وسط دمشق، قرب ساحة السبع بحرات، تجثم محكمة أمن الدولة العليا، هذا الاسم الذي بات يبعث القشعريرة في الأبدان، وتصاب الأجساد بالارتعاش، من سماع دوي اسمها، الذي لا يتوانى كل يوم –بدون مبالغة- إنزال مصائب وويلات على العشرات من السوريين، الذين يقفون في طوابير بانتظار حكم محكمة استثنائية، غير دستورية، ويطلق أحكامها قاضٍ، فقد الشرعية في الحكم، كونه أصبح متقاعداً منذ ثلاث سنوات.
هذه هي المحكمة، ولن أتكلم بأكثر من تلك الكلمات القليلة عنها، لأن ما يلفت الانتباه ويسترق النظر؛ رصيفها الذي يعج كل يوم، وخاصة كل يوم أحد من الأسبوع، بالعشرات من الأهالي، والأصدقاء، والبعض من المحاميين، وعدد لا بأس به من نشطاء حقوق الإنسان، هذا بالإضافة إلى البعض من التمثيليات الدبلوماسية الغربية في العاصمة دمشق، والتي درجت العادة حضورهم لمحاكمات محكمة أمن الدولة، ومعتقلي الرأي.
رصيف أمن الدولة، مكان آخر، رصيف لا يشبه أي رصيف. بات هذا المكان يتحول إلى روضة لألعاب الأطفال، الذين يأتون مع الأهالي لرؤية أقاربهم المعتقلين، أو لسماع الحكم عليهم، وإن كانوا محظوظين فإنهم سيفوزون باستراق النظر من خلال التحديق بالباب الرئيسي للمحكمة عند إدخال وإخراج المعتقلين، وذلك وسط حشد مدجج بالسلاح، مشكلين طوق عسكري، ومانعين بذلك حتى التقاط أنفاسهم، ومع ذلك ينجح البعض من المعتقلين بالبوح بعدد من الكلمات، وإطلاق النداء من خلف نوافذ الشاحنة التي تقلهم، والتي تكون موصودة بحديد ثخين، وشبكة لا يمكن ولوج حتى أشعة الشمس، أو نسمة الهواء إليها.
رصيف أمن الدولة، الزمن يصمت ويبدأ الرصيف البوح بما لديه من كلام، حديثاً بين الجدران المحاطة به، وبين المارة الذين يحدقون بالواقفين عليه، والذين يستغربون دائماً وجود هذا الكم من الناس، منهم من يقتل فضوله بالسؤال، لماذا أنتم هنا؟ ولما هذا الكم من الناس؟ وآخرون يزعجون الأهالي بأسئلتهم، فيتوجهون بعكسها إليهم، لماذا أنتم لا تعرفون؟ اعرفوا شيئاً آخر عن هذا الرصيف، رصيف أمن الدولة.
رصيف أمن الدولة، مكان شهد ملايين الدموع التي انهمرت من أعين حسناوات ينتحبن أحكاماً جائرة بحق أزواجهن أو إخوانهن، عبرات تتلألأ في عيون أمهات وآباء كظموا غيظهم، وكتموا صرختهم، وما كانت لهم تعليقات على أحكام أبنائهم سوى قول لا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا ونعم الوكيل.
رصيف أمن الدولة، تتوقف كل إشارات المرور بجانبه، يلتزم الكون الصمت، ويغادر النهار الضياء، وكلما حاول أحدهم إنارة قنديل، أثارت كل عواصف الكون الغبار في عيونه، وتحرق النار كل أحلامه. لا أعرف!!! غريب هذا الرصيف، مبهم، كئيب، هؤلاء الناس يصبحون أشباه بشر!!! لا يظهر منهم سوى عيون تحدق بكل ما في العين من ضياء باتجاه البوابة الرئيسية للمحكمة، تنتظر الحنين من رجال الشرطة الذين يقرأون أسماء من رضي عنهم الحاكم وأباح لهم زيارة المعتقلين.
رصيف أمن الدولة، يرسل آهاتٍ فظيعة، فكم هو الحزن أن تنتظر أم أوامر شرطي يسمح لها باختلاس نظرة لولدها، كم هي التعاسة أن يقتل الحقد حبقاً جميلاً، وتعانق نظرات زوجة أصفاداً من حديد مكبلة يدي وأرجل زوجها. خنجر قاتل يغرز في قلوب الآباء التواقين لتقبيل أبنائهم!!!
رصيف أمن الدولة، تتلاطم أمواج الأحكام القاسية، وتستمر انبعاثها من المزن المثقل بأحكام أمن الدولة القاسية، وضباب الكون الأخرق، التي تهم بحياتنا جيئة، وذهاباً. معرضة حيوات الآخرين لاعتقالات وأحكام جائرة في مهب الريح الآتية من خلف ذلك الجدار القديم، والفكر العتيق، الذي يحاول ممارسة كل طقوس الطغيان، وكل أصناف الخوف، رامياً كل قدسيات الإله عرض قوانين طارئة، وأحكام جائرة.
رصيف أمن الدولة، رحلة تنتهي قبل أن تبدأ الأحزان، تأملات تخلق لوحة كئيبة ألوانها مبعثرة في مخبأ أزهار لا تكل من الألم، ولا تمل الأسى. مشوار في خضم أنانيات صارخة لحياة متسارعة، حفاة يسيرون خلف طرقات مبتورة من أنصاف بشر، يسيرون ويلهثون خلف أسماء وهمية، وأصوات خفيفة تكاد أن تسمع، وأحرف تكاد أن تختنق من كآبة الليالي الطويلة الداكنة في حلكة ألامنا، وذواتهم المترجلة من أحصنة مهزومة في سباق الزمن الضائع، تقتل أيامنا بمدية ثلمة، وتدمي أفئدة قد مل القدر من التئام جراحاتها، هذا هو رصيف أمن الدولة!!!
messudakko@gmail.com
* سوريا