينجح البعض ويخسر آخرون، و«يزعل» البعض وينسحب، والسلطة تستدعي وتعتقل العشرات، وتطلق الاتهامات من هنا وهناك، ويبرز صوت المستقلين، وتبرز التمايزات وتدار بديموقراطية، هذا كله في سورية الطوارئ والاستثناء والمعتقلات!!! إنّ في ذلك رائحة طيبة.
حدث عادي، أن يتمكن «إعلان دمشق» للتغيير الوطني الديموقراطي من عقد مجلسه الوطني الموسع، ولكن فقط لو كان هذا الانعقاد خارج سورية! الإعلان الذي يضم مختلف أطياف المعارضة السورية (قوميين، يساريين، ليبراليين، إسلاميين، مستقلين، أكراد وآشوريين)، تمكن من عقد مجلسه في ظروف أمنية وسياسية بالغة التعقيد والدقة، وهو بعد سنتين على تأسيسه، أثبت أن المعارضة الوطنية تتمتّع بمناعة جيدة ضد القمع والتضييق والتهميش. وأنها تخطو خطوات حثيثة نحو تعزيز العملية الديموقراطية بين صفوفها وضمن آليات عملها، هذا ما تشهد عليه نتائج انتخابات الأمانة العامة والمجلس الوطني التي حصلت أخيراً. وأنها ماضية في هدفها الأساسي، العمل العلني السلمي من أجل التغيير الوطني الديموقراطي.
وعادي جداً أن تبادر السلطة إلى اعتقال واستدعاء العشرات ممن حضروا المجلس الوطني، وأن يكون ذلك هديتها للسوريين في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولو لم تفعل لشكّ المرء بنفسه وواقعه وسلطته، وخُيّل له أن ما حصل مجرّد حلم لم يقع حقيقة، وأن المجلس لم يُفلِح في الانعقاد بعد سلسلة العقبات الموضوعية والذاتية التي تقف في وجهه، وأن بياناً ختامياً لم يصدر عنه، يخلص في نهايته إلى أن «الوقت الذي يفصلنا عن التغيير الوطني الديموقراطي، سواء كان قصيراً أم طويلاً، ينبغي أن يملأه العمل الدؤوب والقادر وحده على تخفيف آلام الانتقال أو تجاوزها، من أجل تعزيز حالة الائتلاف، وتحويله إلى حالة شعبية قادرة على فرض التحوّل وشروطه الداخلية… ومع استمرار النظام بنهجه العاجز عن الإصلاح والرافض له، فإن المجلس مصمّم على أن يدعو الشعب السوري إلى نضال سلمي وديموقراطي متعدد الأشكال، يؤدي إلى تحسين أوضاع البلاد وقدرتها على استعادة قوّتها ومنعتها».
عادي أيضاً، أن تبادر بعض الأقلام المحسوبة على السلطة بنعي الإعلان، وفي نظرها أنّ ما أسفرت عنه الانتخابات من هزيمة أحد الأحزاب الكبيرة، وما تبع ذلك من خلافات، هو بداية النهاية. تلك هي حصيلة الثقافة الرسمية عن الوطنية والديموقراطية، فالاختلاف لديها مذمّة، والتناسخ الفكري طريق النجاح، والتعدّد درب التشرذم والتفكّك، والأبدية في الوجود والقيادة سنّة الحياة.
عادي أن يخسر أحد الأحزاب في انتخابات المجلس الوطني الذي صرّح أمينه العام بعيد الانتخابات، بأنهم «حراس لخط التغيير الوطني الديموقراطي ولن نقبل بأي انحراف عنه…»، وذلك أن الناس ببساطة، منهكة من خضوعها المستديم للحراسة. ولأن أفكارها ومبادئها وطموحاتها، ملّت حراسها الزاعمين الحفاظ على مشاعر الأمة وهيبتها. إذ إن وضع تلك المبادئ والطموحات والأحلام، أكثر من أربعة عقود تحت تليسكوب السلطة، يصيبها بالغثيان، فهي تعي بلوغها سن الرشد وعدم حاجتها لأوصياء وأولياء على ما تفكر وتشعر به، وهي تؤمن بحقها وحق منتقديها الحرّاس على اختلافهم هذه المرة، بالاختلاف.
وعادي أيضا أن يعتبر حزب خاسر نفسه «ضحية تآمر تيارين قومي وليبرالي»، وأن «الذين قاموا بالتعبئة لديهم نظرة حذرة تجاهنا قائلين: إننا نهتم بالتحديات والأخطار الخارجية أكثر من الوضع الداخلي…». مثل هذه التصريحات يجب أن تشعر السوري بالسعادة، لأنه يسمع مثيلاتها في بلدان أخرى عديدة، وليس في بلده، ليس في سورية انتخابات حرة نزيهة تجري، فيخسر طرف ويربح آخر، فهذا يندد وهذا يتهم وذاك يهنّئ، وليس غير اعتيادي أن يصعب على بعض الأطراف التحلل من إرث شمولي مديد في التفكير والتعامل، وأن يصعب عليها تفهّم، لماذا يجب على الآخرين ألا يبرزوا أوراق اعتمادهم الوطنية في كل حين، وأن يستبدلوا شتم أميركا بالبسملة قبل الطعام، وأن أحداً لا يحق له المزاودة على وطنيتهم. وديدن السلطة في التخوين ورمي التهم بالعمالة، ليس مبرراً لمحاولة دفع هذه التهم ليل نهار، حتى لا يظن أحد أننا نصدقها!
وعادي أن يبرز صوت المستقلين بقوة في المجلس المنعقد، وأن يتوسع إطار المعارضة خارج نطاق أحزابها التقليدية، وأن تصل رسالة واضحة إلى تلك الأحزاب، بأن عليها ممارسة مراجعات مستمرة لنهجها وفكرها، وأن عقارب الساعة تدور، وقد تُخلِّف وراءها كثيرين إن لم يدركوا حكمة دورانها، وأن قانون الطوارئ والمعتقلين السياسيين والمحاكم الاستثنائية كلها أولويات، لكن أيضا من تهدم بيوتهم، ومن يعيشون تحت خط الفقر، وسواهم، يجب ألا يغيبوا عن الصورة، وتوسيع خارطة العمل المعارض يقتضي بالمقابل توسيع دائرة الرؤية.
وعادي أيضاً ألا يجري التهويل في التعويل على نجاح خطوة انعقاد المجلس، أو الحطّ من قيمتها وأهميتها على السواء، فهي تبقى خطوة في درب طويل من العثرات والعقبات والنكسات وأحياناً النجاحات.
لكن أن يعقد «إعلان دمشق» مجلسه الوطني بنجاح، وأن تجري انتخابات شفافة ونزيهة، وأن ينجح البعض ويخسر آخرون، و«يزعل» البعض وينسحب، والسلطة تستدعي وتعتقل العشرات، وتطلق الاتهامات من هنا وهناك، ويبرز صوت المستقلين، وتبرز التمايزات وتدار بديموقراطية، هذا كله في سورية الطوارئ والاستثناء والمعتقلات!!! إنّ في ذلك رائحة طيبة، رائحة شيء غير اعتيادي.
razanw77@gmail.com
* كاتبة سورية- دمشق
جريدة الجريدة
لغط بلغطعقود تُعد بالستة ونيف، من “سوريا” الحديثة، أظهرت عقم التجربة “السورية”، من 1946 إلى 1970، حقبة الرقم القياسي عالمياً في الإنقلابات المَوزيّ،ة ومشهد العدم الفكاهي في “سوريا”، إلى 1970 و ما بعد، حقبة “مزرعة الدواجن” الأسدية.وبعد، ينطرح السؤال، عقلانياً، عن جدوى استمرار تلك التجربة “السورية”. جدواها بالمعنى التاريخي، والحضاري الثقافي، والإقتصادي، والبشري، ولو محصوراً في ستة عقود. وإذا سلّمنا بواقع عقم العرب المطلق، وبالحاجة الإسرائيلية إلى عدم زوال عصابة الأسد، ولو مؤقتاً وبما يؤاتي رفاه مستوطني الجولان، وبالحاجة الأمريكية المتقطعة إلى خدمات العصابة المذكورة، فلأي حاجة أخرى يُبقي التاريخ وقوانينه التي لا ترحم، على “سورياً”؟ جوارياً، فعربياً، فإقلمياً، فعالمياً؟… قراءة المزيد ..