مسألة الجبر والاختيار، والتي يقال عنها أحياناً “القضاء والقدر” هي أم المسأئل في التاريخ البشري. وهي في الحقيقة محاولة للتوفيق بين أمور متناقضة متعارضة، هي – من جانب – إرادة الله المطلقة، وصدور كل فعل عنه وأي قول منه. وهي – من جانب آخر – تتعلق بحرية الانسان في الفعل والقول، وتقرير الجزاء عن كل فعل وأي قول له، بما يقتضي تحمّل المسئولية عن فعله وقوله، في الدنيا والآخرة، على السواء.
فإذا كان كل شيء يصدر عن إرادة الله المطلقة – ففيم تكون المسئولية ولم يكن الجزاء ؟ وأين يكون العدل الإلهي الذي يُعاقب ويُحاسب عما لم يكن الانسان فيه – فعلا أو قولا أو سكوناً أو سكوتاً – إلا مجرد آلة تتحرك وفق نظام صارم محدد منذ الأزل، كما لو كان سيناريو موضوعاً سلفاً لتتابع فيه الأحداث، وفقاً لما رُسم من قبل، ويكون كل شيء من ثمت، وهم في وهم، ومجرد أدوار تؤدَّى، لا عاقبة لها ولا جزاء، الا إذا نسب هذا وذاك إلى إرادة الله المطلقة، وحقه في ان يفعل بخلقه مايشاء، من هوان الجحيم أو هناء النعيم. وهنا تثور، وقد ثارت على مدى التاريخ، مسألة العدل الإلهي، وكيف يتصرف الإله بالهوى والنزوة بلا نظام محدد، عقوبة أو مثوبة. وقد عزز مفهوم الجبرية، والآلية (الميكانيكية) في الفكر البشري ظواهر عدة، منها:-
(أ) رؤى المنام: ففي التراث الديني أن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام ما فسره – لا على ما كان يشيع في عصره من تقديم قربان بشري – بل على أنه أمر إلهي بذبح ابنه. ورأى يوسف عليه السلام رؤيا صحّت بعد وقت طويل، إذ رأي في المنام أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون له، وتحقق ذلك بعد أمد، عندما سجد له أبوه وأمه وإخوته الأحد عشر، وهو رئيس في مصر. وفي سيرة ابن إسحاق (التي حذف منها ابن هشام الكثير) ما يفيد أن عدداً وفيراً من أفعال النبي (صلى الله عليه وسلم) كانت رؤى شاهدها في المنام. وفي ذلك قالت زوجه عائشة (قبل أن تجيئه النبوة كانت رؤاه كفلق الصبح). وفي مختلف الأزمنة والأمكنة، وحتي العصر الحالى، فإن لبعض الناس. ملكة أن يروا في المنام رؤى تتحقق بحذافيرها بعد وقت، يطول أو يقصر. وهى مسألة تحتاج إلى تفصيل أوفى، فيما بعد.
(ب) التنبؤ بالغيب: ثم تفرقة بين العرافة والكهانة. فالعرافة تتعلق بالأمور المستقبلية، في حين أن الكهانة تختص بالوقائع الماضية. وعلى مدى التاريخ كان يوجد عرافون وعرافة، وكهان وكهانة، حتي وإن حدث خلط بينهما. فإن صح منهم القول، وهو أمر نادر الحدوث، فإنه يؤكد – فيما يتعلق بالكهانة – أن الحوادث كانت مكتوبة من قبل، مدونة في سجل كوني.
(جـ) وجود ظواهر متكررة متناثرة، تقع وتستمر، ولا يمكن تفسيرها وفقاً للقوانين المادية المتعارف عليها، وهي تدخل فيما يسمي حالا (حالياً) باسم علم “ماوراء علم النفس”(Para psychology) مثل انتقال الأفكار بغير وسائط مادية، بما يسمي اللقانة (Telepathy)، ثم الجلاء البصري (Clair voyance) والجلاء الفكرى، ويدخل
فيه الوحي – بالمعني العام (Revelation ) وقد جاء بعد ذلك في القرآن
(وأوحينا إلى أم موسى) (وإذ أوحى ربك إلى النحل). وهذه الظاهرة تسمى كذلك بالإلهام (Inspiration) أو الحدس (Intuition) أو الفراسة (Physlognomy ) وهي قدْرة لدى شخص يفوق المستوى العادى من الناس، يستطيع التقاط أفكار كونية، قد تكون دينية أو علمية أو فنية أو فكرية أو أدبية، ما كانت لتخطر له من قبل، ولا يوجد تسلسل طبيعي (أو مادي، وفقا لمنطق السببية المادى) يمكن أن يؤدي إليها أو يصل إلى حقيقتها.
(د) عجز بعض الناس عن حكم أنفسهم بحيث يتصورون ان ما يأتونه من فعل او قول إنما هو أمر “مكتوب على الجبين”، مقدور عليهم فعله، ولا يستطيعون منه فكاكاً. وقد كشف العلم حالا (حالياً) عن بعض العلل النفسية او العقلية أو المورّثة، التي تؤدي لزوما إلى اقتراف جرائم معينة أو تدفع الى تصرفات بذاتها، ومنها فصام الشخصية (Schizophrenia) والجنون النفسي أو السيكوباتية (Psychopatis) وجنون السرقة (Cleptomania) وفقدان الإرادة(Abulia) والتخليط الوجداني الذي يتنافى مع الأسباب العقلية (Logic- affective) والجنون الدوري (Cyclothymia) والشبقية المرضية أو الجنون الجنسي (Satyriasis)، مما كشف للبشرية ان غرابة تصرفات البعض، وعدم قدرتهم على ضبط إرادتهم، أو وزن كلامهم او رسم فعالهم، يعود الى علل مرضية أو الى ترتيبات جينية (Jenetics)، من المورثات ولا ترجع الى دفعات الشياطين أو إلى غيبية الموازين.
(هـ) ان عمر الفرد قصير جداً بالنسبة إلى الدورات الفلكية،وهو طويل جدا بالنسبة الى عوالم ما تحت الذرة، وبذلك فإنه لا يستطيع وحده ملاحظة نتائج الدورات الفلكية (التى تقدر بآلاف السنين)، كما لا يمكنه بغير أدوات دقيقة في المعامل (Labs) ، ترصد ما لا يستطيع رؤيته، ان يتصور ما يحدث في مجال ما تحت الذرة، حيث تكون الذرات (Atoms)والفوتونات (Photons) والجزئيات (Particles) في حين ان السرعة المقبولة والدورات الزراعية للزهور والورود والخضار والفاكهة، مكّنت شخصاً مثل مندل (جريجورجوهان 1822 – 1884) من أن يكتشف بعض قوانين علم الوراثة.
كل هذه الامور، ومثلها كثير، يؤكد للشخص العادى، الذي لا يستطيع أن ينشر بصيرته، ولا يقدر على تصور المجردات، ولا يعرف كنه ما وراء المادة من اشعاعات كونية، وأبعاد غير منظورة، وما هو ضد المادة Anti-(matter)، وما يكون فوق الاشعة البنفسجية أو وراء الاشعة تحت الحمراء، لا يستطيع هذا الشخص العادى إلا ان يتصور الاكوان ككون مادي (يقع في نطاق رؤياه وفي مجال سمعه)، والأقدار خبْط عشواء (Haphazardly) أو (at random) تقع على الشخص من حيث لا يحتسب ولا يستطيع لها رداً او صداً. لكن الحقيقة تقطع بأن للمسألة وجهاً آخر، لن تتعرض له الدراسة من خلال الألفاظ، ولا بسجال المعاني، ولا بضلال الأوهام، ولا بختال المعتقدات الجافة (الايديولوجيا)، لكنها سوف تتعرض له بواقع الآيات في القرآن الكريم ومن أقوال السيد المسيح في (الانجيل).
ففى القرآن (فتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) سورة العنكبوت 13:49 وقال السيد المسيح لتلاميذه وقد سألوه (لماذا تكلمهم بأمثال.. قال لهم لأنه قد أُعطي لكم ان تعرفوا أسرار مملكة (ملكوت) السماوات، وآما لأولئك (أي الناس الآخرين) فلم يُعْط… من أجل هذا أكلمهم بأمثال) (انجيل في 13: 1- 14 ). والمثل أو المثال لغة، هو التسوية يبن المثل والشيء، وهو ما يُضرب من الامثال، وهو العبرة، وهو أسطورة على لسان حيوان أو جماد (مثل كليلة ودمنة). وهو يستعمل غالباً للتشبيه وتقريب الفهم للناس الذين لا يفهمون مغزى القول، أو المجاز منه. والمجاز لغة، هو – في الكلام – ما يستعمل في غير ما وضع له اصلاً، وهو يمثل خروجاً عن الانطباعات اليومية السائدة. وينقسم المجاز (Figurative, meta(phorical) إلى مجاز مرسل، ومجاز بالاستعارة، والمجاز المحذوف، والمجاز العقلى (يراجع لسان العرب، المعجم الوسيط، المعجم العربي الأساسي: مادتي مثل، ومجاز).
فعندما يقول القرآن (الله نور السموات والأرض. مثل نوره كمشكاة…) فهو بذلك يضرب مثلا يقصد به المجاز، ذلك لآن الله ليس نوراً عادياً، وإلا كان كالنجم الساطع او كالشمس المشرقة، لكنه في الفهم الصحيح، نور كنور العلم، وضوء كضوء المعرفة، لكن الناس العاديين لا يفهمون ذلك ولا يطيقون استيعاب الحقيقة، فيضرب لهم مثلاً مادياً، ويكون المجاز فيه للخاصة وحدهم. كذلك عندما يقول السيد المسيح (من يرسله الله يتكلم بكلام الله) فإنه يقصد كلام الله على المجاز.
متى فُهم المعنى الحقيقي للمثل (وجمعه أمثال) وما يقصد من المجاز، أمكن إعادة فهم الخطاب الديني في مسألة الجبر والاختيار على نحو آخر. فالخطاب الديني يجري دائما على مستويين، أحدهما للعامة من الناس، وهم أكثرهم، ولا بد أن يكون الخطاب لهم سهلاً ميسراً، يضرب الأمثال(Parables) إن اقتضى الأمر أو يستعمل المجاز إن دق الفهم، وثانيهما للخاصة – الذين يفهمون المعاني الحقيقية، ويعقلون ما يعنيه المثل، ويستوعبون المجاز والتورية وما شابه.
وفي القرآن الكريم (لن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا) سورة فاطر 25: 43، ويعني ذلك ان كل شيء في الأكوان أو مع الانسان يجري وفق سنة (والسنّة هي القانون أو القاعدة أو الحكم). فالسنن الكونية والقواعد الأزلية والقوانين الإلهية والأحكام القدرية، وضعها الله في الكون منذ بدأ الخلق وبثها في الوجود حين شرع الوجود، وكل شئ منذ بداية الخلق في هذا الكون، وحتى ينتهي، يسير وفق هذه القوانين وتلك القواعد وهاتيك السنن، فلا شيء يحدث عفواً أو يقع اعتباطاً أو يظهر مصادفة (كل شيء عنده بمقدار) سورة الرعد 8:83 متى صح الفهم على ذلك أمكن فهم الآيات التي يتصور الناس خطأ أنها تفرض الجبر وترفض الاختيار، مثل (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) سورة التوبة 9:51 (ما من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها) سورة الحديد 22:57 فنسبة الفعل او القول لله هي على سبيل المجاز الذي يحذف ما هو معلوم للضرورة اللازمة لفهم العادي من الناس، مثل (وأسأل القرية) فقد حذفت كلمة أهل (قبل القرية) لأن حذف المعلوم مجاز ممكن في البيان البلاغي، وفي الآيات التي تنسب المقادير الى الله حدث حذف للسنن أو القوانين او القواعد، فكل ما يحدث في الكون يحدث وفقاً للسنن التي برأها الله عند خلق العالم وبثها في كل شيء فيه.
فالإنسان يفعل او يقول او لايفعل ولا يقول ما ينبغي عليه فعله أو قوله، لكن النتائج تترتب تبعاً للسنن الكونية والقواعد الأزلية والقوانين الإلهية، التي خلقها الله منذ الأزل، وبثها في كل ما هو مخلوق. مؤدى ذلك أن الأفعال والأقوال مُحْدَثة (بأمر الله) وفقاً لإرادة الشخص وقت التصرف، لكن نتائجها تترتب تبعاً لما هو مسجل من قوانين وقواعد وسنن منذ الازل، عندما برأ الله العالم. وبذلك يُرفَع اي تناقض ويزول أي تعارض، وتترسخ في المفهوم الآية المحكمة(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) سورة الزلزلة 7-8: 99. اما النعمة والدعاء والشفاعة فهي كلها تحدث – إن حدثت – وفقاً لما كُتِب منذ الأزل في القوانين والسنن والقواعد والأحكام (ولله الشفاعة جميعاً).
إن عامة الناس لا تعرف القانون لكنها تعرف القاضي ولا ترى الدستور لكنها ترى الحاكم، فالذي لا يستطيع التجريد لابد أن يلجأ إلى التجسيد. ولهذا فقد وضع القرآن تفرقة بين الذين يؤمنون والذين يعلمون، فقال (يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) سورة المجادلة 11:58 ففي الآية مفارقة واضحة وممايزة بيّنة بين الايمان والعلم، بين من يؤمن بغير علم، وبين الذين أوتوا العلم او العارفين بالله.
فالذين أوتوا العلم يدركون ان ثمة علوما ومعارف ليس من سبيل الى عامة الناس ان يعرفوها، وإذا قيلت لهم لا يدركونها، وبذلك تنقصهم الروح التى لا يمكن بغيرها استيعاب الحقائق الكونية التى تفسر الفعل وردّه، والقول وأثره. فالناس من العامة تنقصهم الصورة الكاملة، وتنقصهم قوانين قد تكون موجودة، وإن صحت فهي تفسر الكثير، مثل تناسخ الأجساد(Transmigration) الذي يسمى خطأ تناسخ الأرواح (Reincarnation) كما ينقصهم أن يعلموا علم اليقين أن الكون وحدة واحدة، وفي حركة دائمة، وأنه – كما يبدو في أصغر جزيء (particle) تنحل اليه الذرة – يتمتع بالشعورية والذاتية والحركية والتصرف وفقاً وتبعاً لأسباب أبعد من الأسباب القريبة، التى يمكن مع التدارج، أن تفهم على أنها كل أكبر، أو أنها الكونية جميعاً.
وفصل الخطاب، ان الانسان حر فيما يفعل أو يقول، حرية غير مطلقة لإنها متأثرة بعناصر وعوامل كثيرة، عُرف بعضها ولم يُعرف بعضها الآخر بعد، لكن ما يترتب على أفعاله وأقواله يوزن ويُعيّر وتترتب آثاره، وفقاً للقواعد والسنن والقوانين التي كتبها الله منذ الأزل. فالمكتوب عند الله منذ الأزل هى موازين الكون، لكنه شاء أن يعطي الإنسان حرية ليفعل ما يريد ويقول ما يشاء، وهو يُحاسب عن أعماله وأقواله طبقاً للموازين الأزلية المكتوبة منذ بدء الخلق. ولا يكون فعل الانسان الحر شركاً بالله، لأن الله خلقه ليكون خليفته (وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل في الأرض خليفة)، أما مناط هذه الخلافة فهي ما جاء في صحف إدريس (التي نشرناها في مجال آخر)أن الله خلق الأنسان ليخْلَقَ به.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة