لولا قول الرئيس نبيه بري أنّ انفضاض المعركة الدستورية عن فراغ رئاسي في منصب الجمهورية الأول، أتاح له أن يستسلم لاستراحة المحاربين؛ لما توانى الجميع – فيما أتصوّر – عن تصديق أنّ القوى السياسية اللبنانية هزمت جميعا، وأنّ الإنهاك الذي أخذ منها كلَّ مأخذ ليل الثالث والعشرين من تشرين الثاني الماضي، كان المسؤول عن حالة التساكن التي أرخت ظلالا من الهدأة والانكسار على كوادر الفريقين وأصابتهما بالبكم صبيحة الفراغ!
عبارة بري لم تدع لهذا الهذيان أن يفشو بعيدا رغم إغراءاته لمؤيدي الفريقين وأنصارهما، فالثابت أن التوازن في قواهما جعل محاربيهما وأنصارهما، أحوج إلى التقاط الأنفاس، ولقد أتاح تأجيل جلسة مجلس النواب ظهيرة الرابع والعشرين إلى بعيد ظهر الثلاثين للجمهورين وقادتهما فرصة ذهبية للعودة إلى الذات، ولكن الأكيد أنّ الرئيس بري لم يعد إلى ذاته، كما تجهر هذه العبارة، فاللقاءات المسيحية المسيحية التي عقدها حليفه العماد ميشال عون في منزله بالرابية افتضحت تكتيكية الانصراف الظاهري إلى التأمل، وتكفل مشهد اللاهثين إلى دارته بتوصيف لعبة توزيع الأدوار يبن قوى الثامن من آذار عارية بلا رتوش؛ فصيلٌ يحرّض المعنى الطائفي للفراغ ويوفّز ” المظلومية ” التي أصابت المسيحيين (حزب الله)، وكتيبةٌ تعلن نيتها اقتحام الهدوء بتحركات شعبية غير مضمونة العواقب (التيار الوطني الحر)، وسرايا تؤبّن الفرادة اللبنانية وتدق جرس إنذار مقلقا للطائفيين والعلمانيين على حد سواء (شارل أيوب وإبراهيم الأمين وجوزف أبو فاضل وأضرابهم ممن يمسك القلم بأصابعه، وتمسك دفائن الحقد ومدافع الثأر بتلابيبه) ومجوقلاتٌ تشير إلى الفراغ بوصفه خططًا أمريكية وسعودية لا بد من تحطيمها على صخرة صمود المقاومة التي يتقدم مجاهديها بطبيعة الحال العماد ميشال عون (عناصر النظام السوري الأشد لصوقا وإخلاصا)، وجماعةٌ ارتأت أن تتجه إلى الترقّب والاستثمار، وأطلقت على ترقبها مسمّى التأمّل في الحال والمآل (الرئيس نبيه بري وحركة أمل)…
يندرج هذا التوزيع في سياق ديناميكية طبعت حركة العماد ميشال عون السياسية منذ عاد من منفاه الباريسي إلى لبنان، ولم يضف – رغم تنظيمه الجيد – جديدًا إلى القناعات العميقة التي تتحكّم بهذه الحركية وتوجهها، وأخفقت استقبالات الرابية الحافلة بالتحريض (على) والتقوقع (حول) والتشبث (ب)… في تظهير تغيير ذي جدوى إلى الذهنية التي تقتعد عميقا فكر الجنرال السياسي، رغم أنّ التقاط الأنفاس كان يفترض أن يبلور مراجعات وتغييرات، لا تشكّل المراجعة المتأنية لورقة التفاهم التي وقّعها مع حزب الله إلا واحدة من أولوياتها الأكثر إلحاحا.
ولكنّ الذي حدث، لم يكن إلا توظيف الفراغ في المدى الذي دأب الجنرال وحلفاؤه على قراءته على نحو واحد، رغم أنّ الجغرافيا السياسية الجديدة أسقطت مضمونه ومنطلقاته ورمت بجثته بعيدا منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري في ساعة زلزالية مرعبة حفرت عميقا في لبنان واللبنانيين، ساعة لم يستطع الجنرال استيعابها حتى هذه اللحظة! فالتصوّر أنّ لبنان ليس إلا متصرفيته قبل توسيعها، وأنّ تكبيره كما عبر إبراهيم الأمين آسفا منذ أيام قليلة، كان قنبلة نوايا خبيثة أراد الموسّعون تفجيرها لإغراق هذا الكيان ” الطهور” في بحار “نجسة”، ما زال يفعل في الجنرال ما لم تستطعه المتغيرات، وبقي الحفرة التي يفترض بمبتدئ السياسة قبل خبيرها وجنرالها أن يتخطاها بعزم، إذا أراد حقا أن يهب نفسه منصب الرئاسة ويهب لبنان حلولاً لم يتوقف وحلفاؤه عن التذكير بامتلاكه الحصريّ لها.
نتحدّث هنا عن خوف مركزي وممنهج عمل مفكرون وساسةٌ على زرعه عميقا في تربة الأقليات في الشرق الأوسط من مخاطر المحيط العربي المسلم، السنيّ في أغلبيته الساحقة، فهؤلاء “المرعبون” من السنّة؛ الذين يستقوون بغلبتهم العددية، سيستولون على الهوية، ويحذفون الخصوصية، ويلحقون الأقليات بسباياهم، ويضيفون إلى مآثر فتوحاتهم وانتصاراتهم مأثرة سلب الأقليات أعزَّ ما تملكه من ثقافة خاصة، ورونق خاص، وقيم خاصة، وهؤلاء “المهيمنون على المشرق العربي بأعدادهم الهائلة” سينقضون على الأقليات شطبا وتذويبا فاحذروهم أيها البؤساء الحزانى المستضعفون الصغار!!
ولقد لعبت فكرة تكوين لبنان قبل ضمّ الأقضية إليه دورا حيويا في توفيز حلم إيجاد صورة سياسية مستقلة تجمع أقلياته في كيان خاص يحفظ لمكوناته اعتدادها باختلافها، وقدسية فرادتها كونه ملاذًا ضروريًا ممكنًا وحصينًا لهذه المجموعات المقهورة، واستطاعت نخب مثقفة أن توحي أنّ لبنان فرصة يجب على العاقلين من الأقليات التمسك بأهدابها ورموشها وأذيالها وإلا فإنّ “الحيتان” ستنقض على صغار الأسماك فتلتهمها!
لا عجب أن يتجلى هذا الفكر في النأمة والقول والبرامج السياسية والاجتماعية والثقافية، ولا غرابة أن يتفاقم هذا جميعا إلى عصاب ودونية وصَغار ومظلومية تدعو إلى السخرية أضعاف ما تستوجب من الشفقة، وليس هذا المصير بمستغرب، فلقد كتب على الانعزالية دوما أن تقضي منتحبةً وحدها، ولم تستطع أن تبني لأنصارها أمنًا أو تؤمّن لهم كيانًا سويًّا، ذلك أنّ الكيانات السوية لا تشيدها المخاوف، والدول المتماسكة لا يمكنها أن تعامل هذا الاتجاه إذا ترعرع بين ظهرانيها باحترام وتكريم، فالمجموعاتُ المتطرفة، القوميةُ وفق البيولوجيا، والثقافيةُ وفق العرق، التي أخرجها إلى العلن في أوروبا رمادُ حرب القرن الماضي الباردة، لم تستطع أن تشكّل جواذب معقولة خارج فئات الموتورين وأنصاف العقول وأعشار الشخصية، وجماعاتُ النازيين الجدد في ألمانيا، وأنصارُ جبهة ” لوبان ” القومية في فرنسا، ومؤيدو حزب الحرية النمساوي وغيرُهم من مخاصمي الزمن وأصحاب ذهنيات إيقاف التاريخ والإنسان وتشكيل الكرامة بالتقوقع، استنادا إلى بؤس النظرية البيولوجية وغبائها، أو الثقافة التي يخلقها موحّدو البيولوجيا، قد تورّموا في مجتمعاتهم إلى حدود التقيّح، ولم يعد بمقدورهم الانتفاخ أكثر!
الجنرال هنا، عند هذه الشِّعاب، وفي صلب هذه التصورات التي يستغني عنها العالم أكثر كلما أمعن في تساؤلاته العلمية والبحثية، و يطردها خارجا كلما طوّر عولمته، وأعلى بنيان عالم جديد على أسس التساهل بشأن حدود الأوطان والوطنية، والتشدد بشأن المصالح والبحبوحة والحريات، عالم يملك العماد ميشال عون أن يرفضه، ولكنه لا يملك أن يوقفه.
تموضع الرجل هنا، و أصبح من نافلة القول أنّ ريبته التي تركزت على تمتع الحريرية بالمكانة القيادية بين قوى الرابع عشر من آذار، كشفت حقيقة هواجسه قبيل وصوله إلى لبنان عائدا من المنفى من تركيبة هذه القوى، فعلى الرغم من أنّ الرابع عشر من آذار لم يكن ممكنا على صورته ومثاله لولا الاستشهاد الصاعق للرئيس رفيق الحريري، إلا أنّ الرجل أشاح بناظريه بعيدا، وسمّى الواقعة مجرد فعل ساعد على نزول الناس إلى الشوارع، وأخذ يشكك بالدور والشكل والتجمّع منطلقا من عداوة مؤلمة لقريطم ومعانيها وتمثيلها، ويتذكر اللبنانيون بألم كيف راح موفدوه يدخلون اجتماعات قوى الرابع عشر من آذار ليخرجوا بعد دقائق، وكيف كانوا يلتمسون الحجج ليختلفوا ويرفضوا و…يخرجوا، تمهيدا لخيار كان قد ثبته العقل العوني القديم؛ الذي لم يقبل فكرةَ تكبير لبنان إلا على مضض، ورفض ويرفض أن يساوي هذا التكبير شراكة فعلية لسنّة لبنان في المضمار السياسي، ويقبل في جلده وروحه ومنطوقه القوى التي تريد لأولئك الذين رحُبت بمجموعاتهم الخارطةُ اللبنانية أن يبقوا ضمن دائرة المراقبة والحذر والتشكيك، ولا بدّ في عرف الجنرال – ما دامت الشراكة قدرا مقدّرا – أن تمثلهم شخصياتٌ ضعيفةٌ؛ فأقوياؤهم في نظره ليسوا إلا مراكب تريد أن تنقل اللبنانيين إلى المحيط المرعب الذي يتناقض جذريا مع فكرته عن لبنان الأقلّويّ بامتياز، فالتمدد العربي المسلم السنّيّ على وجه الخصوص في سهوله ووهاده وتلاله ليس إلا حصان طروادة الذي سينفتح عن وحوش تهدد أهل المظلومية الأطهار!
أتفق مع الجنرال أنّ المجتمع اللبناني بأسره كان قد ضاق ذرعا بالوصاية وممارساتها الإلغائية للوطن والمواطن، وأنّ اغتيال الرئيس الحريري فجّر مخزون الألم الذي راكمته تلك الوصاية، ولكن تقزيم عون لهذا الاغتيال إلى مجرد عود ثقاب أشعل النار العظمى! يبقى أمرا عصيا على الفهم والهضم، كيف استطاع أن يشطب أسبابه مثلا؟ ألا يحق فعلا لجزء واسع من اللبنانيين أن يتساءلوا ببراءة أو بمهارة: هل جَهِل العماد ميشال عون أسباب الاغتيال أم تجاهلها لغاية في نفس يعقوب؟
خطورة هذا السؤال ووعورته لم تجعلا من الحقيقة قطبة مخفية؛ لأنّ ممارسات الرجل تفضحها: فخروجُه المفاجئ من قوى الرابع عشر من آذار، وتشبثُه بالتسمية الحصرية لوزير العدل، لا الدفاع! ورفضُه أربع حقائب وزارية تنطق بحجمه التمثيلي بعيد انفضاض جلسات التحاور الثانية التي سبقت النزول الدراماتيكي إلى محيط السرايا الحكومية، ونزولُه إلى الشوارع جنبا إلى جنب مع قوى لم تكن قد خرجت من الحكومة في العاشر من أيار العتيد، ووثيقةُ التحالف الغريبة التي أبرمها مع حزب الله، أعني الحزب ذا اللون الطائفي الموحّد الأوحد، الذي يختلف مع العماد في شؤون الدولة جميعا ولا يشاطر الجنرال رأيه في القرار 1559، ولا يشترك معه بالطبع في نظريته اللبنانية الصرف، ولا يتفق معه إلا في الريبة والاسترابة من الموقع الثالث في النظام اللبناني، وينظر مع العماد بالمنظار نفسه عندما يتعلق الشأن بالحريرية ومضامينها! ذلك كله، وغيره مما تابع اللبنانيون فصوله باستغراب وألم، جعل الرجل يقف بينهم عاريا بلا ورقة توت!
وعلى الرغم من أنّ هذه الممارسات لم تفاجئ سوى من طابت نفسه إلى حدود الغيبوبة، فإنّ الجنرال لم يتردد في طرح نفسه المرشحَ ” المنطقي ” لرئاسة الجمهورية اللبنانية، والقائدَ “الجدّي” لشعب يسقط شهداؤه من فريق خرج الرجل منه ليتحالف ضدّه، والشخصَ ” المناسبَ” للبنانيين الذين تقسمهم تصوراته العميقة إلى ملائكة: يتسلّح بعضهم بسلاح فائق الذكاء غير ملائكي وغير لبناني، وشياطين: لا بد من ضبطهم وتقييدهم بالأغلال، ويرى نفسه “الحَكَمَ التوافقيّ ” الذي يقرأ أنّ ” مشمش ” العكارية أنفت أن تقبل جثة أبي هريرة في ترابها، ولا يتساءل عن السر اللبناني في هذا الحدث الفائق الرمزية والدلالة، ولا يردُّ سوى بوجوب أن يشنق اللبنانيون الحريرية قبل أن تشنقهم!
لا غرابة إذن أن تواجه العماد عون صعوباتٌ جمة في تسويق نفسه، وإنجاح مسعاه، ولا عجب كذلك في توجّه قوى الرابع عشر من آذار على مبدأ: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا، إلى التعجيل بطرح مبادرتها التي تستحقّ – في عرفي – أن يسجلها التاريخ واحدة من النقلات السياسية النادرة الأكثر ذكاء في دنيا الساسة والسياسيين، فقد ضمنت لبنانيةَ الحل، وأبعدت الجنرال عون عن الميادين التي أفرطت في إرهاقه، وعبّدت له الدروب الآمنة والمسالك المختصرة صوب استراحة محارب شرس برع في إدماء القلوب، وتفنن في تشويه صورته إلى حدود مضنية، وعبث بملامحه الاستقلالية والسيادية الأبعد غورا حتى غابت الأصول وضاع التكوين الأوّل! استراحة حقيقية وهادئة صمَّمها مهندسوها لتؤوي مقاتلا وحيدا لن يرافقه إلى ظلماتها أحد، فالآخرون تحسّبوا واستعدوا كي يفعلوا أيَّ شيء، إلا مرافقة الفارس الذي أعيته أحلامُ الصهوات حتى طرحته تحت السنابك!
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري