لماذا دوّت القاعة التي التئم تحت سقفها معظم مسيحيي الرابع عشرمن آذار في معراب بالتصفيق عندما دخل شيخ الصحافة الجليل النائب في البرلمان اللبناني غسان تويني؟ ألأنّ مقالته: “نعم لك في الحرب، لا في الحكم”، جعلت فريقا كاملا من سياسيي لبنان يتنفس الصعداء، ويشعر أنه يقول الشيء ذاته مع الجليل؟ أم لأن شجاعة الرجل وجرأته في اقتحام محظور يحذر اللبنانيون ولوجه هذه الأيام أذهلت المجتمعين؟ هل كان التصفيق تعبيرا عن الامتنان لكلمة قالها الشيخ المحترم معترضا على الديموقراطيات التي تستجدي العسكر وتوليهم ثقة الحكم بعد أن أولتهم ثقة الحرب، في زمن لا يفتأ البعض فيه يبشّر بخرافة قدرة العسكر الحصرية، الكاملة والحقيقية والمؤكدة، على سدّ منافذ الجروح، وفرض الأمن، وضبط الانفعالات أو ضغطها، وإغلاق الفتحات التي يمكن للفتنة وابنة عمها الفوضى أن تتسللا خلسة منها؟ أم أنّ الحماس والحبور غمرا الحضور على وقع مقالة جهرت بـ”لا حصرية”، و”لا تأكيد”، و”لا انصياع” للمقايضة الشرسة والمهينة بين الأمن والخضوع؟
شخصيا، أحب أن أدخل في جوف التصفيق، ولا يمكنني الركون إلى التفسيرات الخارجية التي يمكن أن تخدع، أو تسطّح الموضوع، فلا أظن أن مجرد حذر النواب من تعديل دستوريّ، وقلقهم من استلام ” عسكريّ ” أرفع سلطات البلاد، وبراعة المقالة في الرفض والإفحام هي التي جعلتهم ينفجرون تقديرا و فرحا وتصفيقا، ولا أظن أيضا أن الجرأة في اقتحام المحظور لحساسية التوقيت كانت السبب، و أستبعد كذلك صدور هذا التعبير العفوي الجميل عن سياسيين راقتهم ملامسة المقالة لطبيعة كونهم مدنيين من ذوي التطلعات والطموحات الذين يمثلون أم الصبي في معادلة الرئاسة اللبنانية.
وأكاد أجزم أنّ الحاضرين كانوا منفعلين تأييدا للمقالة في جهرها بسقوط مرحلة كاملة من تاريخ لبنان، واغتباطا بتفوّقها في التبشير بحقيقة دخوله عهدا جديدا.
فالصحافيّ الجليل يؤكّد أنّ الحرب شأن عسكريّ، والرئاسة قضية سياسية، والحروب يديرها العسكريون، والسياسة يمسك بزمامها المدنيون، والعنف يأمربه السياسيون ليتولى تنفيذه العسكريون، هذا دأب الدول التي تتصدّر عالم اليوم بتقدّم أبنائها ومساحات حرياتهم ووفرتها وبحبوحة مجتمعاتها.
وضوح المسؤوليات مبدأ، وصرامته مقدمة طبيعية لدخول المستوطنة البشرية محراب الدولة، والتوزيع الجذريّ لكبرى الأدوار والمسؤوليات شرط التأسيس الصلب، وعماد التكوين الواثق.
صفّق الحاضرون لأن غسان تويني قبض بقلمه على اللحظة الحرجة، وقال خلالها ما سيغدو قوله بعد مرورها تحصيل حاصل، وممانعة معهودة، وحذرا اعتياديا طالما عبّر ويعبّر عنه المدنيون تجاه مؤسسة الجيش في المجتمعات التي تسمو إلى التحول دولا.
فالمعارك التي لم تهدأ منذ أكثر من ثلاثة أشهر في مخيم نهر البارد، والتي قدّم فيها الجيش اللبنانيّ شهداء تجاوز عديدهم المئة، واستخدم فيها نبالة مقاتليه ووطنيتهم، فتحت الأفق على رؤيتين لا ثالثة لهما، في الأولى: أنّ الجيش نال نوعا من الإجماع تعذّر عليه نيله في المراحل السابقة من عمر لبنان؛ ولذلك، وعليه، بدا الأمل والرجاء، به الخلاص، لا بسواه، من واقع انقساميّ أضحى بيئة محتملة للفوضى والدمار وانقراض الكيان. وفي الثانية: أنّ الجيش أثبت صوابية الاندفاع إلى الحسم، وتحطيم كل الخطوط الحمراء ما وضعه ببراعة على رأس الوظائف الأمنية، ورسّخه أداة للكيان في مرحلة تطوّره العليا؛ الدولة.
في الرؤية الأولى: يظهر الجيش “مخلّصا”، أحدا، وقائدا واحدا للكيان، به، لا بسواه ضمان التحوّل إلى دولة، وفي الثانية: نراه يؤسس لنفسه الميدان والوظيفة، ويرسم بتضحيات جنده حدود هذا الميدان، وهوية تلك الوظيفة، ليتجلى: صانع الأمن، جالب الارتياح، وحامي الحمى، لا يربط توفير الأمن بالخضوع وخرس الناس قبل تولّيه مهامه الأمنية من جهة، ولا يحتاج ” بعد ” نجاحاته أن يجيل الطرف على سدّة الأمن وصهوات الاستقرار فلا يرى إلا شعبا ذليلا يمزج ذلّه بعرفانه، ورضاه بخضوعه، من جهة أخرى.
في الرؤية الأولى يبدو لبنان قيد التكوين، وفي الثانية يظهر ناضجا يدرك ما حدث له وفيه، يعدّ العدّة لخطوات تالية، يعرفها، ويعي حساباتها.
والذين يعرفون لبنان، يفهمون المسيرة التي قطعها هذا الوطن الصغير باتجاه اللحظة الحالية التي تتميز بانقسام “موضوعي وإيجابي” بين فريقين اثنين، وعقليتين اثنتين فحسب، الأولى تراه ضعيفا غير قادر، لم ولن يصبح دولة، رضيعا وقزما، والثانية تنظر إلى تضحياته فتتفهم حقد أعدائه وسعيهم اللاهث إلى تجذير نظرية الطفولة والحاجة إلى الرعاية والخيام والظل والمظلات، وتنطلق من تثمين شجاعة الشهداء، وإدراك جبن القتلة؛ لتصرخ أن أحدا لا يمكنه أن يكون بهذا الحقد لو أن لبنان مازال طفلا، وأن قتلا فوق قتل، يليه قتل، ووعيد بتكسير وتخريب وغدر وهمّة للفتك بالبشر وبالحجر، ليست إلا دلائل يقدمها العدو قبل الصديق على أن هذا الوطن الصغير بلغ نضجا يضعه على حوافّ دولة حقيقية، دولة جذريّة، صلبة وعصرية، ركناها: مؤسسات تصارع لتترسّخ قويمة، ديموقراطية، وفاعلة، وبشر شبوا عن الطوق ووضعوا سنوات اقتتالهم وفترات استخدامهم أدوات تعمل لغير لبنان بدماء لبنان وكينونته نصب أعينهم، حذر النسيان، وقلق الإعادة، وضمانة للغد، ولم يعد التفاتهم إلى الوراء ليزجّ بهم في أتون تكرار ممضّ للأخطاء والأوهام، بل إنّ هذا الالتفات نحو الماضي والتبحّر فيه صار وجع ذكرى حيويا ، ومضمار محاذير شاخصا، وعربة فولاذية تستعد لنقل الكيان اللبناني إلى مستقبل مختلف.
لبنان وحده، يقف على حوافّ الدولة ومستوطناتنا البشرية الأخرى في الشرق الأوسط بعيدة كل البعد عن هذا الهدف، لبنان الذي يستطيع جليل ثمانينيّ فيه أن يوصي الناس بوجوب دفن الأحقاد مع ولده الشهيد، لا يمكنه أن يقفز إلى مستنقعات الماضي من جديد، ولم يعد بمقدوره أن يتراجع عن المضي قدما في تثمير كينونته لتنقلب دولة.
وأن يقول شيخ حكيم لبناني أصيل لقائد الجيش، في لبنان هذا، نعم لك في الحرب، ولا لك في الحكم، في صلب معركة مصيرية فاصلة واستراتيجية، دون قلق أو مراعاة، وبوضوح وعزم، فإنّه لا يعكس في قوله هذا مجرد صلابة و محض وعي، ولا يبوح في جمله بما اعتمل في نفوس كثيرة أحرجها التلفّظ، وإنما يعني بكل بساطة أنّ عودة لبنان إلى زمن المستوطنات المتناحرة أضحت وهما ومحالا، وليس ثمّة فرصة للكينونة المنقوصة،ولا مناص من الرضوخ لإرادة المارد اللبنانيّ بالخروج من فوهة القمقم، مرتديا بذلة مدنيّة أنيقة تحتضن في أعطافها قلبا مفعما بالرغبة في الانضمام المتحضّر إلى صلب العالم.
ليست صدفة أن يخرج التعبير الفذّ، في الوقت الفذّ، من فم وقلم ثمانينيّ” أمر ” بدفن الأحقاد مع نجله الشهيد، فمن الآباء من يستشيط غضبا لاغتيال فلذة كبده، وتعمى بصيرته عن رؤية المغزى والسبيل، لأنه يجهل على أي مذبح اغتيل، وضمن أية صيرورة، ووفق أي عداء.
لم أعثر في معراب على فرد واحد صفّق لنفسه، ولم تلهج الأكفّ بالموافقة على طرح سياسي مدنيّ عصري، و لم تغوهم حكمة الشيخ على رحابتها، وشعرت أنهم لا يصفّقون للرجل، رغم جدارته بأعظم التحايا، لقد صفّقوا للبنان إذ يتجلّى، ولدولته الشاخصة أمام أبصارهم، فهم الذين دفعوا من أجلها خيرة سياسييهم، وأقلامهم، ومفكّريهم الأحرار، وألوفا مؤلفة من أبريائهم الطيبين، ابتهجوا للبنانهم الذي بدا لغسان تويني، فأبداه لعيونهم، دولة وحيدة تتأسس وتشمخ بين ظهراني مستوطنات بشرية، لا يحبط تطلعاتها إلى التحوّل دولا، إلا حذاء عسكري شاء أن يختصر في سيوره وقسوة حوافّه حروبها وحكوماتها.
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري