أيام قليلة تفصلنا عن الانتخابات المحلية التي ستجري في أواخر الشهر الحالي، ورغم أهمية هذا الاستحقاق في إشراك المواطنين في إدارة شؤون مناطقهم وتوفير الخدمات الضرورية لها، إلا أن الفتور وعدم الحماس مازال يلف أغلب المواطنين في محافظة دمشق على الأقل، إذ أن الكثير من المواطنين لا يعرفون أن هناك انتخابات أو متى يكون موعدها أصلاً. وهذا ما تبين لي عندما كنت واقفاً في الطابور منتظراً دوري للحصول على إخراج قيد مدني لموكلي وقد سألني أحد الأشخاص: “من أين يتم الحصول على إخراج قيد خاص بالانتخابات؟ فقلت له من هنا .. ليش بدك ترشح حالك لانتخابات الإدارة المحلية؟ فأجابني أية إدارة محلية، أنا هنا من أجل الانتخابات النقابية التي ستجري في مكان عملي؟ فتدخل الرجل الذي يقف أمامي قائلاً : ليش هلق في انتخابات بلدية ؟ فقلت له نعم، ليش ما سمعت وما شفت الإعلانات التي تدعو المواطنين للمشاركة فيها باعتبارها واجب وطني مقدس، وباعتبارك مواطناً يجب أن تشارك وتختار من تراه مناسباً؟! فأجابني: ليش في وقت حتى نفكر ؟ فلقمة العيش تأخذ كل تفكيري، وأنا من رأي أن نترك هذا الأمر للدولة بتعين من تشاء وتريحنا من التفكير ومن المصاريف الزايدة، لأن اغلب الذين يترشحون في الانتخابات همهم الوحيد هو خدمة مصالحهم فقط وتعبئة جيوبهم، ولذلك أرى أن الدولة تعرف أكثر منا من هو الصالح من الطالح. وتدخل شخص ثالث في الحديث قائلا: “نحنا مو شاطرين غير بالحكي.. وشو بدكم بهالحكي، روحوا شبعوا اللقمة بالأول وبعدين فكروا بالانتخابات”.
وبعد أن حصلت على القيد المطلوب وقبل أن أغادر المكان قلت للشباب: “طالما أنكم تشكْون من وضعكم المادي مثللكم مثل بقية المواطنين، فهذا يعني إننا بأمس الحاجة إلى التغيير، والانتخابات المحلية والبلدية تشكل أول فرصة لكم وللناس جميعا للتعبير عن إرادتهم في التغيير، فإذا لم تقترعوا وهذا حقكم، فإنكم بذلك قد تخليتم عن حقكم في المطالبة بالتغيير، وسلمتم بما فرضه عليكم وعلينا الواقع الرديء الذي تسيطر عليه ثقافة الفساد والإفساد المستشرية في البلاد”. فأجابني أحدهم لقد جربنا في الانتخابات السابقة ولم نلمس أي تغيير، باستثناء أن أغلب من ترشح ونجح أصبح عنده سيارة وفيلا وحساب في البنك، وارتفاع الأسعار فاق التصور مو قادرين نشتري حتى كيلو فاصيولياء أو بامية فخلينا بهمنا ألله يخليك”..!
وقبل التعرف على أسباب عدم اهتمام أغلبية الناس بهذه الاستحقاق الانتخابي الهام، سوف ألقي بعض الضوء على تطور عملية التنظيم الإداري في سورية التي مازالت حديثة العهد مقارنة بالدول المتطورة التي سبقتنا مئات السنين في هذا المجال. فالبدايات الأولى لعملية التنظيم الإداري في سورية، تعود إلى زمن الاستعمار الفرنسي، ففي العاشر من كانون الثاني من العام 1936 أصدر المندوب السامي الفرنسي القرار 5 / ل. قضى بموجبه بإحداث مجالس محلية في المحافظات والأقضية، والقرى، مهمتها إبداء الرأي و الإعلام عن أوضاع و أماني السكان، و توزيع الضرائب عليهم .. و منح شهادات فقر الحال.
واستمر العمل بهذا القرار إلى أن ألغي بقانون التنظيمات الإدارية ذو الرقم / 496 / الصادر بتاريخ 21/12/1957، الذي أخذ بالأسلوب المزدوج أي المجالس المحلية إلى جانب المجالس البلدية. وقد قضى هذا القانون بإحداث مجالس المحافظات، والمناطق، والقرى، وينتخب ثلاثة أرباع الأعضاء والربع الباقي يتم تعينه من قبل السلطة المركزية). وقد تمتعت المجالس المحلية والبلديات في ظل هذا القانون ببعض الاختصاصات الإدارية، خاصة فيما يتعلق بالخدمات العامة المحلية للمواطنين المتعلقة بالصحة والطرق والتنظيم العمراني.
وقد استمر العمل بهذا القانون حتى العام 1971 عندما ألغي بصدور قانون الإدارة المحلية رقم 15 تاريخ 11/5/1971 وتعديلاته، هذا القانون قسم سورية إلى أربع مستويات تبدأ بالوحدة الريفية ثم القرية فالبلدة وانتهاء بالمدينة وتتمتع هذه الوحدات بالشخصية الاعتبارية، ماعدا القرية التي يقل عدد سكانها عن خمسة آلاف نسمة، وقد خصص القانون لكل من هذه الوحدات الإدارية مجلس محلي، يتولى السلطة التقريرية فيها، ومكتب تنفيذي يتولى تنفيذ قراراته. وقد نصت المادة السابعة منه على الانتخاب الحر والمباشر والسري لجميع أعضاء المجالس المحلية.أما أعضاء المكاتب التنفيذية فيتم انتخاب ثلثهم والباقي يعين تعييناً وفق ما نصت عليه التعليمات التنفيذية الصادرة بهذا الشأن.
وحددت المادة الثانية منه الهدف الذي صدر من أجله هذا القانون، هو نقل الاختصاصات المتعلقة بالاقتصاد والثقافة والخدمات العامة المحلية، ضمن نطاق التخطيط العام، إلى السلطات المحلية، بينما حصر القانون مهام السلطة المركزية بالتخطيط والتشريع والتنظيم، وإدخال أساليب التقنية الحديثة والرقابة والتأهيل والتدريب والتنسيق وتتبع التنفيذ، وكذلك تنفيذ المشروعات الكبرى التي تعجز عن تنفيذها الوحدات الإدارية، أو تكون بطبيعتها ذات أهمية تتصل بالمواطنين.
ورغم أن الهدف الأساسي من قانون الإدارة المحلية، هو نقل السلطة والمسؤولية لأيدي الشعب حيث يمارس أبناءه مهام شؤونهم المحلية ضمن قانون يؤمن الرقابة الدائمة على حسن التنفيذ وسلامة الأداء. إلا أن واقع الأمر لا يعكس حقيقة ما هدف إليه القانون بحد ذاته، فمجالس وهيئات ومكاتب الإدارة المحلية خلال الأربعين سنة الماضية لم ترتق إلى المستوى المطلوب من حيث تطبيق العمل المؤسساتي أو تطبيق الديمقراطية الشعبية التي كان ينادي بها المسؤولين آنذاك، فمازالت شؤون الإدارة المحلية تخضع لسلطة وهيمنة القرار المركزي ومزاجية الأشخاص المتنفذين مثلها في ذلك مثل بقية المؤسسات والنقابات المهنية والمنظمات الشعبية..الخ.
لذلك في ظل تردي الوضع المعاشي للمواطنين والارتفاع الجنوني المستمر للأسعار، وضعف الوعي والثقافة الانتخابية لدى شريحة واسعة من الناس، وفي ظل استمرار حالة التضييق على الحريات العامة، وعلى نشاط جمعيات ومنظمات المجتمع المدني، والأهم من ذلك غياب أي منظومة قانونية متطورة تكرس مبدأ المواطنة الذي يفتح باب المشاركة الواعية والفاعلة لكل شخص بصرف النظر عن الدين واللون والجنس والسياسة من دون وصاية من أي نوع أو جهة في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة. سيبقى اهتمام الناس منصباً على كيفية تأمين لقمة العيش في ظل الارتفاع غير المسبوق لأغلبية المواد الضرورية وفي مقدمتها المواد الغذائية، وستبقى فرصة الوصول إلى مجالس الإدارة المحلية ومكاتبها التنفيذية متاحة فقط أمام من يحظون بدعم الأجهزة الحكومية وأصحاب الملايين وذوي النفوذ، والذين لا هم لهم سوى خدمة مصالحهم وزيادة ثرواتهم وإيداعها في حسابات سرية في البنوك الأجنبية، وأما من يتمتع بالكفاءة والنزاهة ويسعفه الحظ في الوصول إلى تلك المجالس فسوف يبقى عاجزاً عن الفعل، وغير قادر على العمل بشكل مريح في ظل إطار هذه البنية القانونية القائمة، التي كرست ومازالت تكرس هيمنة فئة سياسية معينة على مجمل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يجعل من حرية العمل والتحرك محصوراً في إطار تلك المنظومة وتوجهات القوى المهيمنة عليها.
vik9op@gmail.com
* دمشق