ليس من الصعب الوقوع على ما يبرهن صحّة كلام برنار كوشنير لسفرائه عن أزمة الهيمنة الأميركيّة. يكفي النظر الى الصعود العسكريّ الروسيّ، وبعض أصدائه بادٍ في سويّة، للتيقّن من هذا. بل يكفي النظر الى المدى الذي تبلغه إيران في تحدّي الولايات المتّحدة وهي تراها، في جوارها، تغرق في مستنقع العراق.
فكأن ما يعيشه العالم اليوم لحظة إعادة امتحان الأحاديّة التي انبثقت من انتهاء الحرب الباردة. فكيف متى ترافق هذا مع التداعي يضرب أعمدة الإدارة البوشيّة ويطيحها واحداً بعد الآخر غير مأسوف عليهم؟
بيد أن الوصف أعلاه لا يحمل، بالضرورة، على الارتياح، ناهيك عن السعادة. ذاك أن النهايات قد تستجرّ حروباً، مثلها في ذلك مثل البدايات تماماً. ولربّما فكّر بوش بتحويل نهاية عهده مناسبة متفلّتة من الضوابط يلتفّ فيها على ما قد يؤذن بانتهاء الأحاديّة الأميركيّة.
والحال ان إيران النجاديّة، التي تقدم على الخرق الثاني الأكبر (بعد 11 أيلول/سبتمبر) لمعادلات ما بعد الحرب الباردة، توفّر له فرصة كهذه.
فالمجادلون بوقوع حرب وشيكة بين واشنطن (وإسرائيل؟) وطهران باتت حججهم أسمن وأغنى، وإن كان لا يزال يضعفها نقص الاستعدادات العسكريّة الكافية لإنجاز خطوة كهذه. ففي خطابه أنهى أحمدي نجاد عمليّاً علاقة بلده بوكالة التفتيش النوويّ، وتحدّث عن «ملء فراغ» الخليج على النحو الذي ذكّر بعض المراقبين بـ»ملء – صدّام حسين – فراغ» الخليج إيّاه يوم احتلّ الكويت. أما جورج بوش فاشتمل خطابه الناريّ، وقد سبقه تحذير ساركوزي البالغ الجدّيّة، على نقطتين بالغتي الدلالة: فهو، من جهة، اتّهم إيران، إذا ما غدت دولة نوويّة، بالتسبّب في «محرقة» للمنطقة. ولا يخفى المعنى الرمزيّ العميق لاستخدام لغويّ كهذا، إذ الردّ على احتمال المحارق هو «لن تتكرّر ثانيةً أبداً» ‘Never Again’. كما أشار، من جهة أخرى، الى ضرورة عدم التلكّؤ في الردّ على طهران بحيث تأتي استجابة الخطر متأخّرة وقليلة النفع في درء الخطر ذاك. وهذه أيضاً تتلاعب على حساسيّة غربيّة شهيرة عنوانها «ممالأة هتلر» التي كان رمزها الأكبر تشمبرلين، رئيس حكومة بريطانيا قبيل اندلاع الحرب العالميّة الثانية. فحسب هذا التأويل، لو تُرك لتشمبرلين وأمثاله أن يمضوا في سياستهم، ولم ينهض تشرشل وسياسته بديلاً، لاستحال القضاء على الوحش الألمانيّ.
وإذا ما بدت احتمالات حرب كهذه، بل حروب كهذه، كافية لضبط السعادة والارتياح باحتمال انتهاء الأحاديّة الأميركيّة، فإن ثمّة سبباً آخر لا يقلّ وجاهة هو طبيعة الورثة المحتملين. فالتمسّك بالأحاديّة المذكورة، أو أيّة أحاديّة أخرى، يغدو خطأ وخطراً حين تكون القوى الطامحة الى المشاركة ديموقراطيّة وليبراليّة، كفرنسا وبريطانيا. عند ذاك يصحّ القول إن العالم يتجاوز تلك الصيغة القائمة على التفرّد بما هو أفضل منها، أشدّ رحابة وتوازناً وأكثر غنى وتنوّعاً. أما الخطّ الممتدّ من القيصر الجديد بوتين الى القيصر الصغير شافيز، الذي يسعى الى تعديل الدستور بما يبقيه رئيساً مدى الحياة، فيقلب الارتياح قلقاً والسعادة كمداً.
ويُفترض في الذاكرة أن تتذكّر أن أنظمة الاستبداد لا تُطرح ندّاً لأنظمة ديموقراطيّة مهما أوغلت الأخيرة في أخطائها. ذاك أن الأنظمة الأولى لا يسعها، بفعل طبيعتها وتركيبها، أداء هذه المهمّة. بيد أن ما يسعها، في محاولتها التمرّد على طبيعة الأشياء وقسرها، صبغ وجه العالم وروحه بالتوتّر والعسكرة. وبعد فترة، تطول أو تقصر، نراها تخرّ مثلما خرّ «الاتّحاد السوفياتيّ العظيم» قبل عقد ونصف العقد، مُلقياً في وجه الانسانيّة ملايين الجائعين والمهانين، بعد ملايين القتلى.
الحياة