ليوم كامل ظل تلفزيون السويد القناة الأولى، ينقل وقائع مؤتمر عن الطب النفسي عند الأطفال. فالأطفال، والأسرة، وأمهم/المرأة، هم الأهم، هم من يستحقون برأيهم الوقت والجهد، أولاً وأخيراً.
لم تسعف الظروف إحدى الحاضرات في تأمين طفلها الرضيع، ولم ترغب أن تفوّت فرصة الاستماع إلى الأبحاث التي ستلقى، والتي سترشدها لصعوبات قد تواجهها في تربية ابنها، أتت حاملة الطفل. كان بين الحين والآخر يغرّد بصيحة، فتخرج به قليلاً ثم تعود. وفي وقت قامت بإرضاعه وقت المحاضرة، لم أقرأ في وجوه الحاضرين والمؤتمرين أي تذمر أو رفض لوجود الطفل. فلنحاول أن نتخيل حضور أم مع طفلها في بلادنا لأي مؤتمر، ونظرة الاحتقار التي ستنالها الأم إن نبس الطفل بصوت أثناء المحاضرة، رغم أن التوصيات التي يخرجون بها في كل المؤتمرات التي حضرتها في بلادنا ظلت على الورق، وكنا دائماً نتضاحك حين يقرؤون التوصيات آخر جلسة.
يرتبون للمرأة أحلى الظروف. كان عدد الحضور من النساء يفوق كثيراً عدد الحضور من الرجال، وعدد المؤتمِرات يكاد يعادل عدد المؤتمِرين، يعني عدد الطبيبات لايقل عن الأطباء. كل هذا معروف عن الدول الاسكندنافية، فهي دول النساء، يتفاخرون بتاريخ نضالهم قائلين: النساء النورديات مقتحمات.
وهذا حق، فرؤساء أهم ثلاثة أحزاب في السويد هم من النساء، ونساء فنلندا ربما أكثر اقتحاماً ونشاطاً أيضاً.
تغلبني مثل معظم أهل بلادنا الرغبة بمراقبة هؤلاء النساء المتقدمات بخطى حقيقية، فقد اعتدنا أن للمرأة التي لديها اهتمام بالشأن العام، شكل بعيد عن شكل بقية النساء، الأمهات مثلاً، فهي بالضرورة صارمة بعقلها ومظهرها، وغالباً ماتكون متوسطة الجمال إلى قليلة الجمال إذا قسنا الأمور بالمقاييس العادية للجمال، وغالبا حين تكثر حيلتها وبراعتها في مخاطبة المجتمع، تقل رقتها ويقل حنانها فالمجتمع مجتمع الذكور وإن كان عدد النساء أكثر من عدد الذكور.
أما المظهر الآخر لنساء بلادنا اللواتي خرجن عن نسق النساء، فتطلق أمهاتنا عليه كلمة “المتحررات”، النساء اللواتي يضقن بالثياب فيكثرن من خلعها، لن ندخل الآن في تفسير أسباب تكون هذين النمطين من النساء، “المتحررات، أو المسترجلات” فالظروف أحياناً تجبر على هكذا تكوين.
في إحدى الاجتماعات الكثيرة التي يقوم بها أعضاء مجلس البلديات لكل منطقة من مدينة استوكهولم، تركت فتاة كرسيها وتوجهت إلى المنصة، لتسأل أعضاء المجلس وتعلق على خطاب بعضهم. ليس للفتاة أي صفة رسمية، هي مواطنة تسكن المنطقة ومصلحتها تابعة لتلك البلدية ويحق لها أن تدلي برأيها، تنتقد مشاريعهم وتشارك باقتراحات حسب ماتعتقده مفيداً. كانت مرتدية قميصاً من الشيفون الأبيض المطرز والمليء بما نسميه “كشكشات”، وهي عادة حركة تدخل على القمصان أو الأثواب التي عندنا يسمونها بالعامية “دلّوعة”. راقبتها ولسان حالي يقول: ماالذي ستتحدث به هذه البيضاء، بشعرها المدور وكل مافيها مدور، وبهذا القميص الذي توشك أن ترقص فيه!
تحدثت صاحبة “الدلّوعة” فيما الجميع مصغ باحترام واهتمام حقيقي، أصغيت بدوري، أطالت، لكن، كانت لشدة أهمية وتماسك ماطرحته، كدت لاأصدق عيني أنا ابنة الشرق: هل من المعقول أن صاحبة هذا الذوق في الثياب، يمكنها أن تحلل الأمور بهذا الاتزان؟. مثلها كثيرات ولاأبالغ إذا قلت مثلها كلهن، فالإنسان مع الحرية، هو المرأة والرجل سيان.
نقلت إلى قناة أخرى، كان هناك مقابلة مع وكيلة إحدى الوزارات، امرأة بشعر قصير وثياب بسيطة جداً، لم تراع الأناقة أو أنها لم تفكر بالأمر على الإطلاق، كأنها وضعت عليها أول قميص وبنطال صادفته أمامها وجاءت إلى المقابلة لتؤدي ماعليها من واجب، كان واضحاً من انشغالها الشديد أنه ليس لديها وقت للأناقة، أو أنها لاتجيد هذا الأمر..
منى سالين رئيسة أكبر حزب معارض حالياً وقد ظل معظم الدورات السابقة هو الحزب الحاكم، امرأة ليست جميلة بمعنى الجمال المعروف بالمقارنة مع النساء السويديات شاهقات الجمال، لكنها أنيقة وضاحكة رغم أنها نشأت وناضلت ضمن هذا الحزب اليساري.
في الشارع في أماكن العمل في المقاهي ومراكز النشاطات الثقافية في كل مكان سترى هذا التنوع في مظهر النساء، والإنسان رجل وامرأة أحرار بدون افتعال أوصراخ.
لايمكنك أن تخمن من وجه المرء أو ثيابه أو مشيته مجال اهتمامه، كما يحصل عادة في بلادنا، فالمرأة الكاتبة مثلاً يمكن أن تراها أم لثلاثة أولاد، ترضع أحدهم ويشدها الثاني من ثوبها، والثالث يفتش في حقيبتها، ويمكن أن تجد كاتبة أخرى جالسة في مقهى تشرب البيرة وتقبل صديقها، ويمكن أن ترى ثالثة تجرّب قلم حمرة في بوتيك وتثرثر مع البائعة.
تداعى إلى ذاكرتي، أحد رواد مقاهي الثقافة في بلادنا حين أطلق وصفه النهائي على النساء اللواتي خرجن من بيوتهن لاقتحام شأن الثقافة والسياسة وبالتالي تواجد بعضهن في هذه المقاهي:
ـ المرأة المتحررة نوعان، إما “المسترجلة”، قال: لا أحبها، أو “الطريّة”، قالها غامزاً.
سألوه:
ـ ألا يوجد نوع ثالث ورابع، قال: بقية الأنواع في البيوت.
أيام الثمانينات حين كانت الأيديولوجيا تطحن رؤوس طلاب وطالبات الجامعة في سوريا، كان مقياس المرأة المتحررة الجادة أي المهتمة بشؤون البلد العامة، غير اهتمامات النساء بالعام عندنا، هي مدى قدرتها أن تكون كالرجال، شكلاً ولغة وسلوكاً.
مثل كثيرين، تأثرتُ بالشيوعية وذلك لأنها تناصر الفقراء والمظلومين. ورغم أني اشتريت كل كتاب أحمر صادفني، وحاولت قراءته، لم أكن أفهم علاقة بين ما كثر شرحه في هذه الكتب، وبين واقعنا، لكن كنت أقرأ بعض الكلمات التي تناسب رغبتي في فعل شيء يبعد الظلم والجهل والفقر…
ورحت أفكر بطريقة أمارس قناعاتي، لم يكن ذلك ممكناً إلا من خلال مجموعة تنادي بكلمات تشبه أمنياتي، سرعان ماهرعت إلى هذه المجموعة، لم يكونوا حزباً أو منظمة، لكن كانوا طلاباً مهتمين، ويبدو عليهم الاختلاف عن التيار الذي كنت أراه تافهاً في ذلك الحين، الناس الذين لايكترثون لشيء غير يومهم الخاص. ورحت تقريباً أتقرّب منهم آملة أن أكون بينهم، صديقة تستمع وتناقش وتفهم وتحلل..
ماذا حدث؟.
لم أنل القبول، وظلوا يتهرّبون بدون إبداء الأسباب. كنت أستغرب وألوم نفسي بأني لست مؤمنة بشكل كاف بالشيوعية!!، أو ربما لم أستطع أن أحفظ ما هو محشو في هذه الكتب الحمراء، مع أنني أقرأ الأدب والشعر، وأقرأ كتبي الجامعية بشكل جيد.
في إحدى المرات صارحني أكثرهم طيبة ومباشرة، قال مازحاً:
ـ أنت حلوة ونظيفة، لماذا توجعين رأسك بهذه الأمور؟ ثم أضاف:
ـ وفوق هذا تحبين الدراسة أنت على أبواب التخرج ومعظمنا مازال في السنوات الأولى.
كان مقياس الشيوعية المناضلة هي الفتاة قليلة الجمال وقليلة الأنوثة وراسبة عدة سنوات، تمشي كالرجال وتوبخ من يخالفها بخشونة، تتحدث بالسياسة بلغة العارف وتحلل بلغة العارف، لكن في الآن نفسه إذا كانت منتمية لحزب معين، فهي متفانية في خدمة الحزب والمسؤول عنها في الحزب.
الطالبات اللواتي لم تكن السياسة أو الشأن العام يعنيهن، كن يرمقن هؤلاء الفتيات الملتزمات بعين حذرة ومتسائلة، تقول إحداهن للأخرى: صار لي أسبوع لم أمشط شعري، صاير شكلي جدي متل المثقفات.
هذا التوحد في مظهر النساء هو مايسم مجتمعنا وبظني مازالت الانتماءات السياسية والطائفية الدينية تحدد لغة المرأة ومظهرها ولاأبالغ إن قلت منهجها وخطابها للآخر.
أكاد أجزم أن معظم النساء في بلادنا اللواتي اهتممن بالسياسة أو الثقافة أو كل ما كانت الأمهات تسميه “بالتعتير”، لم يفعلن ذلك إلا لظروف اجتماعية ونفسية دفعت إلى ذلك، وليست باختيار حر ورغبة ذاتية نابعة من واقع يحتاج إلى تحسين، لكن من واقع يطحن فيجعل المرأة تفكر أن ترد الصاع صاعين، وهي لا تجرؤ أبداً أن تعبر عن أسبابها الداخلية أي أن تبوح وتبكي، فهذا معناه الضعف، والفتاة الملتزمة بالحزب عليها أن تكون قوية، هذه الطبيعة تنطبق على إنسان بلادنا رجلاً أو امرأة، أو كما يقال “سيكولوجيا الإنسان المقهور” فالالتزام بحد ذاته، يعني إلغاء جزء من ذات المرء رجل كان أو امرأة، لكن المرأة بالتأكيد مثقلة بالقهر أكثر.
sarraj15@hotmail.c
* كاتبة سورية