إن إعادة فتح باب الاجتهاد الموعود لن يتحقق من داخل العلوم الدينية بل من خلال النظر إلى الظاهرة الدينية نضرة انثروبولوجية شاملة و الحفر في التراث الإسلامي بالاعتماد على الأدوات المعرفية العقلانية الحديثة التي حققت تطورا مذهلا لا عهد للإنسانية به .
إذ لا بديل اليوم عن المقاربات التاريخية و السوسيولوجية والنفسانية و الفيلولوجية لرصد أبعاد الدين المركبة و المعقدة والبالغة الحساسية بطريقة علمية .ذلك أن هذه الأبعاد الروحية للدين مرتبطة شديد الارتباط بالعالم الخارجي للإنسان و بعالمه الداخلي أيضا .
فالديانات تكونت منذ الإحيائية إلى التوحيد مرورا بالطوطمية و بالوثنية من خلال تفاعلها مع محيطها و سياقها التاريخي من جهة و ارضاءا لحاجات عميقة و لتحقيق رغبات دفينة متأصلة في أعماق الإنسان مثل الرغبة في الخلود أو الرغبة في نيل حب أب قوي وودود من جهة أخرى
فقد يبين لنا فرويد في كتابه”مستقبل وهم” (1927 ) أن شرط الإنسان البالغ الهشاشة الذي يواجه قسوة الطبيعة من جهة و قسوة الإنسان على أخيه الإنسان من جهة أخرى وكذلك قلق الموت يجعله يبحث عن وهم يقدم له العزاء الرمزي و بالنسبة لفرو يد ,الوهم ليس شيئا سلبيا بل هو آلية سيكولوجية ضرورية للتوازن النفسي.
الفتاوى الهاذية التي أصبحت غنية عن التعريف مثل فتوى إرضاع الكبير أو التبرك بفضلات الرسول(ص) يصنعها عجزنا عن تحديث الدين عبر تحديث الدراسات الدينية و تخصيبها بعلوم الحداثة أي التاريخ و السوسيولوجيا و علم النفس . عقم تفسير الدين بالدين أي الاعتماد حصرا على التخصصات الدينية يضعنا في حلقة مفرغة لن نخرج منها أبدا. وهو ما يفسر مع عوامل أخرى القراءات المتخلفة و الاجتهادات المضحكة التي شاعت و ذاعت عبر الفضائيات و مواقع الانترنيت . فهذه الفتاوى لا تعكس جهلا بالإسلام أو قصورا في الإلمام بتراثه , فهي غالبا ما تصدر عن خبراء و أساتذة أجلاء , بل تمثل على العكس الالتزام بمنهجيات بحث تقليدية و بأساليب تعلمية تسلطية سائدة في الجامعات الدينية تكرس الطاعة العمياء للأستاذ و للنص ولا لتترك مجالا للسؤال و المساءلة و لا للشك و التشكيك فهي بالتالي لا تكون لدى الباحث مناعة فكرية تخول له التصدي للاعقلاني .
فالحلول البائسة التي عرضت لتجاوز أزمات الفتاوى الهاذية التي تزاحم فيها المأساة الملهاة تبدو لنا غير واقعة و غير وظيفية.
فهذه الحلول المقترحة تبدو لنا جزء من الأزمة إذ أنها تعكس إشكالية علاقتنا بالتراث الإسلامي هذه العلاقة التي لم تنجح إلى اليوم لا في إنتاج تراكم معرفي كافي و لا في أحدات إصلاح ديني حقيقي.
فقرار المجلس الأعلى لمؤسسة الأزهر الشريف بإيقاف زميلهم الأستاذ عزت عطية رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر عن العمل و ايحالته على التحقيق بتهمة إثارة البلبلة و مصادرة كتاب “فتاوى معبرة” تعتبر أساليب تسلطية و خارجة عن التقاليد الجامعية و الأعراف الاكادمية المعهودة بين أعضاء الأسرة المعرفية .فهي معالجة أمنية لقضية فكرية و علمية بالأساس وهي كيفية التعامل مع التراث الإسلامي.
أما البعض الآخر من علماء الأمة فقد تهتهوا و تلعثموا في الجهر بالحقائق . كما اعتمدوا “حرب الأحاديث” و “حرب الروايات” و التحايل على التراث أي انتقاء حديت ضد آخر و ومواجهة تفسير بتفسير و تعتيم رواية مع تسليط الأضواء على رواية أخرى لتطويع النصوص حسب الحاجة والمقتضيات . فقد تطاولوا على الأئمة الأعلام الذين كانوا يستعملون أقوالهم كحجة قاطعة لإقناع , فهم من اهل الجماعة و السنة ! و ردوا على الأحاديث الثابتة بتهور و بسهولة قصوى رغم أن حديت رضاع الكبير مثلا لم يكتبه كتاب أو اثنان و لم ينقله صحابي أو اثنان انه كما قال الإمام ابن حزم منقول نقل الكافة عن الكافة بل انه حديت شغل الصحابة و أمهات المؤمنين منذ العصور الأولى و شغل التابعين و أتباع التابعين و أئمة الفقهاء من بعدهم و قسمهم شطرين شطر يؤيده و يأخذ بضا هره و شطر يتخذ منه موقفا آخر يتمثل في القول بالخصوصية لسالم ,أو القول بأنه منسوخ ,أو القول بأنه رخصة للحاجة . فهذا الانتقاء و هذه الغربلة حسب الأهواء يناقضان مبادئ النزاهة العلمية المعهودة إذ أننا نعتقد انه لا توجد أية جهة مخولة و مالكة للحقيقة لها الحق في إخفاء جزء من تراثنا اعتمادا على المثل التونسي الشائع “استر ما ستر الله” و تغليب جانب على آخر و في هذا الإطار نذكر بغياب الإجماع في هذا المجال فكمية كتب الأحاديث خير دليل على عدم اتفاق المسلمين حول الأحاديث . فلنذكر جزءاً منها على سبيل المثال: صحيح البخاري، صحيح مسلم، صحيح ابن خزيمة، صحيح ابن حيان، سنن الترمذي، سنن أبي داود، سنن أبن ماجة، سنن النسائي، زوائد ابن ماجة، مسند الأمام أحمد، مسند الإمام الشافعي، موطأ مالك، المعجم الكبير للطبراني، مجمع الزوائد للهيثمي، نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني، كنز العمال للمتقي الهندي، رياض الصالحين للإمام النووي، تحفة الأحوذي للمبارك فوري، الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي. كل هذه الكتب فيها بعض الأحاديث التي لا يقبل بها الآخرون. وللشيعة كتبهم الخاصة التي تجمع أحاديث أهل البيت، وهي كثيرة و كلها تعارض بل تناقض بعضها في اغلب الأحيان .
ا
كما أن الدعوة إلى تطهير التراث و السيرة و التفسير و تنقيتهم من الشوائب وبتر هذا الإرث الثقافي من الأحاديث التي يتخذها المتطرفون تعلة لضرب الإسلام و تجريحه هو نسف لواجب الذاكرة . فليس لأي كان الحق في إجراء تعديل أو تحريف للتراث و التلاعب بذاكرتنا الجماعية التي تعتبر جزء من التراث البشري من اجل إعادة صياغة الوعي الإسلامي و ترصيعه برؤيا مثالية تبسيطية تزيف تاريخنا الثري و المعقد . فالبخاري مثلا مرجع محترم وموثوق به من قبل جمهرة واسعة من المسلمين وقد انتقى الأحاديث الشريفة من بين مئات الألوف من الأحاديث المشكوك بصحتها واختار منها حوالي سبعة آلاف حديث، وسمي كتابه بصحيح البخاري، وهو أحد الصحاح الستة المعتمدة عند معظم المسلمين ومن جميع المذاهب، السنية والشيعية. وكذلك صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل . فهل يصح لجهة ما أن تسطوا على جهود أئمة فجر الإسلام وتتلاعبوا بكتبهم وصحاحهم و تحرفها لأن هناك من يستغل هذه الأحاديث لأغراض لا تلاؤم اليوم مزاجنا !
أن المطلوب اليوم هو ليس التعتيم و إخفاء المعطيات التاريخية التي لا تتناسب مضامينها مع روح العصر و أخلاق أبنائه أو إلغاءها بل إبداع علاقات تأويلية جديدة مع النصوص و ذلك بوضعها في سياقها التاريخي و النفسي مع تغليب الرؤى النقدية العلمية على الرؤى الأسطورية التبجيلية أي إعمال العقل دون فرض أية رقابة على العقل لتجاوز البداهة الخادعة و المعارف السطحية و اليقين المباشر و الفوري .
و قد اهتم علم النفس مثلا بتأثير العوامل النفسية و الاجتماعية في عمليات الإدراك و الذاكرة. إذ بينت تجارب لفين (1948) أن اللاوعي يتدخل في الإدراك العالم الحسي و في تمرير التجارب المعاشة و أن ما نتذكره هو إعادة بناء جديدة حسب ما ترسخ من تمثلات و تصورات مسبقة قابعة في داخلنا ,كما أن انتسابنا لمجموعة ثقافية ما يحدد إدراكنا و تصورنا للآخرين.
و قد وقع تصنيف مجموعات من الطلبة حسب ميولا تهم و اتجاهاتهم الفكرية و الدينية و الجمالية و عرضوا عليهم على شاشة مجموعة من الكلمات بإيقاع سريع بحيث تبدو بعض الكلمات غامضة و صعبة الإدراك في غلب الأحيان.
و بينت التجربة أن الكلمات التي تتضح أكثر من غيرها و يسهل إدراكها هي التي تقابل و تتناغم مع ما يعتقده الفرد و ما يميل إليه .كما بينت تجربة لفين و مورفي حول التعلم و التذكر أن الذاكرة انتقائية تصطفي ما يلاءم أهواء الفرد و ميولا ته العميقة.
فقد وقع تقديم نصوص متعارضة التوجه لمجموعة من الأشخاص بعضها مناصر للشيوعية و البعض الآخر مناصر و مدافع عنها. و قد تبين بعد أربعة أسابيع أن المجموعة التي كانت تميل إلى النظرية الشيوعية تعلمت و تذكرت محتويات و براهين النصوص المدافعة عن المنظومة الشيوعية و نسيت النصوص الأخرى. بينما تذكر الأفراد المناوئين لهذا الفكر محتويات النصوص التي تفند هذه المنظومة و تدعم قناعاتهم الأصلية.
و في وضعيات مشابهة ,بينت تجارب أخرى أن مجموعة النساء تتذكر الأحكام و الأقوال المناصرة لهن بينما تذكرت مجموعة الرجال ,بكل عفوية , أقوال شوبنهاور و اسكار ويلد المعادية للمرأة.
وقد دعمت هذه التجارب مقولات مدرسة باولو ارتو التي تؤكد أننا نبني العالم في حين نضن أننا ندركه بكل حياد و موضوعية .فالرغبات و الاحباطات و كل محتويات اللاوعي تتدخل في تكوين أشكال الإدراك و التعابير البشرية و إعادة بناء الماضي . و يقول هول قي هذا الصدد في كتابه “ما بعد الثقافة ” (1979) “أن ما يختاره الإنسان لإدراكه عن وعي أو عن لاوعي هو ما يعطي دلالة و بنية لعالمه”
و كما نعلم فان النبي(ص) قد منع الصحابة من كتابة أي شيء عنه إلا القرآن الكريم ، و لهذا السبب ظلت الأحاديث تتناقل شفهياً لما يزيد عن المائة وخمسين عاماً مما سهّل الابتعاد عن الصورة التي كونتها المجموعة عن النموذج الأصلي الذي أخذ بالانحدار المستمر فمرور الوقت هو تراجع وابتعاد عن الصيغة لأصلية الذي تصبح اكتر فاكتر محاطة بالمبالغة و الأسطورة و مغلفة
و قد تفطن القاضي أبو الحسن عبد الجبار(المغني في أبواب التوحيد و العدل ,فصل في بيان حقيقة الخبر و حده) إلى تأثير هذه العوامل النفسية فأكد أن الخبر يتواتر و يتغير في مضمونه و صيغته استجابة لما تستروحه الأنفس ” قد ثبت و صح أن ترك إظهار الخبر و الكف عنه اشق على النفس من إظهاره . و كان النفس تستروح إلى إظهار ذلك .فلذلك تقوى الدواعي في إظهاره كما تقوى في سائر ما يستروح الناس إليه و تجد عنده راحة و تخلصا من ضيق صدر و غم و الم . فهذا هو الأصل في الأخبار”
فلا شك إذن أن ما يعتمل به من روايات متعددة يكمن و راءها العديد من الاستيهامات الجماعية و التعويضات الرمزية ضمن مجتمع بدائي مهووس بالجنس ولا شك أن مجال الجنسانية الذي يعتبره علم النفس التحليلي مفتاح الدينامكية النفسية قد ألقى بضلاله على هذا التراث .
إن رفض المرأة و سيادة الخطاب التحريم القائم على التأثيم و التذنيب يقوم على هوس لا حدود له.فهو يسقط عل المرأة نوازع و مخاطر جمة فيخشى على فقدان توازنه و عدم التحكم في غرائزه . وهو ما يقود في بعض الأحيان إلى تطهر هوسي قائم على التوسع و التمادي و الانتشار. في بعض الأحيان ينقلب هذا الهوس المرضي إلى الضد وهو ما يفسر فتوى إرضاع الكبير التي تبيح ما تريد تحريمه !
فهذه الفتاوى تشكل هذيانات منظمة و منسجمة داخليا بيد أنها تنتج تأويلات خاطئة فهي تعكس عالما بسيطا و بدائيا خاليا من الرغبة التي تؤدي وجوبا إلى الفاحشة.
بينما يبين لنا علم النفس أن المسالة أكثر تعقيدا و تشابكا. إذ يميز علم النفس بين الحاجة, والطلب ,و الرغبة. فالحاجة هي غالبا فيزيولوجية تستهدف شيئا معينا و تريد أن تشفي غليلها منه .أما الطلب هو طلب حضور أو غياب و هو في آخر المطاف نداء مستتر للحب .أما الرغبة فهي تتأصل في مخيال الفرد . كما أنها طموح إلى حمل الآخر على التعرف على رغبته الخاصة و الاعتراف بها كما أنها و سعي في أن يكون موضوع رغبة هذا الآخر فهي إذن المحرك المركزي في كل علاقة بشرية .
فمطاردة الرغبة و إلغاءها بصورة قسرية يؤدي إلى نتائج وخيمة. فانتشار آلية الإنكار و تعميمها يتطلب من جهة بذل طاقة مستمرة و جهد دائم من زاوية الاقتصاد النفسي ترهق الفرد الذي يخو حربا أهلية ضد نفسه و يحرمه من توظيف هذه الطاقة في مجالات إبداعية كما يمكن أن يؤدي انتشار الإنكار إلى جمود الشعور أو ما نسميه “الشلل الانفعالي المعمم “الذي يعيق مهام التعلم و التكيف و التواصل لأنه يصادر الشوق و ألتوق إلى معرفة المجهول .
فالمهم من وجهة علم النفس ليس التخلص من الرغبة بل استبطان المانع و تشربه مع فرض الحدود و منح المكافئات البديلة ذلك أن الرغبات لا يمكن إرضاءها أبدا فهي محكومة دائما بالخيبة .
بيد أن الإحباطات الملازمة لها ضرورية و مهيكلة لشخصية الفرد فهي التي تمكن الفرد من الوعي بأن الموضوع الملبي للحاجات منفصل عن الذات و ينتمي إلى العالم الخارجي وهو ما يسهل على الطفل الصغير مثلا أن ينفلت من جبروت الأم و يساهم بالتالي في نسق التفردن أي ذلك المسار الذي يقود تدريجيا إلى الاستقلالية والنضج المتزايد.
فكل تحقيق مباشر للرغبة , إرضاع الكبير مثلا ,يمثل شكل من أشكال انتهاك المحارم و يؤدي إلى حدوث نكوص بسبب تشابه الوضعية المعيشة مع استيهام تحقيق الرغبة الاودبية مما يجعل عملية التفوق على الذات و الوصول إلى نظام رمزي غير مؤكد ة. و نذكر في هذا السياق أن النظام الرمزي, أي تشرب الموانع و النواهي ,هو الذي يرتقي بالضوابط من مشهد الاستعراضات الخارجية و الشكلية , التي تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر, إلى مستوى الضمير الإنساني أي ذلك الاستبطان الداخلي و الانضباط الشخصي اللذان يكونان هيئة قيم أخلاقية عالية تتجسد في السلوك العملي للفرد. و هذه القيم الراقية هي وليدة الإحساس بالمسؤولية و أيضا صنيعة الفردية و الاستقلالية الذاتية و ليست ناتجة عن خوف من العقاب أو عن خجل نشعر به تجاه الآخرين . و من الواضح أن هذا هو هدف الديانات التي تسعى إلى تهذيب الغرائز و الارتقاء بالإنسان من الهمجية إلى الحضارة و من الطبيعة إلى الثقافة.
أستاذة علم النفس بالمعهد الأعلى لأصول الدين بجامعة الزيتونة تونس.
ahikbal@yahoo.fr