في العراق…… طرف يهدد بـ”خراب البصرة” مرة أخرى…! وطرف آخر يعلن انسحابه من العملية السياسية، ومن الحكم أيضا. وطرف يؤاخذ على الحكومة بعدم تنفيذ بنود الدستور، وطرف يتهم الحكومة بأنها تابعة وتعمل على “ريموت كنترول” أمريكي وإيراني. وطرف كان من المؤمل الركون إليه كونه يتمتع بشيء من الثقافة العلمانية بدأ ينقلب على الكل ويرفض الكل، ويتهم الكل ويحمل مسؤولية تدهور الأحوال على الكل باستثناء نفسه.. وطرف.. وطرف، وقد يجوز ان نقول ان السبب كله يعود الى المخلفات الثقافية والعنفية والإرتدادية النظام السابق.. نظام درّب الناس على إخفاء الذات أمام الذات الملتهب، نظام درّب الناس على التشكيك بالآخر، نظام أسس قاعدة للفتنة، وعجز على العيش بدون ان ينوّجد الخصم وبمعاداة الآخرين ومن أبناء اللون الذي ينتمي إليه.. كان نظاما استثنائيا بكل معنى الكلمة والحق منذ ان سقط “نظام” البعث في العراق، وهو ما كان نظاما بطبيعة الحال، إنما شكل من أشكال النظام، او ديكورا يشبه شكله الظاهري النظام إنما فعليا غير ذلك، أسسه العائلة وحاشيتها ، وذلك لغصب الناس وإقصائهم عن الخيرات والبركات ولترحيل الناس من عقر دارهم..و..و.
بيد انه، وبرغم من وجود أشكال ومقومات النظام مثل وجود الجيش، والوزارت، والمؤسسات وجوازات السفر وأمكنة عقد الندوات، استطاع مواجد وماجدات العائلة النفخ فيها . بعد ان رحل “غبّش” العائلة فوجئ الجميع بالظواهر الاستثنائية ،هذه الظواهر كانت عراقية من نوع خاص ، حيث المطمور بدأ يظهر على السطح ، وبدا ان النظام الذي كنا نتوهم أنه علماني ويقوده حزب من النمط الحداثوي خاو من كل القيم الحداثوية. وما كان هناك أي تأثير لتعبئة الثقافية الحزبية على بنية الوعي البدوي والعشائري. بعد اختفاء القشور ظهر اللب الحقيقي للعراق.. انه عراق العشائر وملاذ قطاع الطرق وعصابات النهب والسلب، وملاذ الإرهابيين ومكان لثقافة رفض الآخر وعدم الوثوق به.. نستطيع القول ان النظام الذي كان يعرف بانه قاس وعمل لرفع الشأن العراق ويتمتع بالقوة العسكرية، اشتغل في حقبة تسلمه لطمر آثار الحضارات (الرافدين والميديين) وعمل على إظهار ثقافة الذبح واغتصاب السلطة بقوة السيف.. رئيس يأتي ويتوطاً على دم رئيس مذبوح، وقائد ترتفع رتبته بمكافأة تجسسه على زميله! نستطيع القول ان القدر ساعدهم على البقاء طيلة هذه الحقب.. لكنهم رحلوا كما رحل من سبقهم. الأمر المستغرب هوان الكل يحاول إظهار نفسه على انه يعمل لمصلحة العراق، وصدام نفسه كان يوحي بأنه يعمل لمصلحة العراق والأمة وللحفاظ على الدولة ومؤسساتها كي لا تصبح هذه المؤسسات لقمة سائغة للأميركيين..!!
بالمقابل في العراق هناك أشياء لا نعرف فك رموزها ونتحير من أمرها مثل مساعدتهم (وشكل المساعدة فقط الالتزام بالسكون) لسقوط النظام.. إنها “النخوة” العراقية لا نعرف متى يحين وقتها، وهناك كريزة عراقية قوية قاتلة تطيش كل الحقد والمواقف المسبقة وتزيل الخصم وتساهم في خلق الوئام والوفاق وهو ما شاهدناه في فرح العراق الكروي بفوزه بكأس فريقه الرياضي المحرر من قبضة عدي “الظالم “.. بين فترة وأخرى تأتي كريزة للعراق وربما “كريزة” العراق هذه المرة للإصلاح البين وتفتح الطريق أمام كل الفرقاء لوعي ذاتها ولمصلحتها المشتركة بكل التلوينات واحترام خصوصياتها. مثلما اكتشفنا الظواهر الجديدة بعد رحيل الطاغية، سننتظر ظواهر جديدة أخرى تهيئ المقام وتستعيد الوعي بما يدور من حول العراق…!!
العراق بحاجة الى “كريزة” أخرى ويبدو ان كل ثورة تحتاج الى ثورة أخرى وهذا ما شاهدناها عبر قراءتا لتاريخ الثورات.
faruqmistefa@hotmail.com
* سوريا