في رواية ابراهيم عبد المجيد، «لا احد ينام في الاسكندرية»، كل الشخصيات محبّبون الى القلب على اختلافهم وتنوعهم، مع ان ما من أحد منهم مثالي، أو «قدوة»… كما اصبح مطلوبا الآن. أحداث الرواية تقع اثناء الحرب العالمية الثانية. وبعض وقائع هذه الحرب تدور في الساحل الشمالي المصري، والاسكندرية محورها.
مجد الدين أكثر هذه الشخصيات قربا الى القلب. هو شبه هارب من قريته: ذيول عملية ثأر مسلسلة وقديمة. الاسكندرية موطنه الجديد، هو وزوجته زهرة وابنته شوقية. دميان صديقه الصدوق الحميم، المسيحي. وديميتري جاره، مسيحي ايضاً. وكذلك زوجة هذا لاخير وابنتَاه، خصوصا كاميليا، الفاتنة، وجارته الاخرى لولا «الدلوعة» في الطابق السفلي. صدف الحياة وحظوظها تنقل مجد الدين وزهرة ودميان وديمتري… من قصة الى اخرى؛ فتكتمل سيرتهم بتبعثرهم من جديد. يُقتل الصديق دميان تحت القنابل الالمانية. يعود مجد الدين الى القرية، ومن ثم يقرر استئناف المرحلة المقبلة في الاسكندرية من جديد…
في هذه الرواية المتميزة، يبثّ ابراهيم عبد المجيد الروح في زمن انتهى. يطلق العنان لمخيلته التاريخية الموثقة: يفتح الباب على مصراعيه لحبه للاسكندرية. لا ينطق بهذا الحب، هكذا وبالفجاجة العارية. ولا يعير لسانه لشخصياته. ولكن هذه الوثبة تجاه الاسكندرية تتسلّل بهدؤ العواطف الراسخة. المناخ مفعم بالصداقة؛ مع اننا في رواية تدور احداثها اثناء الاحتلال البريطاني وفي الحرب العالمية الثانية، فلا تبارحك شخصياته بعد اكتمال فصول قصتهم.
ومجد الدين بالأصل، شبّ في قريته على قراءة القرآن. ومن بين اخوته الستة، هو الذي اعفي من الجندية («الجهادية») بسبب حفظه للقرآن الكريم. فعُرف بـ»الشيخ».
اذاً الشيخ مجد الدين رجل تقي مؤمن. ايمانه يبرق بنفسه. حافظ لأوامر الله، لا يكفّ عن ذكره بصمت مبتهج، وعن مناجاته في السراء والضراء، وعن الاجتهاد في فهمه لآياته من غير ابّهة ولا طتْطنة. وتديّّنه الفذّ هذا أعطى شخصيته بعداً أخلاقيا وروحيا وانسانياً عالياً.
«طبيعة التدّين»: يعني كيف يؤمن مجد الدين؟ ما هي اشارات ايمانه؟ الشيخ مجد الدين لا يعرض تدينه. بل يستبطنه. يقرأ القرآن في قلبه، او بصوت رقيق منخفض. لا عصبية عنده ولا أحكام… ولا، بطبيعة الحال، مواعظ كارهة عدوانية. يستشيره صديقه المسيحي حول «خطيئة» اعتقد انه ارتكبها، فيجيبه بحثّه على إعمال ضميره ودينه. ولو راقب الرذيلة، حزن على مرتكبها، بل تعاطف معه.
هو يغرف من نبع متجانس، لا شيء في تديّنه يشي باستعارة او بتقليد نموذج. بينه وبين الآخر، أي «آخر»، ودّ مسبق… انهم «خلق الله». يحلم ويفرح ويؤجل صلاة من اجل البحر وييسّر في امور الدين والدنيا. مسلم مؤمن يحيك صداقة خاصة مع مسيحي مؤمن. صداقة الصادق.
هل يمكن ان تجد الآن مثل هذه النوعية من التقوى؟ مثل هذا الطراز من الايمان؟
في الرواية اولا: تحضر «عمارة يعقوبيان» لعلاء الاسواني؛ حيث يخطّ المؤلف شخصية الرجل «التقي» عبر الحاج عزام. وبما ان احداث هذه الرواية تدور في العصر الراهن، وهي ليست رواية خيالية، فماذا تتوقع ان يكون نموذج التقي المؤمن الأقرب الى الواقع؟ نموذج الحاج عزام. العصامي الذي تديّن، أو «إستشيَخَ» كما اصبح دارجا القول. وكان تديّنه عبارة عن واجهة برّاقة من الحمد والتسبيح المتواصلَين، والصلاة في المسجد، والحج الى بيت الله الحرام، والنهي والنفي، وفعل الخير امام الملأ والصداقة مع «مرشد» روحي من المشائخ. الى ما هنالك من الاخلاق المعلنة.
اما خلف هذه الواجهة، فإن الحاج عزام رجل فاسد وكاذب، جائر وظالم، بلا ضمير، خائن وتاجر مخدرات. وصديقه الشيخ يعينه بفتاواه على معاصيه… ولا ينتظر فتوى لإجهاض زوجته «السرية» التي اشتراها بماله، مشترطاً عليها الامتناع عن الحمل وعن رؤية ابنها… الى ما هنالك ايضا من الرذائل «الخلفية» الذائعة على لسان الناس.
هذا عن الرواية. اما في واقع الحياة، فكل الناس اتقياء ومؤمنون. حتى الفنانون. مغنّو الفيديو الكليب الذين باتوا يسبحون باناشيد الحمد. الممثلون الذين يحرصون على تسريب اخبار رحلاتهم الى الحاج والعمرة. الممثلات والمغنيات اللواتي يعلنّ، بين الحين والآخر، عن قراراتهن بلبس الحجاب عندما «يحين الوقت». او اللواتي يأخذن الصور بحجابهن الجديد بعدما اعتمدن سيماء البركة. فيما الشاشة تبثّ لك الدعاة والشيوخ وتسأل اصحاب الفتاوى وتحضر الوعاظ والواعظات، وتخصص «التوك شو» للايمان…
والجميع يحتاط من المنزلق «غير الايماني»، من الظهور بمظهر قليل الايمان، فاتر الايمان. كأنك في حفلة كشفية مستمرة صباحا مساء. مزايدة دينية حوّلت التقوى والتدّين الى مشهد يجمع بين الكراهية والفولكلور، وبين التجهّم والكاريكاتور.
الفارق بين الروايتين، او بين الزمنين، ليس في نوعية او طبيعة التقوى وحدها. بل ايضا في نوعية العلاقة بالغرب. مع الاولى، «لا احد ينام في الاسكندرية»، الشخصيات كلها تقريبا تعي انها تعيش تحت الاحتلال البريطاني. وتدعو الله ان يغلب الالمانُ البريطانيين، كرها بالاحتلال. فالعلاقة مع الغرب مصاغة على اساس دول هذا الغرب، او كياناته السياسية. والتجليات الثــقافية لهذه العلاقة مع الغرب يشوبها مزيج من الجاذبية واللفظ. لكنه مزيج لا يهدد الرحابة النفسية والثقافية… بالرغم من الحرب والاحتلال.
العكس تماما هو المناخ الراهن للعلاقة مع الغرب. الآن انقلبت الصيغة وصار الغرب كتلة واحدة: غرب «صليبي». لا فرق فيه بين اوروبي واميركي، بين فرنسي والماني او انكليزي… الغرب كتلة واحدة متجانسة. مكروهة ملفوظة، وخاصة في مجال تجليات الثقافة والمعاني واللغة.
لِمَ هذه المقارنة؟ بالتأكيد ليس من اجل التباكي على «زمن جميل مضى…». ولا لإدانة نوع التديّن الراهن. بل فقط من اجل القول بأن التدين او فحوى التدين ليس واحدا في كل الازمان. فكل عصر يحمل معه صوره وتصوراته. كذلك هي العلاقة مع الغرب. لم تكن على هذه النوعية من الاستنكار والحجب التي هي عليها اليوم. في ظل الاحتلال والحرب كان التلميذ الفقير رشدي في «لا احد ينام في الاسكندرية» يقرأ بودلير ورامبو ويحلم بالذهاب الى فرنسا من اجل التخصص بآدابها؛ فيما الطالب طه ابن البواب في «عمارة يعقوبيان» يحلم بمعسكرات الارهابيين الاسلاميين وينتهي بالالتحاق بها، بعدما يخفق في الإنتساب الى كلية الشرطة.
المقارنة فقط من اجل استحضار مفهوم النسبية. والذي قد يفيدنا في مقاومة الشموليات الجامحة… الزاحفة الينا مثل الجيوش الجرارّة…
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة