في أواخر العام 1999، حين كانت أكثر من نار هادئة في واشنطن ودمشق والقدس المحتلة تطبخ المسوّدات والخرائط الضرورية قبيل التوصّل إلى اتفاقية سلام بين الدولة العبرية والنظام السوري، نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية خبراً لافتاً، سرعان ما أكدته صحف عربية نقلاً عن مصادر سورية مسؤولة، عن ترتيبات كان يتولّى أمرها عضو الكنيست عبد الوهاب الدراوشة، لعقد «قمّة روحية» فريدة في دمشق. لائحة ضيوف القمّة ضمّت مفتي سورية آنذاك، الشيخ أحمد كفتارو، ويسرائيل لاو كبير حاخامات إسرائيل، يحضرها أيضاً الحاخامات إلياهو بكشي، عوفاديا يوسف (الزعيم السابق لحركة «شاس») ويوسف جيجاتي (حاخام اليهود السوريين). وكان مطلوباً من القمّة أن تكسر، على الجانبين السوري والإسرائيلي في الواقع، طبقة أولى من الجليد السيكولوجي السميك والصلب والعتيق، الذي لا بدّ من كسر طبقاته واحدة تلو الاخرى، قبل الشروع في التطبيع.
واليوم، بعد أخبار اللقاء المشهود ـ و”التاريخي” حسب توصيف الصحافة الإسرائيلية، بين مفتي سورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون والحاخام الأكبر للجالية اليهودية في النرويج يوئاف ملكيئور (نجل عضو الكنيست عن حزب “العمل” الإسرائيلي ميخائيل ملكيئور، للإيضاح المفيد)، هل يصحّ الحديث مجدداً عن جهد منهجي لكسر جليد جديد، فوق الجليد القديم؟ ذلك لأنّ اللقاء لم يكن روحياً فحسب، كما حرص المفتي على التأكيد، بل تضمّن طلب الحاخام من حسون أن يبذل مساعيه الحميدة من أجل نقل رفاة الجاسوس الإسرائيلي الشهير ايلي كوهين إلى إسرائيل؛ كما أنّ هذا الطلب ذاته لا يمكن أن يظلّ إنسانيّ الطابع ليس أكثر، إذا تأمّل المرء ردّ المفتي على الحاخام: سوف يصبح الطلب واقعياً، بعد تحقيق السلام بين البلدين!
في جانب غير روحيّ البتة، على الجبهة الدبلوماسية ـ السياسية ليس أقلّ، قال السفير السوري في لندن إنه “تعيش في سورية أقليات كثيرة، من مسيحيين وأرمن وأكراد. ولا توجد أي مشكلة في أن يعيش إسرائيليون أيضاً”. تصريحات الدكتور سامي الخيمي وردت خلال ندوة نظمها “المركز الإعلامي السوري” في لندن مؤخراً، تحت عنوان “هضبة الجولان: ننهي الاحتلال، وننشيء سلاماً”، في مناسبة الذكرى الأربعين لاحتلال الجولان، وجاءت ردّاً على سؤال مباشر حول مصير مستوطني الهضبة في حال انسحاب الدولة العبرية منها.
ولقد سارع السفير الخيمي إلى تصحيح أقواله تلك، وأنّ جوابه كان أنّ المستوطنين “قد يفضّلون البقاء تحت السيادة السورية كون سورية بلد مسالم بالنسبة لكلّ جيرانها، بلد علماني يحترم كل الأديان ويتمتع فيه كافة المواطنين بحقوق متساوية”، كما جاء في صحيفة “السفير” اللبنانية.
المركز الإعلامي ذاته، وهو جهة حكومية سورية في نهاية المطاف، كان قد نشر النصّ التالي في موقعه على شبكة الإنترنيت: “في ردّ على سؤال بشأن مصير المستوطنين الإسرائيليين في الجولان بعد عودتها إلى السيادة السورية، قال الدكتور الخيمي إنهم قد يفضّلون البقاء تحت السيادة السورية، كون سورية ملجأ آمن لكل جيرانها ـ كبلد علماني يحترم كل العقائد وتمتع كل مواطنيه على الدوام بحقوق متساوية ـ بدلاً من العودة، كما يجب أن يفعلوا بموجب القانون الدولي، إلى إسرائيل: دولة أبارتهايد (عنصرية) ذات مظاهر ديمقراطية مزيفة”.
ما الفارق، حقاً، سوى احتمال أنّ يكون السفير قد تقصّد التنصّل من الشطر الأخير في تصريحه، وليس الشطر الأوّل، أي شاء النأي بنفسه عن توجيه تهمة ثقيلة إلى إسرائيل، قد تجرّ عليه غضبة اليهود داخل بريطانيا، وهي في الآن ذاته قد تغضب سيّده في دمشق لأنّ أقوالاً كهذه قد لا تكسر الجليد بقدر ما تضيف إليه المزيد؟ ولعلّ الدكتور الخيمي تذكّر أنّ الشيء بالشيء يُذكر، وأنه إذا كانت إسرائيل دولة عنصرية بالفعل، وإعادة إنتاج لأسوأ ما انطوى عليه نظام الأبارتيد العنصري في جنوب أفريقيا، فهل دولة النظام البعثي الحاكم في دمشق ليست عنصرية تجاه البعض من أبناء سورية، الأكراد على سبيل المثال الأبرز؟ وهل يتمتّع جميع المواطنين السوريين بحقوق متساوية، بالفعل، حتى أنّ رجل أعمال مثل رامي مخلوف لا يختلف في الحقوق والواجبات عن مواطنه ابن بلده رياض سيف، مثلاً؟
ولن تتكامل جهود المفتي وجهود السفير إلا إذا صبّت المياه في طاحونة التلميح والتصريح التي يشغّلها الوزير، وزير الخارجية، وليد المعلّم. ولقد جاء في الأخبار أنّ مايكل وليامز، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، نقل إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت استعداد دمشق للعودة فوراً إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، دون شروط مسبقة. وسلّم وليامز الرسالة إلى أولمرت بحضور الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أثناء مأدبة عشاء أقامها داني غليرمان، المندوب الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، في نيويورك. وأمّا الطرف المرسِل فقد كان وليد المعلّم، مفوّضاً من سيّده بشار الأسد الذي ينتظر الوسيط الأممي نفسه، وما يمكن أن يكون ردّ أولمرت على عروض دمشق.
غير أنّ تسريبات رئيس وزراء الدولة العبرية أوحت، سريعاً وصراحة، بأنّ سيطرة “حماس” على مقاليد الأمور في غزّة هي شغل أولمرت الشاغل هذه الأيام، مثله في ذلك مثل سواه في الواقع! ولهذا كان يتوجّب على أحد ما، في جهاز النظام السياسي، أن يتلافى بعض الأضرار التي تسببت فيها الجهود المجانية لأمثال المفتي والسفير والوزير، خصوصاً وأنّ ما خفي منها كان أدهى على الأرجح. ولقد وقع الاختيار على نائب الرئيس، فاروق الشرع، فأدلى بسلسلة تصريحات معاكسة، لكي لا نقول مناقضة، لما جرى هنا وهناك من عمال كسر الجليد.
ولقد أفادنا الشرع بأنّ “إسرائيل والولايات المتحدة لا تريدان السلام مع الفلسطينيين، ولا مع سورية”، التي “تأخذ كلّ الاحتمالات على محمل الجدّ، وتعطي الأولوية للسلام”. ومع ذلك فإنّ النظام لم يعقد مفاوضات سرّية مع إسرائيل، لأنّ “الاتصالات السرية هدفها فقط التنازل، وسورية غير مستعدة للتنازل”. ولكي يذهب أبعد، في جانب تسديد بعض النيران على البيت الأبيض تحديداً، قال الشرع إنّ اتفاقاً سورياً ـ إسرائيلياً “سوف ينقصه الدعم الأمريكي اللازم، “لأنّ “الرئيس الأمريكي جورج بوش قال بصريح العبارة أخيراً: أنا لا أريد السلام مع سورية”.
غير أنّ العلامات والإشارات والنُذُر الساعية إلى كسر الجليد أو الإيجاء بإضافة سماكات جديدة إليه، أمر يختلف تماماً عن العودة ـ مشروطة او غير مشروطة ـ إلى طاولة التفاوض حول أيّ انسحاب إسرائيلي من الجولان، فكيف بالتوصّل إلى مسوّدة اتفاقية سلام شامل وختامي. وفي مناسبات كهذه، وهي كثيرة وافرة دائماً، تقفز إلى الذهن تلك المسلّمة التي تقول إنّ مرتفعات الجولان ليست مجرّد صخرة ثقيلة جثمت وسوف تجثم على طاولة أيّ تفاوض سوري ـ إسرائيلي (على نحو لا يشبه في شيء مفاوضات صحراء سيناء أو منعرجات وادي الأردن الضيّقة) فحسب، بل هي أيضاً وأساساً هضبة «أشبه بكرتونة بيض» قادرة على دبّ القشعريرة في أوصال أيّ عسكري إسرائيلي يشغله الدور الحاسم الذي تلعبه طبوغرافية الأرض في حسم الحروب.
كما تقفز إلى الذهن تلك العقلية الإسرائيلية الفريدة حول التطبيع، والتي تقف، بقوّة غاشمة في خلفية أيّ سيناريو تفاوضي ذي حظّ أدنى من النجاح. وفي أكثر أيّام التفاوض السوري ـ الإسرائيلي إزدهاراً وانتعاش آمال (حين صرّح الشرع نفسه أنّ نسبة 80% من القضايا العالقة تمّ إنجاز المباحثات حولها)، قام المؤرخ والصحافي الإسرائيلي توم سيغيف بتوجيه رسالة مفتوحة إلى الأسد الأب، عبر صفحات صحيفة «هآرتس»، بدأها بالقول إن الرأي العام الاسرائيلي مجمّد عند نقطة الإقتناع بأن المحادثات بين سورية وإسرائيل أشبه بالوضع الذي يقول فيه طفل لآخر: «دعني أرى ما لديك، لكي أدعك ترى مالديّ». وسيغيف أضاف إلى نوايا الأسد المعلنة، تلك النوايا الأخرى الخفية التي لا تترك أدنى ظلّ للشك في أن مصلحة سورية تقتضي عقد السلام، ولكنه مؤرّخ يعرف بلاده أكثر من معرفته بالبلاد الأخرى، ولهذا كان تشخيصه للوضع العالق يتجاوز بكثير حكاية طفلين يتعاندان على إظهار ما عندهما.
وتابع سيغيف مخاطبة الأسد: «لقد بدأتَ طور الطمأنة الجديد بحديث صريح مع يهودي طيّب من أمريكا هو توم لانتوس. ولكن لانتوس لن يعيش معك، بل نحن الذين يتوجب أن نعيش معك وتعيش معنا، فتحدّث إلينا يا سيادة الرئيس». كيف؟ هنا فكرة سيغيف: «أقترح عليك استدعاء مجموعة من الصحافيين الإسرائيليين إلى دمشق. ويسرّني أن أكون أحدهم. اسمحْ لنا بالتجوّل الحرّ يوماً أو يومين في مدينة دمشق، ودعنا نتحدث مباشرة مع الناس في الشوارع، ونكوّن انطباعاتنا الخاصة. عرّفنا على مَنْ نعتقد أنه يجدر بنا التعرّف إليه، مثل أساتذة الجامعات ورجال الاقتصاد وضباط الجيش والوزراء، ثم تحدّث إلينا أنت ساعتين أو ثلاث ساعات. أقنعنا أنّ السلام جزء لا يتجزأ من نظريتك الاستراتيجية لمستقبل سورية، وأنّ السلام يعكس مصلحة سورية حقيقية. من الممكن جداً أن نثق بك في هذه الحالة، وأن نكون عوناً لك أكثر من لانتوس».
كان العشق، ويظلّ، هو المطلب الإسرائيلي: العشق لوجه الله، ودون مطمع أو تنازل أو انسحاب. مطلوب من هذا العشق، مع ذلك، أن يقترن بملفّات حاسمة حارقة غير عاطفية، مثل الإنسحاب من الجولان، وتفكيك معظم المستوطنات الإسرائيلية في الهضبة، وإلغاء القوانين الإسرائيلية التي تضمّ الجولان إلى الدولة العبرية، والقبول بالحدّ الأدنى من الترتيبات العسكرية والأمنية في كلّ مرتفع منفرد من «كرتونة البيض» الكابوسية تلك، والتفاوض الشاقّ حول صنوف الأسلحة المسموح بنشرها في الهضبة، ومرابطة وحدات عسكرية دولية للفصل بين القوات، وتحديد أنظمة الإنذار المبكّر… إلى ما سوى ذلك من قضايا شاقّة وشائكة وعالقة، لا تليّن عريكتها استراتيجيات التطبيع العاطفي أو أحكام القيمة والتحيّات والتمنيّات.
والحال أنّ النظام السوري يدرك هذه الحقيقة، إدراكاً عميقاً مسلّحاً بتجارب الماضي البعيد والماضي القريب على حدّ سواء، مثلما يدرك في المقابل أنّ أسباب بقائه، أو بالأحرى استمرار وجوده في صيغة الإستبداد والفساد والنهب والحكم العائلي، مرهونة بمقدار ما يقدّم من للدولة العبرية من شهادات حسن سلوك، بينها في المثال الراهن هذه الألعاب: يدير وقائعها أمثال حسون والخيمي والمعلّم، ثمّ يقلبها رأساً على عقب أمثال الشرع، لكي تعود القهقرى مجدداً إلى فريق آخر من اللاعبين والقالبين! ما هو أهمّ من هذا اللعب، الذي يجري في الوقت الضائع غالباً، أنّ النظام يدرك جيداً تلك الحقيقة الأكبر التي تقول إنّ الطراز الثاني من أسباب بقائه، أي الاقتيات على فظائع السياسة الأمريكية في العراق ولبنان وفلسطين، والاستفادة الواسعة من تخبّط هذه الإدارة في الملفّ الإيراني استطراداً، ليست إلا من طراز فضل القيمة.
.. غير المضافة في واقع الأمر، لأنّ ما يكسبه النظام لا يبدو وكأنه يتراكم عملياً، بقدر ما يطرأ سريعاً لكي يتطاير أسرع!
s.hadidi@libertysurf.fr