كانت بلاد اليونان، قي القرنين الخامس والرابع – قبل الميلاد- تتكون من مدن تقطعة أهمها مدينتا أثينا واسبرطة . وكان معظم اليونان يعتقدون أن عناصر كثيرة من حضارتهم قد جاءت من مصر . وتعزو قصصهم نشأة كثير من المدن اليونانية، بأسماء مصرية، تيمناً بها. وزار مصر كثير من عظماء اليونان المشهورين أمثال طاليس وفيثاغورس وصولون وأفلاطون وديمقريطس فأعجبوا أشد الاعجاب بقدم حضارتها وعظمتها .
ولأن بلاد اليونان لم تكن موحدة بل مدنا متفرقة، تقوم في كل منها دولة المدينة (Polis state)، ولأن الكهنة المصريين كانوا يمتلكون نواصي العلوم والفنون جميعاً، وكانوا يضنون بها على الغرباء، فإن اليونانيين عملوا على استغلال مااستوعبوه من أفكار مصر لتكوين حضارة خاصة بهم، كانت تقوم على الفلسفة أساسا .
والفلسفة لفظ مركب من مقطعين (Philo) بمعنى محبة، (Sophy) بمعنى الحكمة) بما يعني أنها محبة الحكمة. وقد دعاهم هذا، إلى جانب عدم وجود نظام للكهانة يفرض ديانة منظمة، إلى فهم الفلسفة على انها دراسة المبادئ الاولى للوجود والفكر دراسة موضوعية تنشد الحق وتهتدي بمنطق العقل. ومن هذا النظر، لا تبدأ الفلسفة (محبة الحكمة) من مسلّمات (Postulates) مهما كان مصدرها، لكنها تحلل بداية كل فكر أو اعتقاد، وأصل كل لفظ أو كلمة .
ظهر هذا الاتجاه في جزيرة ايونيا (التى صحّفها العرب إلى اليونان) بمدرسة الطبيعيين الاولين التى ابتدأها طاليس، برد كل عناصر الكون إلى مادة واحدة قال :إنها الماء، بينما قال ديمقريطس إنها الذرة.
وتبع ذلك إنشاء فيثاغورس لجماعة الاخوان الفيثاغورسيين، وهى جماعة ذات تعاليم سرية تدرس الحكمة من خلال الموسيقى والرياضيات والفلك والتأمل العميق ، وأعقب هذه الجماعة ظهور السفسطائيين برئاسة بروتاجوراس، وهي جماعة قوامها التلاعب اللفظي،والتداعب بالجمل والكلمات، لإثبات خطأ أي قول وتلبيس دلالة أي معنى . وقد تولّى الرد عليها وتقويضها الفليسوف الشهير (ومبتدع لفظي الفلسفة والفيلسوف) سقراط (469-399 ق.م) الذي دعا إلى العدل والحكمة والاخلاق الحسنة، وكان من تلاميذه أفلاطون (حوالى 427-347 ق.م). وقد نشر محاورات أختلط فيها فكر سقراط بفكره ، كان بطلها سقراط ، وهو يعمل من خلال المحاورات مع الآخرين على نشر أفكاره وآرائه في الحق والعدل وحسن الاخلاق . وقد اتهمت السلطة الباغية في أثينا ، شأن كل سلطة طاغية، سقراط بأنه يفسد الشباب (إذ لايأمرهم بالطاعة العمياء وإنما يدعوهم إلى التفكير والاختيار)، ولما حُكم على سقراط بالاعدام رفض أن يهرب ونُفذ فيه الحكم، ففزع تلميذه وصفيّه أفلاطون وفر إلى سراكوزة (أو سراقيوسة) وعمل مستشاراً لحاكمها الطاغية، فبرّر له عمله، وحرر كتابيه “القوانين(The Laws)، والجمهورية) عندما عاد إلى أثينا، وأنشأ له أكاديمية كتب على بابها شعارا اتخذه من مصر، نصه أن (المعرفة أول سبيل التطهير) .
وقد أدى هذا المناخ الثقافى – المعبّق بعناصر التنوير والخاوي من نظام الكهانة – إلى ظهور الديمقراطية ، وإن كانت بقصور . والديمقراطية لفظ يوناني ( Democracy) يتكون من مقطعين(Demo) بمعنى الشعب ، و(Cracy) بمعنى القوة أو السلطة . ومن ثمت فهى تفيد : حكم الشعب . وكان البالغون يجتمعون في سوق المدينة بأثينا ليتخذوا القرارات في كل أمر يُعرض لهم بالجدال الحسن والنقاش الحر والاقتراع الواضح ، غير المزور .
وعلى ما سلف ، فقد فرّ أفلاطون من أثينا بعد إعدام استاذه سقراط، ولجأ إلى سراكوزة (في جزيرة صقلية) حيث عمل مستشاراً للطاغية ديونيوس (ح430- 367 ق.م) ونتيجة لتبريره أعمال الطاغية وتسويغه الاسلوب الدكتاتوري ، فقد جنح (أفلاطون) عن تعاليم سقراط الراقية، وابتدع ماسماه المدينة الفاضلة !! في هذه المدينة التى رسمها أفلاطون – كما سلف – في كتابيه القوانين The Laws)، والجمهورية(The Republic) صارت العدالة عنده هي ما يكون في مصلحة الدولة (دولة المدينة(Polis State) حيث يُلزم كل فرد المكان الذي يوضع فيه ، ويقبل جميع الناس الشعارات التي تصدر عن الحاكم، والتي لا تقبل التعديل لأنها رمز العدالة الأبدية.
يشبّه أفلاطون حكام الدولة بالرعاة. وهو يقصد باللفظ المعنى الحاد الذي يعني الحراسة التي يقوم بها الراعي لقطعانه من المواشي، وفي سبيل تعزيز هذا المعنى يؤكد أفلاطون ما يفيد أن فن حكم الناس لا يختلف بالضرورة عن فن حكم الماشية وتربيتها.
ويضيف أن للحكام أن يقولوا “نحن الدولة” ، وهو ما ردده فيما بعد لويس الرابع عشر ملك فرنسا في مقولته المشهورة الدولة أنا(L`Etat c`est moi) ، ولهذا فإن الحكام هم هيئة، لايمكن ان يسوسها أحد غيرها، وعن طريق حكمتها يُعرف ما هو خير لغيرها، أي خير السواد الأعظم من الناس.
في جمهورية أفلاطون، أو مدينته الفاضلة، يسيطر الحكام على التربية والآداب والفنون، حيث تخضع كلها للرقابة والتكيّف مع مصالح الرعاة (الحكام)، بل إن الشعر والفن والموسيقى يتحتم أن تكون مسايرة لمقتضيات السياسة، وهي سيطرة تؤدي إلى أن تُستأصل من الجمهورية جميع الآداب العريقة. فالمفهوم الرئيس في السياسة لدى أفلاطون هو سيادة الدولة سيادة مطلقة، لأن الدولة (يقصد الطاغية) وحدها يمكن أن تكون كاملة وأن تكفي نفسها، ولا يكون الافراد الا ناقصين، ويقول في ذلك (الدولة وحدها يمكن أن تبقى ثابتة غير متغيرة، أما الافراد فمصيرهم إلى الزوال في تعاقب سريع، ومن ثم وجب أن يخضع الفرد للدولة، وإن يُضحي عند الضرورة في سبيلها . ومن المتعين أن يكون للدولة رئيس، وهو قائد مطلق، وبغير ذلك لا يمكن للدولة البقاء. ومهما يكن من أمر، فإنه متى قام القائد وجبت طاعته في ثقة كاملة، حتي في أتفه الأمور، وفي ذلك يقول نصّاً في كتاب القوانين (إنه من اللازم ألا يتعود عقل أن يُقدم على فعل، ما زحاً أو جاداً، بباعث من نفسه، بل يتعين عليه … أن يتطلع إلى قائده وأن يتبعه حتى في أتفه الأمور … من ذلك أن يستجيب لأمره حين يقف أو يتحرك أو يغتسل أو يتناول وجبات طعامه … متى تلق أمرا بذلك … وعلى العموم ألاّ يُعلم نفسه أو يعوّدها أن تعرف أو تفهم كيف تأتي فعلا وهي مستقلة عن غيرها). في هذه الدولة يقدم أفلاطون ديانة تختلف اختلافاً بيّناً عن الديانة الشائعة في وقته، فهو يرى أن يُكره الرعايا جميعاً على الاعتقاد في إلاهه، وإلا كان عقابهم الاعدام .. كما يصر على أن الحرية في المناقشة محرمة في النظام الذي يفرضه (هذا الدين) .. وهو لا يُعني بما إذا كانت الديانة حقيقية أم غير حقيقية، صحيحة أو غير صحيحة، ولكنه يهتم أساسا بما لهذه الديانة من أثر في كيان الدولة (دولة المدينة) وحفظ النظام فيها :
وعندما بدأ عصر النهضة أو الاستنارة (Enlightment) في أوروبا فقد التفت القائمون عليه إلى بلاد اليونان، ولاحظوا أنها أبدعت فكرا راقياً لخواء بلادها من نظام الكهانة الصارم، ومن إعمال العقل في كل شئ، بدءا مما يسمى بديهيات .. هذا بالاضافة الى ترجمات عبرية عن بعض أعمال إسلامية ومنها أعمال ابن رشد الذي كان يُولي العقل اهتماماً شديداً . ومن هذه القواعد سارت النهضة فأحدثت استنارة كاملة لدى الشعوب، بدأت بها الديمقراطية، أي حكم الشعب ومساءلة الحكام ذلك أنه في التقدير السليم، فإن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم وتستقر إلا إذا سبقتها أعمال للتنوير، فما دامت الديمقراطية هي حكم الشعوب، فكيف يمكن للجاهل أن يحكم؟ وكيف يستطيع أن يُصدر قرارات أو أن ينشئ أحكاماً من لا يعرف شيئاً عن هذه أو تلك، ومن يدفعه الجهل مع كل شأن عاطفي .
بعد الثورة الفرنسية (1789م) بدأت الديمقراطية تستقر وتنتشر في البلاد الاوروبية، وفي الولايات المتحدة وكندا (مع عوار ظاهر فيها)، ولكن الظروف الخاصة بروسيا وبألمانيا وإيطاليا، أدت إلى ظهور الأيديولوجيا الطبقية في روسيا وإلى سيطرة الأيديولوجيا القومية في ألمانيا (النازية) وفي ايطاليا (الفاشية) .
والفاشية هي لغة، بالانجليزية (Fascism) وبالفرنسية (Fas cio) وبالايطالية (Fascismo) وباللاتينية (facis) هي تعني بالانجليزية :
(1) The totalitarian principles and organization of the extreme
right – wing nationalist movement in Italy (1922 – 43 ) .
(2) Any similar nationalist authoritarian views .
وهو ما ترجمته :
(1) المبادئ الشمولية أو التعاليم اليمينية المتطرفة في إيطاليا خلال فترة حكم موسوليني .
(2) أي تنظيمات أو أفكار مشابهة (شمولية)، أي يمينية متعصبة (متشددة).
ولأن النازي كان إسما لحزب هتلر في ألمانيا، وقد أقيم على نمط تنظيم موسوليني وإن تفوق عليه، فقد غلب إطلاق أسم الفاشية على الفكر أو الشخص الدكتاتوري .
وقد تأثرت أغلب الحركات السياسية التي ابتدأت في مصر خلال الثلاثينيات، أو كانت موجودة من قبل، بالفكر والنظام الفاشي، خاصة وأنها كانت تكون المحور (ألمانيا وايطاليا واليابان) الذي يعادي البلاد المستعمرة لهم. وقد كانت تتصور أن هذا النظام الفاشي، دون أي تنوير، كاف لنهضة الوطن الذي كان عدوه الاستعمار البريطاني أو الفرنسي (قبل أن تظهر الولايات المتحدة في الصورة) . فالوفد – وهو الحزب الليبرالي أساسا – شكل منظمة القمصان الزرق تشبها بالقمصان السود في ايطاليا، والاخوان المسلمون شكلوا منظمة الكشافة والجهاز السري، وهلم جرا .
وإذا كان حزب الوفد قد استطاع بحكم نشأته الليبرالية أن يستمر بعد إلغاء منظمة القمصان الزرق (1937)، فإن جماعة الاخوان المسملين لم يكن لديها فكر ليبرالي (حر) وإنما شعارات واتجاهات متشددة، ومن ثم لم تستطع أن تتخلص منها أبدا، وحتى اليوم. ففي تنظيماتها وفي تصرفاتها تظهر الفاشية (وهو بديل للفظ الديكتاتورية) واضحة ظاهرة، كما يبدو العنف والتلوّن والميل إلى استئصال الغير .
وقد استقبلت (أي جعلتها قِبلة لها) الاتجاهات الفاشية في كل مكان في العالم ما كتبه أفلاطون عن الراعي والرعية في مدينته التي سماها بالفاضلة !! فمن يعاود قراءة هذه الكتابات التي ذكرت الدراسة بعضها نصاً، يجد أنها الدستور القائم والمستمر لجماعات الاسلام السياسي وغيرها من الجماعات المماثلة .
وخلاصة ذلك، أن الديمقراطية والديكتاتورية نظم نشأت في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد، واستحيتها أوروبا في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وأن مصر والعالم العربي كله – بعد الحكومات الفاشية – لا تستطيع أن تتخذ سبيلاً إلى الديمقراطية ما دامت الأمية الابجدية والثقافية والسياسية ضاربة فيها، ولكي تقام فيها ديمقراطيات حقيقية، غير صورية، فلابد أن يبدأ الطريق بالتنوير، فلا ديمقراطية بغير استنارة. مع ملاحظة أن للتنوير عنصرين مهمين أولهما – ما ذكرته منذ عام (1980) وما لا افتأ أردده من أن “لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين” وهو ما يعني فصل السياسة عن الدين وليس فصل الدولة عن الدين، لكى يلتزم بهذا الفصل كل من السلطة والمعارضة. أما ثانيهما- فهو ضرورة إعمال العقل في كل شيء، وهو الأساس الذي قام عليه الاسلام ويدعيه أنصار الاسلام السياسى، قولاً بغير عمل، وتشدّقا دون تطبيق .
ولا يعد هذا الامر عالمانية، لأن العالمانية هي نسبة إلى العالم وليست نسبة للعلم، ومجالها الفكر المسيحي الذي كان لديه عالم الكهنوت، وعالم آخر من المدنيين الذين يعملون في الاديرة والكنائس ، والذين سُموا بالعالمانيين لتمييزهم من عالم الكهانة . وقد ترجم لفظ (Secularism) إلى العَلمانية، ولكن لعدم وجود تشكيل في الصحف فقد كُتب اللفظ بغير تشكيل يضُع الفتحة على العين، ومن ثم نطقها الناس عِلمانية (بكسر العين)، وتصوروا من ثم انها اتجاه يعادي الدين، مع أن صحة النطق عالمانية وهي تشير إلى عالم آخر ولا تفيد أي اتصال بالعلم . ومن هذا يظهر أن الجهل بلفظ واحد يمكن أن يؤدي إلى منظومة كاملة من فكر خاطئ، فما البال إذا حدث الخطأ في تعبيرات كثيرة وتركيبات كاملة، إنه يكوّن مجموعة من التخليط والتخبيط والاضطراب والجنون !.