يتحدثون في لبنان عن تحوّل هذا الوطن الصغير إلى ورقة بيد لاعبين أكبر منه، ويذهبون إلى أنّ هذا الكيان لم يبلغ الاستقلال في تاريخه. فنوافذه المفتوحة حملت التأثيرات الخارجية إلى مخادع نخبه ومالكي أمره من سياسييه البراغماتيين ومفكّريه الواقعيين، حتى بات أفراد هذه النخب يرطنون بلغات عربية وفارسية وأمريكية وفرنسية وروسية وفاتيكانية وسورية وكردية، وراح حمقاهم وحكماؤهم ينطقون ببنات هذه اللغات ومتفرعاتها اللهجية، ويخرسون بما تملكه الإيديولوجيات من ثقة وفظاظة لغة اللبناني، ولهجاته الجبلية والبقاعية والبيروتية والجنوبية والمتنية والساحلية، إلى حدود رفع إصبع الويل والثبور وعظائم الأمور وتفخيخ السيارات وكبريات المباني استهدافا لمن تبنى اللبنانية الخالصة في وعيه، وترصّدا لمن تجولت أرزته في لاوعيه. ولقد كمن متنفّعون وساقطون وعملاء واستخباريون داخليون وخارجيون له على زوايا الطرقات، وخلف المنعطفات، وربضوا لهذا ” الآثم ” خلف تلّة، أو في غياهب نفق، وعندما لم يستطيعوا له سبيلا، راقبوا وسط بيروت، وأرسلوا طنين من المتفجرات إلى قبالة فندق ضخم، وعلى ضفة شارع رئيسي، عند ساعة الظهيرة حيث الجهار النهار في أجلى ثواني التحدّي والغطرسة، وفجّروا لحمه الحيّ، ودماغه المنظّم، وروحه اللبنانية، لتجرؤه على الإيمان بوطن، ولإقناع السائرين في الركب ذاته أنّ الأمور بعواقبها..
يتحدّث بعض لبنانيّ آخذ في التقلّص عن مصالح دول الأرض ومقامراتها وتحولاتها وتحركاتها، ويحذفون ملامح وطنهم وحدوده ومصالحه خوفا، وواقعية، وقناعة، ورضوخا، واعتزازا، وتفلسفا، وتبصّرا، وخيانة، وعمى، ويأسا، وقرفا، ولا يتورعون عن حذفه شحما ولحما! يتكلمون كما تتكلم ثلة مرتزقة؛ تقرأ الأرض والجغرافيا والمصائر بعيني جيوبها وفراء معاطفها حينا، وبلسان كفافها و شفاه ما يقيها قهر الفقر والجوع في أحيان أخرى.
واللبناني الذي يقضّ مضجعه التساؤل عن السرّ في النوافذ المفتوحة، التي يتسامح مصراعاها مع هذا الكمّ المذهل من الرياح، يقع في وهمه ساعة يأس مريرة أنّ الحرية التي يعجز عن التخلي عنها هي مكمن الداء، وأنّها الميدان الذي يسهل فيه ربط الوطن مصالح وفكرا بالغرباء، ولكنّ الاستهداف المتواصل، وآلات القتل التي لا تتوقف، والغيرة الفجّة، والجشع الذي يفيض بالتحديات، تفرض معطيات على الأرض، وتتفاعل في وعي اللبناني، ولا يلبث أن يكتشف أن حريته ليست السرّ، وأنّها لم تكن ساعة موطن الداء.
ولقد واجه اللبناني المجتهد هذا سياسييه الذين ما فتئوا يؤكدون أنّ وطنهم يقع – قدرا – في دائرة الأثر والتأثيربغضب تاريخي لافت، وأخذ يذكّرهم أنّ استراتيجيا التفكير هذه لا يمكنها أن تقود البلاد إلا إلى فقدان حقّ الاستقلال، و خسران مشروعية التحوّل إلى دولة عبر فقدان الهيبة اللازمة لجمع اللبنانيين حول وطنهم وفرصه وحقوقه، وحذّرهم أنّ المضيّ على هذه الشاكلة من الخروج من اللحم، ونفي الذات، واستنكار الكينونة، والإيمان بأوطان أعلى أو أدنى شأنا، والارتهان لكيانات أخرى، والتشكيك بجدوى الوطن والدولة والتعايش والمعنى، والطعن في الجغرافيا، والتمرد على بنى تنشأ وترنو إلى التبلور والفعل، والكفر الجهير بقدرة التجمع البشري اللبناني دون غيره من تجمعات البشر على تثمير كتلته في مؤسسات ودولة، ليست إلاّ فخاخا نصبها الآخرون.
في هذا السياق، فإنّ انتفاضة الرابع عشر من آذار لم تكن سوى تعبير شعبيّ صارخ عن الاحتجاج على نخب لبنانية، قوامها ساسة ومفكرون امتشقوا إيديولوجيات تنفي الدولة بعد التكوّن، ليذوّبوا وطنا قيد التكوين، في مصالح استبداديين اغتصبوا الحرية في بلادهم، وأحبطوا توق مواطنيهم الطبيعي إلى العيش في ظلال مؤسسات وقوانين، وحوّلوا المستوطنات البشرية التي يحكمون، إلى مزارع وبقرات حلوب وسجون واسعة؛ أطلقوا عليها زورا مسمّى دول، وأكسبوا سلطاتها بهتانا لقب حكومات!
أكّد اللبناني صبيحة الرابع عشر من آذار أنّ حريته التي ميّزته حقا عن المحيط الصامت الحزين ليست العلّة، وأنها لم تكن مسؤولة يوما عن تدثّر بعض اللبنانيين بالعمامة الغريبة والعباءة المستوردة، ولم تكن هذه الحرية التي اكتشف هذا اللبنانيّ للتو أنها سر وجوده العميق لحظة جدولا مسموما أو لعنة متجولة، وأنّ اتهامها معادل لاتهام الطبيعة بالمسؤولية عن ولادة المجانين والقتلة في أصقاع الأرض، براءة الحرية مماثلة لبراءة الطبيعة، فالحرية هواء ولا يلوم الهواء سوى قصير نظر يروم جحرا وخبزا و ووسادة، أو بعيد نظر يرنو إلى إنزال الهزيمة الماحقة بالخيار الحر، والوعي الحر، والاقتصاد الحر، والاعتقاد الحر. الأول: لم يبلغ الفطام الطبيعي بعد، والثاني: بالغ مرتزق ارتضى أن يحمل معولا يخدم به أسياده الذين يشرئبون إلى أن يفضي هذا الاتهام إلى تعاظم في شعبية استبدادهم وأحذية عسكرهم، ويتطلعون إلى رصّ الجموع حولهم خيارا ومصيرا وخشبة خلاص.
ولقد فاجأ لبنانيو الرابع عشر من آذار سياسييهم ومفكريهم الموالين والمعارضين بالتشديد على أن المضي في مشروع الدولة السيادي الاستقلالي الديموقراطي، هو الضمانة الأكيدة لجني منافع الحرية واستثمار إمكاناتها، وأن تصويب النار على حرياتهم فقد أثره وتأثيره، وكشف عن قباحته ووضاعة طموحه.
ومع ذلك، وبرغم هذا اليوم اللافت في التاريخ اللبنانيّ، واستهانة بمعانيه ومفصليته، فإنّ البعض ما يزال يعتقد أنّ الحرية الفضفاضة هي موطن الداء، ولم يكن الرئيس سليم الحص آخر الشاكين عندما قال: في لبنان كمّ كثير من الحرية، وقدر قليل من الديموقراطية! ولكنّه كان أهمّ القائلين، ورأس الشاكين، لأنه من القلة اللبنانية التي امتزج في أعطافها الفكر بالسياسة، ومن النخبة الصغيرة التي طوت في سنوات ممارستها السياسة خبرات لا يستهان بها، وثقافة مشهودة، ووطنية لم يطعن بمصداقيتها أحد بعد.
صحيح أنّ للرجل موقفا ملتبسا ومميزا من الموضوع، منعه من البوح به طوال حياته السياسية، ولم يخرجه إلى العلن إلا في مناسبتين فحسب، الأولى: خسارته المدوية لموقعه النيابي في بيروت عام 2000، والثانية: فوز الأكثرية النيابية الحالية في انتخابات 2005!! إلا أنّ الذهنية السقراطية التي ميزت تعامل دولته مع لبنان وآلة الحكم، ومعاداته المبدئية لثغرات الترويكا اللبنانية، ومقته لها، وعدم تمكنه من رؤية ظرفيتها وارتباطها بعدم إقلاع الدولة وعناصر الإبطاء والتعطيل التي كمنت وتكمن هنا وهناك لمسيرتها، بيّنت بلا قدر كبير من الشك، أنّ للدكتور الحصّ رأيا يميل إلى وجوب الضبط والانضباط في ماهية ودروب وممارسات الحرية اللبنانية، الأمر الذي يصنّفه أحد أبرز من يصوّبون السهام نحوها، أو يخصّون كمّها المفرط بالمسؤولية عن انحراف بعض اللبنانيين عن جذوعهم وجذورهم، وذهابهم في توصيف انتمائهم بعيدا عن حقيقة مجموعاتهم وأروماتهم.
ولأنّ موضوع ضبط الحرية يقع على تخوم خطرة، فقد انزلق الموقف الحصّيّ إلى التقاطع المثير للريبة مع اتجاهات قوى كادت تجاهر بمخاصمة الحرية ذاتها، وراحت تهلل في أدبياتها لأنظمة الاستبداد، قوى لم تتورع نتيجة لالتباس موقف دولة الرئيس عن حسبان الرجل ممثلا لآمالها، ومعبّرا نموذجيا عن تطلعاتها إلى حكم استبدادي ذي واجهة ديموقراطية.
كلما نجح سقراط السياسة اللبنانية الذي يعتقد أنّ الكيان اللبناني لم يتحوّل بعد إلى دولة في الدخول المؤزر إلى مثلث السلطة الذي يمقت، واظب على التذكير أنّ الشرعية قائمة وصلبة، ولكن إيمانه بالشرعية والمؤسساتية، وتمسكه المعلن بالديموقراطية، لم يمنعه من نعت انتخابات العام 2000بأنّها أوسخ انتخابات شهدها لبنان، وأنّ ” المال السياسي ” وحده من حسم نتائجها، وتلاعب باتجاهات المجتمع اللبناني السياسية، نعتها بالوساخة وهيمنة المال السياسي دون أن يرفّ لدولته جفن، أو تنبس خطب المنبر الثالث – التي شحّت في الفترة الأخيرة- ببنت شفة تجاه المال النظيف الذي يوظفه حزب الله في جملة حركيته السياسية والعسكرية، الأمر الذي رسم دوائر مقلقة زادت موضوع حكمة الرجل، وديموقراطيته، وإيمانه بضرورة إسقاط الترويكا من مشهد آلة الحكم، التباسا على التباس، بل إنّ وراثته الفاعلة للحكومات التي كانت تسقط بإرادة بعبدا ذات الارتباطات فوق اللبنانية، والتي كان يترأسها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وفاعليته في إدارتها لصالح قوى السائد المهيمنة، ونجاحه في ضبط مشروع الرئيس الشهيد على إيقاعات الوصاية، كان يجعله الملاذ الأفضل للرئيس إميل لحود، والاختيار الأمثل لحلفائه، بل إنّ موقفه الثالث في عصر الانقسام العمودي، وجملة خطابه في حميّا الأزمة، وبراعته التي لم تتجاوزها الذاكرة بعد في استثمار حذر بعبدا تجاه الرئيس رفيق الحريري، أعاقت بمجموعها رغبته في الظهور بمظهر الطرف المحايد، و حرمته من نكهة الثالث الفاعل، ومنعته من الفوز بمنصب ” الهجّاء ” الحكيم للوضع في لبنان، والناقد الأمثل لمحدودية ديموقراطيته، واتساع حرياته المفرط، الأمر الذي قلّص حياده من جهة، وعزّز حظوته لدى فريق واحد دون غيره من جهة أخرى، ودفع هذا الفريق إلى الإنعام عليه بوشاح الحكمة، ووسام الوطنية، لم لا؟ فخزائن حزب الله وحلفائه تحتكر هذه الأوشحة، وتملك حصرية منح تلك الأوسمة، تكافئ وفق أجندتها، وتعاقب بناء على خطوطها الحمر!
قريبا من ذلك وعلى صلة بيّنة، فلم يعد يتهم الحرية في لبنان بعد الرابع عشر من آذار سوى فريقين: الأول يمثله اللبناني البسيط الذي تظهر الأحداث المتوالية أنه في طور الانقراض، لأنه آخذ في اكتشاف قصر نظره، حدثا بعد حدث، وجريمة بعد جريمة، وماض في إدراك أن الوطن السيد المستقل، والحر على وجه التشديد، وحده، من يستطيع دفع طموحاته بالعيش الآمن والمستقر قدما، والثاني: بعيد نظر يحقق معجزات إنجازاته السياسية، ويصنع إرثه الضخم، من خلال خطاب وافر الذكاء، يمزج فيه الاستقواء على الحرية التي يحلم بها البشر في أرجاء الأرض، بمغازلة من يناصب العداء أصغر تجلياتها شأنا، تلك الحرية التي لا يستطيع لبنان العيش بغيرها، ولا يهضم أبناؤه تجزئتها وتفتيتها، ويدركون كغيرهم أو أكثر، أن الاعتراض على كمّها الضخم ليس إلا شروعا في قضمها، وأنّ سيادة القانون أمر، وقضم الحرية في ظلاله، وتحت شعاراته الظاهر منها والخبيء، أمر آخر تماما.
سقراط السياسة اللبنانية يترقّب جنرالا جديدا، ونابليون لبنان، يشعر به، ويقرأه باحتراف، وينتظر معه، على ضوء شمعة تارة، وعلى لهب متغيرات يراهنان على دراماتيكية أثرها وتأثيرها تارة أخرى، أحداث تقع، وأخرى لا يدرك عجز إرهاصاتها وعقم فاعليتها إلا العارفون والراسخون في العلم.
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري