يميل بعض المفكرين العرب الى رؤية احادية الجانب لغياب “العقل النقدي” العربي فيربطون هذا الغياب، بغياب الدمقراطية في الوطن العربي.. أو كما يكتب البعض بشيء من الفذلكة اللغوية “ضآلة الهامش الدمقراطي” ويضيف الآخرون حجة أخرى، وهو “انتشار وسيطرة الثقافة الدينية الرجعية” وهو ما ينتج ضعف العقلانية، وضعف في المشاركة في تحمل الهم القومي، والاكتفاء بالمسلمات الجاهزة التي لا تتغير..
ان الرؤية التي ترى بالدمقراطية “هامشا ” سياسيا او اجتماعيا أو فكريا ، هي رؤية قاصرة في فهم الدمقراطية بصفتها القاعدة التي تبنى عليها أنظمة الحكم الحضارية بكل مؤسساتها القضائية والتشريعية والتنفيذية ، وهي القاعدة التي ثبتت ضرورتها لمجتمع سليم قادر على التطور والابداع الحضاري في العلوم والآداب والفنون، ولانسان اجتماعي مبدع في فكرة وابحاثة وانجازاته.
حقا ، الدمقراطية تحتاج للعقل النقدي المتطور والمحمي قانونيا، من أجل حماية نفسها من الفساد ومحاسبة المسؤولين بأي مستوى كانوا ، وخلق الشروط للمزيد من الانطلاق والابداع .
لا أنفي المصداقية النسبية الكبيرة في الرؤية بان غياب الدمقراطية في الوطن العربي ، وانتشار وسيطرة الثقافة الدينية الماضوية ،هي وراء غياب العقل النقدي في العالم العربي ، وعمليًا لا نستطيع الحديث عن غياب “العقل النقدي” إلا بالمفاهيم النسبية، لأنه في الواقع العقل النقدي قائم باشكال مختلفة، وفي مجالات عدة ، والأصح ان نقول ان العقل النقدي لم يشكل بعد التيار الرئيسي في الواقع العربي الحديث. إذا لا يمكن عدم رؤية وجود التيار النقدي واعتباره غائبًا بالمفاهيم المطلقة. رغم غيابه المطلق ، وقمعه بكل ما يتعلق بفساد أنظمة السلطة ، وبالقمع الرسمي وشبه الرسمي للفكر التنويري والنقدي في المجتمعات العربية. ولكنه الفكر الوحيد الذي يطرح البديل المتنور للواقع العربي.
بالطبع هناك الكثير من السدود والموانع التي تميز المجتمعات العربية ، وكنت أود ان أضيف مجتمعات العالم الثالث أيضا ، لولا اني أرى ان العديد من المجتمعات غير العربية ،في العالم الثالث ، بدأت تشق طريقها نحو الاندماج في الحضارة العالمية ، أنظمة واقتصادا وتعليما وفكرا . وبعضها تعتبر انجازاته نموذجا يحتذى . الا عالمنا العربي ، وبشكل مطلق تقريبا ، مع وجود تجربة تستحق العناية والدراسة ، التجربة التونسية مثلا ، رغم ما يعتريها في السنوات الاخيرة من تراجع قد يشكل خطرا على فردانيتها ، وخاصة بميل النظام لقمع المعارضة واخماد صوت النقد للسلطة..
من ضمن الاشكاليات ، أعتقد مثلاً أن اشكالية اللغة العربية في الوعي الشعبي، والفشل في جعل اللغة العربية بمستوياتها السهلة، أو ما اتفق على تسميته باللغة الفصحى البسيطة أو “لغة الصحافة”، بصفتها الأكثر فهمًا وسهولة في الإستعمال والتخاطب والإبداع الثقافي ، كلغة سائدة في المجتمعات العربية، يحد من قدرة العقل النقدي العربي في التطور والإنتشار والتاثير وخلق فرص للتحول الفكري والاجتماعي . ومن جهة أخرى عدم استعمال اللغة العربية الفصحى البسيطة والصياغات السهلة في معظم طروحاتنا حول القضايا الفكرية المختلفة، والتثاقف اللغوي المتبع في الكثير من الكتابات ، ربما بسبب غياب الرؤية الواضحة لدى المتثاقفين ، أو عجز المفردات العربية في عرض الرؤى الفكرية ، او عدم فهم متطلبات النهضة التنويرية في اللغة أيضا ، الى جانب التنوير الفكري والاجتماعي ، وفي استمرار السجع الغيبي ، الذي يغرق تفكيرنا العربي بسجع فكري هزيل وفارغ من المضمون ، يحد كثيرًا من تطوير انتشار عقل نقدي عربي… أيضا ، يجعل أصحاب الفكر الخلاق أشبه بالنبتة الغريبة داخل مجتمعاتهم .
أضف الى ذلك ازمة القراءة في العالم العربي ، وهي من جهة أخرى أزمة عدم فهم اللغة العربية المتداولة في السياسة والصحافة والثقافة والأبحاث لدى اوساط واسعة من الجمهور، مما يعني أن أوساطًا واسعة جدًا (الأكثرية المطلقة) من المواطنين العرب في العالم العربي، هم خارج الفعل السياسي والاجتماعي لمجتمعاتهم ودولهم، لا يؤثرون على مجرى الأحداث ، وهم مادة خام مريحة للأنظمة العربية .
ليس بالصدفة تحول اوساط شعبية واسعة الى مزرعة للفكر الغيبي الاصولي الذي يخاطب المشاعر البدائية للانسان ، ويفتح امامه ابواب حالمة تعزله عن واقعه ، فأي مساحة تبقى للعقل النقدي التنويري في مجتمعات تفتقد للغة التخاطب المفهومة لدى الأكثرية من المواطنين ؟
انا على قناعة ان المشكلة في جذورها ليست لغوية .المشكلة الأساسية تتعلق بالتنمية البشرية ، تنمية الاقتصاد وتنمية العلوم ونشر التعليم ، وهذا الأمر شبه غائب عربيًا، ومراجعة تقارير التنمية التي تصدرها الأمم المتحدة تكشف عمق الاحباط العربي وتعثر برامج التنمية… بل عدم وجود برامج في الكثير من الحالات، مثلاً :العالم العربي منذ خمسة عقود وهو يتحدث عن برامج القضاء على الأمية “بعد عشر سنين”… وها نحن امام العقد السادس ومشروع القضاء على الأمية “بعد عشر سنين” ما زال على حاله، وإذا عالجنا موضوع الأمية بنظرة حديثة، تأخذ المفاهيم الحديثة للأمية باعتبارالشخص غير القادر على اتمام معاملاته الرسمية الورقية باعتماده على نفسه، سنصل الى نتيجة أن نسبة الأمية في ازدياد رهيب،ولم أشمل بعد استعمال الحاسوب الذي بات اداة هامة للمعرفة الشاملة والتواصل الانساني والاجتماعي والثقافي بالمفهوم الواسع للثقافة الذي يشمل الابداع المادي والابداع الروحي للمجتمع البشري.
ان اللغة العربية تتحول الى لغة سماعية، وحتى هنا لدينا مشكلة بأن السائد السماعي من اللغة هي لهجات عامية غير مفهومة لجميع الشعوب العربية ، الأمر الذي يسقط مفهوم الأمة ، ورؤيتي ان مفهوم الأمة هو مفهوم مبني بالأساس على الآقتصاد المشترك ، فأين نحن من ذلك؟
. إن الخطة الأساسية الغائبة من العالم العربي للقضاء على الأمية… هي التنمية الإقتصادية والتكنولوجية والعلمية ونشر التعليم . الفقر والبؤس لا يحتاجان الى لغة عربية إنما الى لهجات تكفي للتفاهم مع المحيط البائس الذي يعيش فيه الإنسان البائس الفقير، ربما هذا مريح لأمن ما يسمى “أنظمة” عربية ، لا شيء فيها من مفاهيم أنظمة الحكم الحديثة . .
أنظمة تكرر فكر القبيلة ومراتبها في ادارة دولها.
ان تطورات العقود الأخيرة، تظهر أن البؤس الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات العربي هي أرض خصبة للتطرف الديني، وللحركات الإرهابية. ولبقاء العالم العربي خارج حركة التاريخ الانساني .
التنمية الاقتصادية تفترض خلق كوادر من التكنوقراطيين والمهنيين، ولا أظن أن اوروبا كانت ستخرج من القرون الوسطى ومن سيطرة الطغيان الكنسي الفكري والديني دون التصنيع والثورة الصناعية والثورة العلمية وهذا انعكس ايجابيًا على الفكر والفلسفة والثقافة والإبداع الفني في كافة اشكاله.
قرأت قبل فترة قصيرة ان الخبراء المصريين المتخصصين في الاقتصاد والمجتمع وعلم النفس ، أجمعوا على خطورة البطالة على الفرد والاسرة والمجتمع، وحذروا من التهوين والتقليل من حجم المشكلة .
المشكلة ليست في مصر ، ولكن مصر نموذج للمشكلة السائدة في العالم العربي . وهي مشكلة تهدد الأمن القومي كما أشار الخبراء وبصدق ، رغم ان رؤيتي انه لم يعد ما نخاف عليه من الأمن القومي العربي في ظل ما هو واقع وسائد اليوم . أصبح الحديث عن صحة الرئيس المصري مبارك ” اخلالا بالأمن القومي لمصر” ، يقود الى قمع الصحافة والصحفيين ومحاكمتهم وسجنهم . اما اهمال 11 مليون انسان عاطل عن العمل في مصر ، فهذا لا يشكل خطرا على الأمن القومي والأمن الاجتماعي والأمن السياسي لمجرد وجود دولة . حقا تقديرات الحكومة المصرية تصر على 1.5 مليون عاطل عن العمل ، وهو بحد ذاته رقم كبير ومذهل ، وهناك تقديرات أخرى تقول 7 ملايين عاطل عن العمل . ولكن المتفق عليه ان 50% من الشعب المصري البالغ 76 مليون انسان هم تحت خط الفقر ، ويقل دخل الواحد منهم عن دولار واحد .. واذا أضفنا لهذه الشريحة اؤلئك الذين يقل دخل الواحد منهم عن دولارين ، ترتفع نسبة الفقراء في مصر الى 80% من مجمل السكان. واذا عرفنا ان ال 20 % ( غير الفقراء !!) بينهم 19.5% يعيشون عيشة متوسطة ، لا أعرف ما هي العيشة المتوسطة في مصر ، ولكني لا أتوقع ان تكون بعيدة عما يعتبر دوليا معاش فقر . هذا يعني ان 0.5% فقط يعيشون برفاهية في مصر. أي مجتمع النصف بالمائة، الذي يمتلك حسب المعطيات الرسمية 30% – 35% من الدخل القومي .
( اعتمدت في هذه المعلومات على ما صرح به الخبير التنموي الدكتور عبد الحميد الغزالي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة في تصريحات خاصة لسويس إنفو)
فما هو مصير مجتمع يعيش 80% – 95% من سكانه على الهامش الاقتصادي والاجتماعي ؟ هل هناك امكانية ان يصل الفكر النقدي العربي ، فكر التنوير ، فكر التقدم الاجتماعي ، فكر النهضة التعليمية والقضاء على الأمية الى ال 80 % الذين همهم ينحصر باشباع جوعهم ؟ هل تهمهم اللغة العربية واتقانها والتداول فيها ؟ هل يقلقهم أن مصير العالم العربي في قاع سلم الركب الانساني؟ هل تهمهم الثقافة والعلوم والابداع العلمي والأدبي ؟ هل يعون ما يدور في وطنهم من سياسات ؟ هل تقلقهم قضايا الواقع العربي من فلسطين الى العراق الى لبنان ؟ هل يقلقهم ان اسرائيل تملك 300 – 600 قنبلة ذرية وهم يملكون النبابيت؟هل هم قلقون من غياب الدمقراطية مثلا؟ ان ما يشغلهم هو رغيف الخبز .. هذا هو الحد الفاصل الذي لا يمكن للسلطة تجاوزه دون ان يحدث انفجار اجتماعي قد يطيح بالسلطة.
اذن هل بالصدفة ان 500 اخصائي مصري من أندر الاختصاصات العلمية ، الى جانب آلاف الخبراء والمثقفين في مجالات مختلفة ، هاجروا من مصر ، هروبا من التخلف والفقر وقلة التوظيفات في الابحاث العلمية .
هذا الواقع يسود الأكثرية المطلقة من المجتمعات العربية حيث تقول التقديرات انه يوجد 25 مليون عاطل عن العمل . وان العالم العربي يحتاج الى خلق 5 ملايين فرصة عمل جديدة كل سنة.هذه الصورة السوداء لا تبشر بمستقبل عربي منفتح الآفاق . تبشر بمجتمع يغرق بالمزيد من الفقر والاملاق . مجتمع عبيد او ما دون العبيد في واقعه ، تفكيرة واحلامه.
صحيح ان الثقافة اليوم لها ابعاد عالمية . ولكني لا افهم انقطاع المثقف عن محيطه ، وانطلاقته الى العالمية . ببساطة هناك ظاهرة هروب تسود اوساط المثقفين العرب ، ربما هي انعكاس لليأس من ثقل الواقع العربي ، وعدم رؤية أي آفاق في التغيير . الى جانب السيف الرقابي السلطوي والديني المسلط على الرقاب .
عصرنا عصر القوة المعلوماتية الرقمية بينما العالم العربي يعيش في تخلف صناعي وتكنولوجي وعلمي ، ومن الصعب الحديث عن صناعات عربية… والتصدير العربي للعالم الواسع يعتمد على البترول بالأساس، ومعظمه تصديره غير مصنّع.. لدرجة أن دولة لا تمتلك أي ثروة طبيعية ، تربح من البترول العربي وتكريره وإعادة تصديره من موانئها( للدول المنتجة للنفط الخام أيضا ) اكثر مما تربحه الدول العربية المنتجة للنفط الخام.
ومع ذلك حركة التنوير الفكري العربية الحديثة، رغم وضعها الصعب، بكونها تتركز اساسًا خارج الوطن العربي، واستيعاب الشارع لها ضعيف وبطيء جدًا، وتكاد تغيب اللغة المشتركة بينها وبين مجتمعها.. إلا أن هناك عوامل أخرى… يبدو أنها ستكون أكثر حسمًا من التطوير البطيء الذي من الصعب ملاحظته وقياسه بأي مقياس ثقافي.
الواقع العربي لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه، لسبب بسيط أن العالم أصبح وحدة واحدة لا يمكن ان تقبل ببقاء معوقات تعيق انطلاقته او ترى به كفرًا يستحق النار. وأظن أننا أمام مفاجآت ليس كل ما فيها مشجعًا ولكن التاريخ لا ينتظر القاصرين!
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي –الناصرة
nabiloudeh@gmail.com