هذه الورقة البحثية التي اعدها الدكتور ناجح ابرهيم، عضو مجلس شورى “الجماعة الاسلامية” في مصر والذي يُعتبر من ابرز منظريها، قدّمت الى مؤتمر “المراجعات من الجماعة الاسلامية الى تنظيم الجهاد” الذي نظمه اخيراً “مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الاهرام” في مرور عشر سنوات على انطلاق مبادرة وقف العنف. وقد كان لهذه الورقة صدى واسع داخل المؤتمر وخارجه في مصر.
ما أود أن أقوله في البداية، إن محاولتنا لوقف العنف في مصر لم تبدأ عام ١٩٩٧ – وقت إعلان المبادرة – ولكنها بدأت من ذي قبل، فقد كانت هناك محاولات مبذولة في الماضي لوقف العنف، ولكنها فشلت لأسباب متنوعة – ليس هذا مجال بسطها- ثم كانت المحاولة الأخيرة في تموز ١٩٩٧ والتي كتب لها النجاح بفضل الله تعالى.
أما الدوافع التي دفعتنا إلى إعلان المبادرة وتفعيلها فهي عديدة:
أولا: فهذا قتال بين أبناء دين واحد، ووطن واحد، وهذه الدماء كانت تراق كل يوم بلا سند شرعي بل إن الشريعة قد صانت هذه الدماء وحمتها وحفظتها. أضف إلى ذلك أن هذا القتال قد أفضي إلى مفاسد عظيمة مثل توقف الدعوة إلي الله، وامتلاء السجون بخيرة شباب هذا البلد، وما نجم عنه من تشريد الأسر وضياع الأبناء، ورغم أن الهدف المعلن من هذا القتال هو إخراج المعتقلين من السجون وكانوا يقدرون -آنذاك- ببضع مئات فقد زاد عددهم إلى آلاف عدة.
ثانيا: ومن الأسباب التي دفعتنا للمبادرة ووقف العنف والاحتراب الداخلي نهائياً هو رغبة إسرائيل في الهيمنة على المنطقة وإضعاف الدولة المصرية وتهميش دورها، ولما كان الاحتراب الداخلي يساعد على ضعف الفريقين، الحركة الإسلامية والدولة معاً، رأينا وقف العنف نهائياً.
فمصر هي أعظم دولة مؤهلة دائماً لصد العدوان عن الأمة العربية والإسلامية، فمن هزم الصليبيين سواها؟ ومن هزم التتار سواها؟ وذلك كله بعد توحدها مع الشام، الذي يمثل الخطوة الأولى في كل انتصاراتنا التاريخية.
وأول خطوة على الحركة الإسلامية أن تقوم بها، ألاّ تحاول هدم سلطة الدولة التي تحيا بها، وعلى الحكومات ألا تحاول هدم الحركات الإسلامية مادامت لا تحاربها ولا تقاتلها ولا تصارعها، فهدم الفريقين هو بداية الهزيمة، وقوة الفريقين معاً هي بداية النصر.
رابعاً: كما نظرنا إلى الخطر الناشئ عن بروز سياسة حصار واستئصال الظاهرة الإسلامية، سواء كانت دولة أو حركة أو أقلية، وذلك على مستوى استراتيجيات القوى الدولية المناهضة للإسلام، وكان استمرار العمليات القتالية يجعل المناخ مهيأ لإتمام هذا الاستئصال أو إحكام الحصار بدعوى مواجهة الإرهاب والحرب الوقائية ضده.
خامساً: وقدرنا أيضاً الخطر الناشئ عن محاولات بعض دوائر أقباط المهجر لتوظيف الضغوط الدولية ضد مصر لتحقيق مكاسب غير مستحقة أو مشروعة بدعوى أن الأقباط يتعرضون لعمليات تستهدفهم من الجماعات الإسلامية والحكومة تتستر على ذلك، وكان استمرار العمليات التي يستهدف بعضها الأقباط يمثل ذريعة يتذرعون بها لاستمرار الضغوط والابتزاز، خاصة مع إحساس هذا النفر من أقباط المهجر ببروز سياسة دولية لتحريض الأقليات ضد الحكومات التي تعيش في كنفها.
سادساً: وقدرنا كذلك الخطر الناشئ عن احتدام الصراع بين دعاة الفكرة الإسلامية ودعاة الفكرة العلمانية حيث يظهر جلياً أن هناك بعض المعارضين للفكرة الإسلامية يوظف العمليات القتالية في مصر لتحريض السلطات على كل ما هو إسلامي لإحراز النصر الحاسم على دعاة الفكرة الإسلامية وكان واجباً علينا أن نحرمهم من هذه الفرصة.
سابعاً: ونظرنا في عين الاعتبار أيضاً إلى الخطر الناشئ عن الاضطراب المتزايد في المشهد الاجتماعي بمصر وذلك باستمرار القتال بين أبناء البلد الواحد بما يخلفه من أحقاد وضغائن.
إن المبادرة ببساطة هي تغير فقهي مهم وتجديد فقهي عظيم قام به قادة “الجماعة الإسلامية” بشجاعة ورجولة منقطعة النظير. وهذا ما كتبه، العلامة الكبير، الدكتور محمد سليم العوا، مادحاً هذا التغيير الفقهي، في الطبعة الجديدة لكتابه “تجديد الفقه الإسلامي”، وكذلك الدكتور يوسف القرضاوي، الذي مدح شجاعة الذين قاموا بهذه المبادرة. أما قصيرو النظر أو ذوو الأهواء، أو الأغراض الخاصة فلا يرون فيها إلا نوعاً من التغير أو التلون السياسي. والذي يقرأ كتب المبادرة يعلم أنها بعيدة عن ذلك بعد المشرقين، والذي يعرفنا عن قرب يعلم أننا لسنا تجار سياسة، ولكننا أهل دين ودعوة إلى الله وهما أشرف شيء نعتز به في حياتنا.
ومنذ أن أعلنا البيان الأول لمبادرة وقف العنف في ٥ تموز ١٩٩٧ في إحدى جلسات المحكمة العسكرية التي كانت تنظر في احدى قضايانا تساءل الكثيرون: ماذا تعني هذه المبادرة؟ ومنذ ذلك الحين تعددت الإجابات والتفسيرات والتحليلات.
فمن قائل يقول: إنها صفقة بين الدولة والجماعة، وآخر يرى أنها من قبيل التقية والخدعة التكتيكية، وآخر يرى فيها إبطالاً للجهاد وخيانة للشهداء.
ولا شك في أن المبادرة لم تكن صفقة بمقتضاها تعطي الدولة للجماعة بعضاً من الدنيا في مقابل طمس بعض معالم الدين، فالدين وأحكامه لا يشترى ولا يباع في سوق الصفقات، والمبادرة عند صدورها لم تكن مخاطبة للدولة بقدر ما هي مخاطبة أعضاء “الجماعة الإسلامية” بالداخل والخارج طالبة منهم إيقاف العمليات القتالية دون قيد أو شرط، فضلاً عن أن الدولة لم يكن من همها البحث عمن يطمس معالم الدين أو يسعى لذلك.
إننا نعتبر المبادرة بمثابة الإصلاح الداخلي لـ”الجماعة الإسلامية”، فقد تغيرت الجماعة بعدها إلى الأحسن والأفضل والأكثر علماً والأوسع رحمة. وعادت ترفع لواء الحب والولاء لجميع المسلمين. تجمع ولا تفرق، تبشر ولا تنفر، عادت لتعالج باطن الإثم مع ظاهره، عادت للاقتراب لا للاحتراب.
ولاشك أيضاً في أن المبادرة لم تكن إعمالاً لمبدأ التقية أو من قبيل الخدعة التكتيكية، لأن “الجماعة الإسلامية” تنطلق من الفكر السني وهو فكر يخاصم فكرة التقية المعروفة في الفكر الشيعي، بالإضافة إلى الإعلان الدائم والمتكرر لأقطاب الجماعة بأن المبادرة تمثل رؤية استراتيجية، ولا ترتبط بحالة افتقاد القدرة أو انحسار العمليات القتالية بمصر، ويكفي للتدليل على صحة ذلك، المحاولات العديدة التي قامت بها القيادات التاريخية لـ”الجماعة الإسلامية”، لوضع حد لهذه المواجهات، عندما كانت العمليات القتالية في قمتها. ولعل أشهر هذه العمليات ما عرف في ١٩٩٣ بلجنة الحكماء والوساطة التي كان على رأسها الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ محمد الغزالي، رحمهما الله، وكان يديرها الدكتور محمد سليم العوا، مع كوكبة من العلماء والمفكرين والصحافيين والمحامين.
ولم يكن في المبادرة ما يعد إبطالاً للجهاد. فهي تقرر أن الجهاد فريضة ماضية إلى يوم القيامة، ولكنها فريضة لها ضوابط يجب توافرها، كي يصح إنفاذها. فكيف يقال بعد ذلك إنها تبطل الجهاد لمجرد أنها تقرر عدم توافر شروط الجهاد أو استمراره في مصر اليوم؟
لكن المبادرة كانت اقتناعا شرعيا ورؤية واقعية اقتنعنا بها تماماً ومثلت أساساً جديداً لمنهج جديد رسخناه من خلال ما أصدرناه من كتب تحمل الفكر الجديد.
ولعل سائلا يتساءل: ما الأهمية الاستراتيجية للمبادرة؟
أولاً: إن هذه أول حركة إسلامية تراجع نفسها وتصحح مسيرتها بنفسها. وتقوم بعملية نقد ذاتي صحيح. تقر فيه ما كان صحيحًا من عملها مثل الدعوة إلي الله وهداية الخلق إلي الإسلام، وتربية النفوس على الفضيلة والنقاء وترك المنكرات الظاهرة والباطنة، وتنفي ما كان في مسيرتها من أخطاء وهنات ومثالب، وتعترف بمسؤوليتها عن هذه الأخطاء في صراحة كلفتها الكثير في الدنيا، ولكنها ستكون لها ذخرا عند الله، إن لم يكن عند العقلاء والحكماء من الناس عامة والمسلمين وعلمائهم خاصة.
ثانيا: هذه أول حركة إسلامية تعترف بكل العمليات التي قامت بها فلم تقل إن الدولة هي التي دبرتها من أجل الإيقاع بها. ولم تعترف بنظرية المؤامرة التي تسود على نطاق واسع في الحركات الإسلامية والعربية والقومية. ورسخت مبدأين للتغيير في الإسلام. وهما منافيان لنظرية المؤامرة المعروفة:
١- مبدأ التغيير الإيجابي، ودليله قوله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
٢- ومبدأ التغيير السلبي، ودليله قوله تعالى: “ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتي يغيروا ما بأنفسهم”.
ورسخت المبدأ القرآني العظيم “أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم”.
إننا نقول إن الأعداء من الدول والأمم والجماعات يتآمر بعضها على بعض ولكن هذا التآمر لا يمثل الإرادة الوحيدة التي تسير الكون وتحول مجرى الأحداث وتفسر كل ما يحدث في التاريخ.
– إن المعني الحقيقي لنظرية المؤامرة هو إلغاء إرادتنا وإرادة كل أحد سوى إرادة “السي آي إي” و”الموساد”، وتعليق كل أخطائنا وسلبياتنا على شماعة المؤامرة الأميركية والإسرائيلية، أو شماعة الدول، وكأننا لا دور لنا في أي حدث يحدث في هذا العالم.
وكلنا يعلم أنه يسود الحركة الإسلامية، منذ زمن طويل، مقولات أن حوادث النقراشي وأحمد ماهر والمنشية والفنية العسكرية والذهبي ومقتل السادات، كلها من تدبير الحكومة أو الاستخبارات الأجنبية للإيقاع بالحركة الإسلامية التي هي بريئة من كل عيب ومنزهة عن كل خطأ في هذه الأحداث.
أما الجماعة الإسلامية فقد اعترفت بكل العمليات القتالية التي قامت بها، واعتذرت عنها لكل من أصابه ضرر منها، سواء كانوا من أفراد “الجماعة الإسلامية” نفسها أو من أفراد الشعب أو من الشرطة أو غيرها.
ثالثًا: إن فكرة المبادرة انتشرت في البلاد العربية وتم تقليدها بحذافيرها في بلاد كثيرة منها علي سبيل المثال لا الحصر.. اليمن، السعودية، الجزائر، المغرب، ونجحت التجربة في هذه البلاد وتم تدريس بعض كتب المبادرة فيها. ولكن للأسف لم يتم تدريس باقي الكتب وهي الأهم والأكثر دقة وتفصيلاً، وهذا يعتبر الامتداد الإقليمي والنجاح الحي لفكرة المبادرة وأنها تصلح لحل الأزمات بين الحركة الإسلامية ودولها وحكوماتها في المنطقة العربية.
رابعاً: رغم هجوم كثير من إخوة تنظيم “الجهاد” على مبادرة “الجماعة الإسلامية” في بدايتها دون دراسة كافية لها أو تمحيص حقيقي لمغزاها النبيل، فإن هؤلاء الإخوة عادوا بعد تسع سنوات كاملة ليعلنوا مبادرتهم ويسيروا علي هدي مبادرتنا. وهذا دليل على قوة مبادرة “الجماعة الإسلامية” وثباتها ورسوخها علي الأرض. وكذلك رسوخها في التأصيل الفقهي والشرعي.
خامساً: كذلك تكررت تجربة المبادرة مع إخوة سيناء الذين قبض عليهم في قضية تفجيرات طابا وشرم الشيخ حيث قام بعض قادة “الجماعة الإسلامية” بشرح المضامين الفقهية لكتب المبادرة لهم. وهذا أدى إلى النجاح الباهر لوقف مسلسل العنف في سيناء، وهذا جزء من نجاح المبادرة الاستراتيجي لم يعرف قيمته أحد حتى الآن.
سادساً: مبادرة “الجماعة الإسلامية” تعد أول سابقة في تاريخ الحركة الإسلامية منذ مئة عام يترسخ فيها مفهوم المراجعة الشرعية والفقهية، والذي كان موجوداً في سلف الأمة ثم غاب عنها فترة من الزمان.
سابعاً: تم في المبادرة ولأول مرة في تاريخ الحركة الإسلامية حل الجناح العسكري والتنظيم السري لـ”الجماعة الإسلامية” حلاً حقيقياً معلناً، مع تسوية مواقف هؤلاء تسوية عادلة، دون إخلال بأي من قواعد الشريعة، أو القانون، أو الإجحاف بحق الدولة، أو حق هؤلاء.
والغريب في الأمر أن هؤلاء الأفراد كانوا مستريحين جداً نفسياً لهذا الحل.
وبالتالي تحولت “الجماعة الإسلامية” إلي جماعة علنية دعوية تربوية تنموية إصلاحية تهتم بهذه الأشياء. ليس فيها ما تستتر به أو تخاف من كشفه أو تخشى من ظهوره. وهذا الأمر كان اختباراً صعباً اجتازته الجماعة بنجاح دون أن يحطمها أو يشتت شملها أو يفرق صفها كما حدث مع جماعات أخرى من قبل، انشق فيها الجناح العسكري على القيادة، وقام بعمليات وضعت قادتها في حرج شديد.
ولعلنا نعلم صعوبة هذا الأمر، إذا علمنا أنه كان لـ”الجماعة الإسلامية” شقان للجناح العسكري، أحدهما في مصر خارجها، مثل أفغانستان والبوسنة والشيشان وكوسوفو، وقد قام الأخير بجهاد مشرف دفاعاً عن هذه البلاد ضد المحتلين، ولكن كان من أبرز سلبياته دخوله في الاقتتال الداخلي داخل مصر.
كما رسخت المبادرة درساً عظيماً للحركة الإسلامية، وهو أن التنظيمات السرية والمسلحة لا تفيد الحركة الإسلامية، بل إنها تجرفها بعيداً عن مهمتها الأصلية وهي “هداية الخلائق”. ثم تصير عبئاً ثقيلاً عليها يقيد حركتها، ويحطم كيانها، ويدمر مستقبلها، بعد أن تنجر هذه التنظيمات إلى لعبة العنف والعنف المضاد.
وكلنا يتذكر أن معظم الحركات الإسلامية قد أنشأت التنظيمات السرية للدفاع عن الدعوة، فإذا بهذه التنظيمات هي التي تحول بين الحركة والدعوة، وهي التي تصبح سبباً في منع الحركة الإسلامية كلها عن كل شيء بدءاً من الهدي الظاهر إلى آخر مظاهر الدعوة بل جوهرها.
لقد جرجرت التنظيمات المسلحة والسرية الحركة دائماً إلى صدامات لا تريدها ولا ترغبها ولا تقدر على مواجهتها بدءاً من اغتيال النقراشي وحادث المنشية وحتى حادث الأقصر، ثم في النهاية جرجرت الدول الإسلامية والعربية إلى مواجهة لا تريدها مع اميركا والغرب بعد حادث ١١ ايلول.
إذا أردنا التعرف على أهم الملامح الرئيسة للمراجعات الفكرية فهذه بعضها:
أولاً: وجهنا الأنظار إلى أهمية النظر في المصالح والمفاسد، وما يعرف بفقه المآلات (النتائج) بحيث لا يخوض الشباب غمار صدام عنيف يعود ببالغ الضرر عليه وعلى دينه وعلى وطنه، وأيضاً يحاول الشاب أن يقرأ واقعه سواء على المستوي المحلي أو الإقليمي أو الدولي بحيث لا تصبح أفعاله وتصرفاته سبباً لإضعاف وطنه وإحداث خلل ينفذ منه الأعداء.
ثانياً: عارضنا وبشدة ما يقوم به البعض من تفجيرات عشوائية تؤدي إلى إزهاق أرواح الأبرياء المسلمين لأسباب واهية، ولم نكتفِ ببيانات الإدانة فقط، بل سارعنا إلى إصدار كتابين: “تفجيرات الرياض” من تأليفي و”استراتيجية القاعدة” من تأليف أخي الدكتور عصام دربالة، تناولنا فيهما القضية الخطيرة من منظار شرعي وواقعي.
ثالثاً: أعدنا قراءة بعض الفتاوى التي تم تنزيلها على واقعنا في الماضي تنزيلاً خاطئاً مما أفضى الى مفاسد كفتوى التتار وخرجنا بنتيجة مهمة، وهي أن الجيوش المعاصرة في الدول الإسلامية تختلف اختلافاً جذرياً عن جند التتار، وبالتالي فقياس هؤلاء على هؤلاء قياس فاسد.
كذلك أعدنا قراءة بعض المفاهيم كمفهوم حتمية المواجهة، وأثبتنا أنه لا حتمية إلا لما حتمه الله عز وجل علينا أو حتمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقلنا أيضاً: إن عدالة القضية لا تعني حتمية المواجهة، فحتمية المواجهة ليست سنّة كونية ولا حكماً شرعياً، وإنما هي فتوى قد تصيب، وقد تخطئ، فضلاً عن أنه لا يجوز أن تتعدى لكل واقع وزمان.
رابعاً: قدمنا رؤية تمثل نتاج تفكيرنا طوال السنوات الماضية في قضية الحاكمية والعلاقة المفترضة بين الحاكم والمحكوم في ظل تعاليم الإسلام ومبادئه، قلنا فيها إن مجرد ترك الحكم بما أنزل الله لا يعد كفراً إلا إذا انضم إليه أمور مثل الجحود أو تفضيل حكم البشر على حكم الله… وكذلك نوهنا بأهمية ما يمكن تسميته محاكمة البشر وأثبتنا للبشر حاكمية، وأن هذه الحاكمية لا تصطدم بحاكمية الله سبحانه وتعالى إذا عملت في إطارها الصحيح الذي رسمه الإسلام لها، وأن كلتا الحاكميتين تكمل بعضهما بعضاً.
وكذلك أشرنا إلى فقه الأحكام السيادية مثل إعلاء الحرب أو إقامة الحدود والجنايات والأمن الداخلي والخارجي وعقد السلام وما إلى ذلك وأشرنا في كتاب “تطبيق الأحكام من اختصاص الحكام” الى أن هذه الأحكام السيادية لا يجوز للأفراد ولا الجماعات مهما كان صلاحها أن تقوم بها، لأن هذه الأحكام منوطة بالحكام وحدهم، مهما كان بعدهم عن الشريعة إذ أنها تتطلب قدرة خاصة لا تتوافر إلا في هؤلاء الحكام وثوابهم براً كانوا أم فجوراً.
كل هذا إضافة الى مفاهيم أخرى عدة تضمنتها سلسلة الكتب التي قمنا بإصدارها.
وأقولها صراحة، من الخطأ الكبير ألا تستفيد الدولة من طاقات الشباب المسلم الصالح ومن الطاقات الإيجابية العظيمة للحركة الإسلامية في تنمية المجتمع وتهذيبه وتطويره وتنقية أخلاقه، وهذه المهمة فشلت فيها كل دول المنطقة العربية الإسلامية، ونجحت فيها الحركات الإسلامية، وفي المقابل فإن على الحركة الإسلامية أن تترك العنف نهائياً، وأن ترسخ لدى كل الحكومات أنها لا تريد القفز في غفلة من الزمان على كراسيهم.
فتترك للدولة الأمور السيادية المعروفة وتترك الدولة للحركات الإسلامية المنضبطة دورها التربوي والإيماني والأخلاقي والاجتماعي والإصلاحي بعيداً عن النزاع الساخن أو البارد على سلطة لن يدركها الإسلاميون، وإذا أدركوها أجبروا على تركها تحت ضغط الموقف الدولي والإقليمي، كما حدث مع “حماس” في فلسطين والمحاكم الإسلامية في الصومال، وليس هذا منا ببعيد، ولو حدث هذا لاطمأن كل فريق للآخر وتفرغ كل فريق لإتقان عمله والتفرغ لمسؤولياته.
إن الحرب الباردة أو الساخنة التي حدثت بين الحركة الإسلامية وبعض حكومات الدول العربية والتي يرجع بعضها إلى الأربعينيات أضرت بالفريقين، وأنهكتهما وعطلت تقدم المجتمعات الى الأفضل وتطورها ونموها. ومرجع هذه الحرب الباردة والساخنة في الحقيقة هو صراع الإرادات والسلطات، فكل منهما يرى أنه الأجدر بقيادة المجتمع وريادته، وذلك على الرغم من أن الحركة الإسلامية مرت عليها فترات طويلة لم تكن فيها مهيأة للحكم وهذه شهادة لله وحده لا أرجو بها إلا وجهه.
وخير مثال على ذلك تجربة “طالبان” و”المحاكم الإسلامية” في الصومال و”جبهة الإنقاذ” في الجزائر وتجربتنا نحن عند مقتل السادات عام ١٩٨١، وأمثلة أخرى كثيرة أتحرج من ذكرها لحساسيتها وعدم قبول أصحابها أي نصيحة أو نقد بناء بل إنك قد تنقد الحكومة أسهل كثيراً من نقدهم. وهذه حقيقة قد لا يستطيع الكثيرون التصريح بها. ولا يعني هذا أن الحكومات أفضل من الإسلاميين. بل الإسلاميون أتقى وأنقى وأطهر وأصلح، ولكن ذلك شيء والواقع بكل تداعياته شيء آخر. ولو تكامل الطرفان وقام كل منهما بواجبه وترك للآخر واجبه الذي يحسنه ويجيده لكانت حال الأمة العربية والإسلامية أفضل كثيراً من ذي قبل.
ولقد كان الإسلام عظيماً وواقعياً حينما قبل بقيادة المفضول للأفضل حتى دون تغلب وقوة، فما بالكم إذا توافرت للمفضول السلطة والغلبة والقوة والقبول الإقليمي والدولي؟
إن منطلقاتنا كانت ولاتزال هي الكتاب والسنة، ولا يضر المجتهد أو العالم أن يرى الحق في غير رأيه فيترك رأيه ويعود الى الحق، ورحم الله عمر بن الخطاب حينما قال لأبي موسي الأشعري رضي الله عنهما: لا يمنعك قضاء بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم.
ولقد نظرنا في ما قدمناه للإسلام وعملناه طوال السنوات الماضية فوجدنا فيه خيراً كثيراً وفي الوقت نفسه وجدنا فيه بعض الأخطاء. وأهم خطأ هو استخدام العنف في مواجهة الدولة، وكذلك استخدام العنف أحياناً في تغيير المنكرات.
ولكن لـ”الجماعة الإسلامية” أعمال عظيمة يغفل عنها الكثيرون مثل الدعوة الإسلامية القوية والفعالة التي قامت بها وحولت الصعيد كله من بؤر للفساد والعصبية الجاهلية إلى ولاء لله ورسوله، وهي كذلك التي حاربت التكفير والهجرة ومنعتهم من التغلغل في الصعيد في السبعينات والتسعينات وهزمتهم فكرياً وواقعياً، وهي التي علمت الناس الدين، في الصعيد خاصة، وفي مناطق أخرى، وأشياء أخرى كثيرة ليس هذا مجال ذكرها.
إن مبادرة منع العنف وما تلاها من مراجعات فقهية مهمة ليست ملكاً للجماعة الإسلامية وحدها بل هي ملك للمجتمع بأسره، وأنتم في طليعته بما تملكون من ثقافة وفكر فحري بنا أن نبحث دوماً عن تفعيلها وتعظيم الاستفادة منها حتى نقي بلادنا ويلات الصدام والعنف وحتى لا تتحول مع مرور الوقت الى تجربة خاصة بالجماعة الإسلامية فقط، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ناجح ابرهيم
(عن جريدة “المصري اليوم)
منظّر”الجماعة الإسلامية” في مصر ناجح إبراهيم: هذه أسبابنا لوقف العنف
أسمع كلامك أصدقك …أشوف عمايلكم
أتجنن….!!!!