يورد بن عبد ربه في عقده الفريد (ج 2 ص 84) نص رسالة نبي الإسلام إلى وائل بن حجر الحضرمي كبير أقيال حضرموت، خاطبهم فيها بلغتهم الشديدة الخصوصية، والتي لم تتأثر كثيراً بلغة قريش لبعدها المكاني ولتراثها القديم الخاص، تقول الرسالة النبوية:
” من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة (أي أصحاب الممالك المستقرة)، والأرواع (أي حسان الوجوه) المشابيب (أي السادة) من أهل حضرموت، بإقامة الصلاة وإيتاه الزكاة، في التيعة (التيعة تشكل عدد 40 من الشياه)، لا مقورة الألياط ولا ضناك (المقورة هي مسترضية الجلد، والألياط هي عيدان العظم، أي لا يكون جلدها مسترخياً لاصقاً بعظمها / والمعنى كثير اللحم). وانطوا (أعطوا) التيجة (أي الوسط) والتيمة (الداجنة)، لاخلاط ولا وراط ولا شغار، ومن أجبي فقد أربي (أي أن بيع المحصول قبل نضوجه ربا)، وكل مسكر حرام”.
كانت هذه رسالة النبي لأهل حضرموت يدعوهم فيها إلى اعتناق دعوته والاعتراف بسيادته بإرسال ضريبة المال إلى العاصمة يثرب. وشرحت أهم اهتمامات الدين الجديد فبدأت بالأهم ثم المهم، بدأت بالصلاة، ثم توقفت مع الزكاة طويلاً شارحة مفصلة المطلوب من ضريبة المال، ثم بيان حرمة الربا والخمر في جملتين لا غير.
الملحوظة الأهم أن الرسالة لم تطلب من أقيال حضرموت واليمن الخضوع السياسي، لأن النبي كان نبياً لا مقيماً لدول وحكومات. الرسالة طلبت الخضوع الديني دون أن تتدخل في الشكل السياسي والإداري القائم في بلادهم. بل، مع اعتراف لتلك البلاد بالاستقلال السياسي واستمرار هذا الاستقرار باعتراف الرسالة لأقيالها العباهلة الأرواع المشايب، وهو تكرار وترداد لمعاني السيادة والبروز والقيادة مصحوبة باحترام واضح، ولم يأخذ عليهم شيئاً في طريقة عيشهم ولا نظام حكمهم بل اعترف لهم به وكرمه بالمديح.
كتاب آخر ضمن رسائله إلى ملوك وحكام عالم زمانه يدعوهم فيها إلى الإسلام، كان كتاب النبي إلى قيصر الروم، وهو كما أورد نصه الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه (محمد) ص 308، يقول نصاً:
“بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، إسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (رعيته). يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا: إشهدوا بأنا مسلمون”.
والملاحظات هنا تقفو بعضها بعضا. فالنبي خاطب هرقل معظماً له بوصفه (عظيم الروم)، ولم يقل عن نفسه أنه عظيم العرب، لأن النبي كان نبياً لا ملكاً، هرقل رجل دولة وسياسة تجوز له مثل تلك الألقاب التفخيمية. ولأن النبي ما كان منشغلاً بالأمر كرجل سياسة مثل هرقل، إنما كان منشغلاً بتبليغ ما أمره الله بتبليغه ليس أكثر ولا أقل ودونما تفريط أو إفراط، فإن النبي لم يطلب من قيصر التبعية السياسية ولا تغيير أنظمة الحكم الرومانية السياسية أو الإقتصادية أو الإدارية إلى نظام حكم إسلامي، لعدم وجود هذا النظام. فلم تكن الدولة وأنظمة الحكم ضمن اهتمامات الإسلام ونبيه، كل ما طلبه هو ما كلفه ربه به، الدعوة إلى الإسلام فقط!
لم يقل لهرقل (القرآن دستورنا) لأن الروم هم أعرف الناس بالدساتير، وكان لهم دستورهم وقانونهم الديموقراطي قبل ظهور الإسلام بألف عام. ولأنهم في هذه الحال كانوا سيطلبون الإطلاع على هذا الدستور الجديد ليقارنوه بدستورهم ويفيدوا منه إن تيسر ذلك، كما سبق وأفادوا من اليونان بإرسال البعثات لدراسة التجربة اليونانية السياسية والقانونية لإتمام كتابة دستورهم. هذا بينما القرآن نفسه لم يكن قد اكتمل بعد عند إرسال تلك الرسائل، وكان مفرقاً في صدور الصحابة وعلى العظم واللخاف والعسيب والرق والأحجار.
لو كان الدين مرتبطاً بالدولة وسياستها، لطلبت الرسالة من عظيم الروم تغيير دينه وتغيير نظامه السياسي ودولته. وهو ما لم تطلبه الرسالة النبوية ولا حتى نوهت عنه. الرسالة لم تقل لهم اكسروا الصليب واقتلوا الخنزير، طالبته بالإسلام فقط، لأن النبي كان يعلم أن الدين شأن والدولة وسياساتها شأن آخر، ولم يعلن الإسلام للناس يوماً أنه دين ودولة، لأنها لم تكن تكليفاً إسلامياً من السماء، ولأنها لو كانت كذلك ما قصر نبينا في دعوته ولأعلنها واضحة صريحة صدعاً لأمر ربه.
لو كان شأن الدولة هو المطلوب إسلامياً، ما رفض النبي صيغة الملك التي عرضتها عليه قريش، بل أن الواضح في القرآن هو رفضه لصيغة الملك كشكل من أشكال السيادة على الدولة، فقال: “إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة”. فالصيغة الملكية تطلب خضوع المواطنين الكامل، وهو ما ترفضه وتأباه أنفة البدوي الحر في صحرائه، لذلك لم ينضم بدو الجزيرة تحت حكم مركزي إلا زمن النبي وحده في شكل تجمع قبلي يمثل مرحلة انتقالية من القبيلة إلى الدولة، ولم يستمر هذا الطور طويلاً فتفكك التجمع القبلي والنبي على فراش الموت في شكل نزعات استقلالية مرتدة. وطال هذا الطور القبلي حتى أقام ابن سعود بحلفه مع ابن عبد الوهاب شبه دولة، ولا زالت القبيلة فيها سيدة الموقف، يحفظون إلى اليوم أنسابهم وولاءهم القبلي دون بقية أمم العالم. فلو سألت سعودياً عن قبليته لأجابك بسلسلة نسل ونسب طويلة، ولو سألت ذات السؤال لأمريكي أو فرنسي لما فهم قصدك، ولو فهم لاعتبرك مجنوناً.
و في القرآن الكريم نجده يحدثنا في سورة الكهف عن ذي القرنين/الإسكندر المقدوني بن فيليب. ولا شك أن الله كان يعلم أن الإسكندر هو تربية الفيلسوف أرسطو تلميذ الفيلسوف أفلاطون، ومع ذلك لم يندد بالفلسفة ولا بأرسطو ولا بالسياسة الأرسطية ولا بالجمهورية الأفلاطونية، لأن شأن السياسة كان خارج اهتمامات الدعوة.
كان الجدير بالتنويه هنا هو لو كانت الدولة شأناً دينياً، لكان واجباً أن يعقد القرآن المقارنات بين دولته والدول العظمى في زمنه كما في مصر وروما وأثينا وفارس وغيرها، كما قارن بين دينه وبقية الأديان الكبرى في زمنه ليبين فضله وتميزه عن بقية الأديان.
وفي سورة سبأ، يحكي القرآن كيف أرسل النبي سليمان سفيره (الهدهد) إلى مملكة سبأ التي كانت تتعبد للشمس من دون الله، وحمّله للملكة رسالة تدعوها للإيمان، وقد عرضت الرسالة على ملئها أي شيوخ قومها ووزرائها وأهل الخبرة والدراية، في دراسة ديموقراطية للموقف، ومع ذلك لم يعب القرآن على سبأ نظامها الحاكم ولا ديموقراطيتها البدائية ولا طالبها بتفكيك ملئها، كل ما طالبها به هو الإسلام.
كان محمد داعياً لدينه لا لدولة الإسلام، ووفقاً لرغبات السماء، التي لم يكن من بينها التسلط السياسي وضم البلدان تحت سلطان العرب.
وإذا كانت الدولة هدفاً لدين الإسلام، فإن ذلك يدفع إلى التساؤل: لقد كان النبي موجوداً ومدعوماً من السماء رباً وملائكة ومع ذلك لم يتمكن من إقامة هذه الدولة… فلماذا؟ لسبب شديد البساطة هو أن الدولة لم تكن ضمن جدول اهتمامات الإسلام، ولو كانت كذلك لتحققت على يد نبيه كأعظم دولة خالدة على الأرض، ولم تنتظر الإخوان المسلمين ليقيموها لنا، ولا انتظرت دستورنا ليقرر أننا دولة إسلامية، زيادة في دين الله، ومزايدة عليه، وعلى ربه، وعلى نبيه.
elqemany@yahoo.com
* مصر
الدولة الوهم
الحقيقة المقال رائع وواضح القصد و المعنى
و هو انه اذا كان هنالك من يريد الالقاء بطوق النجاة لياخذ بيد مصر و المصريين فمن الافضل ان ندعو نحو فصل السياسة والنظام كليا عن الدين
عموما حتى لا تغرق البلد الى الابد و بلا رجعه
اصلا كل من يتفقه في الدين و يتعمق و يعرف اكثر ثم بعدها يصر على ان يدعو نحو دولة اسلاميه يكون في نظرى نصابا يحاول ان يستفيد من وراء غمس الناس من حوله في اسطورة الدين اكثر و اكثر
اهدي احترامي وتقديري للاستاذ الدكتور
المصري جدا الوطني الدكتور سيد القمني
الدولة الوهم
هذا مقال مقتضب، وإن كنت اشتم منه تغييرا في فكر الدكتور القمني، فمثلا هل يتفق هذا الفكر مع كتاب الحزب الهاشمي؟؟ سؤال يحتاج إلى إجابة. كما أن الغزوات وتجييش الجيوش وآيات القتال كانت دليل الدولة ولم تكن من عناصر الدين. وأشياء كثيرة يعرفها الدكتور مثل قيام أهل الكتاب بإعطاء الجزية عن يد( وهم صاعرون) هل هذا دين أم دولة؟
الدولة الوهمشكرا على المقال. صراحة، أعجبت به كثيرا. لكن،،، حضرتكم أهملتم ذكر ما حصل بعد كل هذا. إرساله عليه الصلاة والسلام القضاة من الصحابة إلى ربوع الجزيرة. فإذا قام القضاء المبني على الإسلام. فعلى ماذا يدل هذا؟ يدل على أن الإسلام قد تدخل في كامل السلطات المتعارف عليها الآن. فرسائله تطلب إعلان الإسلام دينا مما يعلن أيدلوجية الإسلام بناء للدولة ، وتعطي خطوطا عريضة على كيفية الإدارة المالية والاقتصادية. أما إرسال القضاة كسعد وعلي رضي الله عنهما يعطي هيمنة قضائية. إلى جانب وجوده عليه الصلاة والسلام كسلطة تشريعية لا خلاف فيها. فإذا كانت السلطة التشريعية والقضائية إسلامية خالصة. إلى جانب… قراءة المزيد ..
الدولة الوهم
“إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء ” – قالها عبد المطلب بن هاشم ، وهو يشير إلى أبنائه وحفدته. لقد إستهل الدكتور القمني كتابه “الحزب الهاشمي” بهذا الإقتباس
أعتقد انه بعد هذه المقالة ان الدكتور سيد القمني ـ ان كان هو كاتب المقال حقا ـ قد تأهل بجدارة للعودة للكتابة في مجلة روزاليوسف. اين هذا المقال مما قدمه الكاتب من فكر في روائعه كـ “حروب دولة الرسول” و “الحزب الهاشمي” و …
لا أعلم كيف يستقيم هذا المقال مع فكر الكاتب. أقول للدكتور القمني انت مديون لقرائك بتفسير لهذه الرؤية الجديدة.
الدولة الوهم
حفظك الله لنا كاتبنا العظبم