من أهم التوصيفات التي يراد بها تعريف الإنسان، أنه حيوان له تاريخ، والأكثر دقة أنه يعي التاريخ، أو حيوان تاريخي، بمعنى أن التاريخ يدخل في تكوينه الأدبي، فالمسألة أبعد من مجرد امتلاك الإنسان لخزانة ذكريات، يمكنه أن يرجع إليها عند الحاجة إلى الخبرات المكتنزة فيها، رغم أن هذا أحد الأبعاد الهامة التي أتاحها وعي الإنسان له، بما يمكنه من الانطلاق من آخر نقطة توصل إليها أسلافه، ليكون التراكم الحادث نتيجة تواجد الإنسان في الزمن ذا بعد كيفي، بالمعنى الشائع لدينا “أننا لن نعيد اختراع العجلة” التي سبق أن اخترعها أجدادنا، لكننا نضيف دائماً مع الزمن تغييرات كيفية على الخبرات المتوارثة، ولما كان الإنسان الأدبي، أو إن شئنا الاجتماعي، هو مجموعة خبرات يحيا بموجبها، فإن هذا يعني أن الإنسان ذاته يتغير مع الزمن، بحيث يمكن أن نعدل مقولة هيراقليطس: “أنت لا تنزل نفس النهر مرتين”، إلى حكمة أخرى هي “أنت لا تقابل نفس الشخص مرتين”، لأن الإنسان ومجرى النهر كلاهما يتغير مع الزمن، فالتغير ولنقل التطور في الجانب المادي من حياة الإنسان وأدواته وأساليب إنتاجه، والتي لابد وأن يتبعها تغير مناظر في علاقات الإنسان بالإنسان، وفي علاقة الإنسان بالكون، من المفترض أن تعني تلقائياً تغير الإنسان ذاته، في معدل تطور أدبي متسارع، يفوق آلاف أو ملايين المرات، معدل التطور البيولوجي، الذي كان داروين أول من أزاح الستار عنه.
التطور الذي نتحدث عنه ليس قدراً حتمياً، أو قانون فيزيائي لا نملك منه فكاكاً كقانون الجاذبية أو النسبية، لكنه ككل ما هو إنساني، وربما أشبه بالتفاعلات الكيميائية، يلزمه شروط لكي يعمل بصورة طبيعية أو فلنقل صحية، إذ في غياب تلك الشروط لا يؤدي التغير الناجم عن الزمن وتراكم الخبرات إلى ما يمكن أن نسميه تطوراً، فالوعي الإنساني في علاقته بالتاريخ ليس مجرد خزانة لا نهائية الاتساع، تحتفظ بكل ما يلقى فيها، فهذا إن حدث (وهو الحادث جزئياً في شرقنا) سيكون التراكم وبالاً ومعوقاً لمسيرة الإنسان المفترضة، ونقول مفترضة لأن الإنسان سيكون في هذه الحالة كما لو جرذ انحشر في كومة من الأثاث والأمتعة والمهملات المتداخلة المتضاغطة.
الاتزان هو الشرط اللازم ليؤدي التراكم المعرفي والخبراتي، وما يصاحبهما من تغييرات كيفية في علاقات الإنسان وطبيعته كما أسلفنا، إلى تطور للواقع بكل مكوناته، ويتحقق الاتزان بتفعيل آلية الاستبدال عبر الإزاحة، فالجديد يحل محل القديم، ليس عبر الاستئصال أو الإلغاء، فمن المستحيل محو التاريخ الإنساني من صفحة الوعي العام للبشرية، كما أن هذا المحو من غير المطلوب أو الإيجابي، لأنه (نظرياً على الأقل) يقي البشرية من السقوط إلى هاوية البداية، فيما لو حدثت كارثة تدميرية على مستوى الكوكب الأرضي، فالإزاحة هي الشرط الضروري لمآل التطور، أن يخلي القديم مواقعه تدريجياً أمام زحف الجديد الوافد، الفكر والمقولات والمفاهيم القديمة تتراجع أمام ما توصل إليه الإنسان من حقائق جديدة، العلاقات الجديدة بين البشر وبعضهم، وبينهم وبين الأشياء في الكون الطبيعي، لابد وأن تدفع القديم من الساحة إلى الخلفية تدريجياً، وتظل تدفعه للخلف حتى يستقر نهائياً في المتاحف التي تستعرض آلات الإنسان البدائي، وفي دور الوثائق التي يرتادها الباحثون في تاريخ الإنسانية.
عملية الإزاحة بالطبع لا تكون آلية عمياء محكومة بالتتابع الزمني، وإنما تتم كنتاج لجدل المتناقضات المتعينة، سواء المادية أو الأدبية، لتخرج لنا في صيرورتها الأبدية بالجديد الجدير بالبقاء إلى حين، ذلك الحين الذي تحدده لنا مخرجات الموجة التالية من الدياليكتيك (ليس المثالي الهيجلي، وليس الماركسي المادي البحت، وإنما في نقطة بين هذا وذاك)، وهي العملية التي تتم في المجتمعات الحية والفعالة بيسر وتلقائية، بحيث لا تكاد ترصدها العين، فيما في شرقنا دونها الأهوال أو المستحيل.
الاتزان الصحي في أي مجتمع إذن يتحقق حين يتساوى معدل تراجع القديم مع معدل توافد الجديد، ونصف الاتزان بالصحي لأنه أولاً سيحقق الصحة النفسية للإنسان، بتوفير التجانس لتكوينه الأدبي، فيقيه شر الانحشار في ركام من المتناقضات تتكلس مع الزمن، فتصبح كما لو صخور تعترض مجرى للمياه، تتبدد تلقائياً في البقاع، فتتحول الحياة الأدبية والاجتماعية إلى مستنقع، ثم إلى بركة راكدة، تأنس إليها الديدان والهوام . . والاتزان صحي ثانياً لتفعيل آلية التطور، التي تحسم قفزة الانتقال الكيفي من حالة مادية وأدبية أولية إلى حالة جديدة، كما تكفل تحويل التغير الكمي في المعارف والخبرات المكتسبة إلى تغير كيفي في طبيعة الإنسان الأدبية، ومن ثم في نوعية الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية، كما يتوفر للحياة الاقتصادية المرتبطة أساساً وبالدرجة الأولى بالتغيرات المادية الجارية، يتوفر لها الظروف الأدبية اللازمة لنموها وتوافقها مع الطرائق الحديثة المستوردة، بما يتيح لها التطور الذاتي، والذي نلطم عليه الخدود في شرقنا الأوسط، كأنما ننتظر أن يهبط علينا من السماء.
نزعم أنه لأسباب لسنا في معرض تحديدها وتفصيلها (وتحتاج إلى الدراسة الأكاديمية والميدانية) قد تعطلت لدى الإنسان الشرق أوسطي آلية إزاحة القديم أمام الجديد الوارد، وقد ترتب على هذا عدة أمور، أولها صعوبة قبول الإنسان الشرقي للجديد، بل وإظهار مقاومة تكون أحياناً مستميتة له، ثانيها فقدان الإنسان الشرقي لاتزانه النفسي والأدبي، جراء الصراع الداخلي الناجم عن التنافر بين القديم الراسخ في وعيه، وبين ما لا يجد سبيلاً لصده أو التهرب منه من حقائق الواقع الجديد، خاصة في عالم صار شئنا أم أبينا قرية واحد صغيرة، النتيجة الثالثة هي ما يكاد يكون توقف عجلة الزمن في منطقة الشرق الأوسط، ورابعها ما نشهده من تفجر المنطقة من الداخل، كما لو كانت قنبلة، تستهدف شظاياها كل من تصادف في طريقها، فوق ما تنحو إليه من التوجه القصدي لمراكز إنتاج الجديد، الذي هو مناط أزمتنا الأزلية، والتي تبدو أبدية.
على المستوى الميداني ليس لنا أن نعجب إذن عندما نجد مجموعة من الأطباء الذين نشأوا في بريطانيا، يدبرون تفجيرات بدائية (قدر إمكانياتهم)، لقتل الناس المفترض أن يقومون بمعالجة أمراضهم، كما لا يحق لنا أن نندهش حين نرى شوارع القاهرة (أكبر عاصمة شرقية) وهي مكتظة إلى درجة الاختناق، بخليط ليس في العالم أعجب منه، سيارات من أحدث طراز، وعربات كارو تجرها الحمير، وعربات يد يدفعها أمامه هيكل بشري يكاد يسير حافياً، وباعة جائلون على الأرصفة، أمام أحدث المولات التجارية، ورجال ونساء يرتدون أحدث الأزياء العالمية، متداخلون مع من يرتدون أزياء ترجع إلى أكثر من أربعة عشر قرن مضى، وتختلط في بحر الضوضاء المتلاطم أصوات الموسيقى الغربية، ونداءات الباعة الجائلين المستعينين بمكبرات الصوت (ما وفرها لهم التقدم التكنولوجي)، وأغان شعبية عن العنب العنب وبحبك يا حمار!!
الأمر في القاهرة مثلاً ليس مجرد مظاهر مادية، قد يكون مرجعها الفروق بين الطبقات، أو قصر ذات اليد، فنحن أمام حالة فوضى مادية تعكس الفوضى الأدبية والمأساة الثقافية، وإن لم يكن من المحتم أن تقوم دليلاً عليها، فالفوضى في مصر المحروسة عارمة وأصيلة في كل ميادين الحياة، ونقول أصيلة لأننا نزعم أصالتها في التكوين الأدبي للإنسان المصري والشرق أوسطي بعامة، فالإنسان هنا افتقد إلى آلية الإزاحة للقديم، لإمكان استيعاب الجديد، ونقول اعتنق فلسفة للتواطؤ على تجاور أي كم من المتناقضات، دون أن يفكر أو يقدم على حسم أي تضارب أو فوضى تنجم عن هذا التجاور، تواطؤ واستمراء للا حسم، فالحسم دوماً يحتاج (كما حدث في أوروبا منذ عصر النهضة في القرن الخامس عشر، وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية) إلى صراع واع دفاعاً عن خيارات، لكن الشرق تجنب طوال تلك القرون الدخول في مثل تلك الصراعات، وظل مستنيماً في الحقبة القروسطية، مراكماً فوقها ما وصل إليه من عصور الحداثة، دون أن يجرؤ على الحسم، حتى ثلاثة أرباع القرن العشرين.
في الربع الأخير من القرن الماضي وصل الاختناق الداخلي بالركام والمتناقضات الشرق أوسطية إلى ذروته، لكن الأهم هو أن تلك الفترة أتاحت لأصحاب خيار رفض الجديد موارد مالية، وتسهيلات عولمية للحركة والفاعلية، زينت لهم إمكانية خلق تيار مضاد، يزيح الجديد لترسخ القديم، بل وتصديره للعالم خارج الشرنقة الشرق أوسطية . . إلى هنا ولا بأس . . فها هو الصراع اللازم للحسم، حتى وإن بدا ثمنه باهظاً، لكن المعضلة الشرق أوسطية بجدارة، هي أن أصحاب خيار الحداثة -وهم متواجدون بوفرة في المنطقة- بقوا أوفياء لميراث التواطؤ، والتزموا مراقبة الدماء وهي تسيل، والتفجيرات وهي تدوي، والمجتمعات وهي تتصدع تحت هول ضربات دعاة القديم، دون أن يدفعهم هذا -حتى الآن- إلى تحديد خيار أي خيار لهم، ثم الدفاع عنه، لا الجماهير فعلت، ولا الصفوة، ولا الأنظمة المهددة بالتلاشي مع شعوبها!!
لماذا يفتقد الشرق أوسطي المرونة الكافية لتفعيل آلية الإزاحة الضرورية؟
لماذا لا يقدم على حسم خياراته والدفاع عنها ؟
لماذا دعاة القديم أكثر قدرة على اتخاذ القرار، وأكثر استعداداً للدفاع عنه؟
لماذا لم يتم الدياليكتيك التاريخي في الشرق؟
إلى متى نظل على فلسفة التواطؤ، وإلى أين نتجه؟
أسئلة تنتظر من يجد لها إجابة مع عشرات غيرها.
kamghobrial@yahoo.com