اعتزلت الأمريكية سيندي شيهان، نضالها الشاق من أجل عالم بلا حروب. طوال العامين الماضيين، خاضت سيندي مع آخرين، “حربا” غير متكافئة مع قادة الحرب في بلادها. كان ذلك بعد وفاة ابنها كيسي في العراق عام 2004. أقامت “معسكر كيسي” لمناهضة الحرب خارج مزرعة الرئيس الأمريكي بوش، ونفذت إضرابا طويلا عن الطعام، واعتقلت مرات عدة.
ما حصدته سيندي من نضالها الشاق، كان “الكثير من التجريح والكراهية منذ أن قتل كيسي، وخاصة منذ أن تحولتُ إلى ما يسمونه بوجه الحركة الأمريكية المعادية للحرب”، تقول في رسالة اعتزالها هذا النشاط. أُطلقت عليها نعوت من مثل “العاهرة الساعية للشهرة” وطولبت ب”الرحيل من دون رجعة”، وأكثر من ذلك. حيث كان من ضمن الثمن الذي دفعته لاختيارها خوض هذا التحدي “التضحية بعلاقة زواج عمرها تسعة وعشرون عاما” والسفر لفترات طويلة بعيدا عن أبنائها، وتردي حالتها الصحية والمادية، حيث قامت “بإنفاق كل قرش تلقيته من الأموال التي وصلتني من بلدي للتعبير عن “الامتنان” بعد أن قتلوا ابني” .
حوربت بداية من الحزب الجمهوري، ثم ما لبث الحزب الديمقراطي أن انضم إلى الحملة ضدها، عندما شملته في انتقاداتها، و”عندما قلت إن قضية السلام وموت البشر من دون سبب ليس أمرا يتعلق باليمين أو اليسار، بل بالصواب والخطأ”. تعرضت بشجاعة إلى نقد السياسات الحزبية في بلدها معبرة عن دهشتها “عندما أجد هناك أشخاصا…يمكنهم كشف الأكاذيب ومحاولات التشويه والانتهازية السياسية والتركيز عليها..لكنهم يرفضون الاعتراف بهذه الأمور عندما يتعلق الأمر بحزبهم الخاص”.
الأكثر إيلاما في رسالة سيندي، يماثل ما اعتبرته هي نفسها القرار الأكثر إيلاما، وهو أن “كيسي مات بالفعل من أجل لا شيء، ولقد سالت دماؤه الغالية في بلد بعيد عن أسرته التي تحبه، وقتلته بلاده التي تتحكم بها وتديرها آلة حرب تسيطر حتى على ما نفكر به. ولقد حاولت منذ مقتله أن أجعل تضحيته ذات معنى. لقد مات كيسي من أجل بلد يهتم بمن سيكون بطل الغناء المقبل في مسابقة “أميركان أيدول” أكثر من عدد الأشخاص الذين سيقتلون خلال الشهور القليلة المقبلة، بينما يتلاعب الديمقراطيون والجمهوريون بحياة البشر”.
أخيرا، تعتبر سيندي أن “هذا النظام يقاوم بقوة محاولات مساعدته، ويأكل البشر الذين يحاولون مساعدته”.
صعقتني هذه العبارة، وهذا التشبيه المؤلم بقدر كونه حقيقة تنطبق على جميع أنظمة الحرب والقمع على السواء. لكنها من ناحية أخرى، توحي كم أن قوى مناهضة الموت والظلم في العالم، لا تزال هشة، محدودة التأثير، ومحصورة ضمن دوائر صغيرة.
وإن كنت أفهم لماذا لا توجد سيندي سورية، تفعل ما فعلت نظيرتها الأمريكية من أجل ابنها المفقود منذ سنوات، أو من أجل ابنها القابع في معتقل مظلم، فلا أستطيع أن أفهم لماذا لا توجد آلاف الأمهات الأمريكيات اللواتي يشبهن سيندي. فمهما كان الثمن الذي دفعته هذه الأخيرة قاسيا، فهو لا يصل إلى درجة ما قد تضطر إلى دفعه أم في بلد يدار بعقل أمني.
لا يعني ذلك أن الأغلبية العظمى من البشر تقف إلى جانب الحرب أو الاستبداد. لكنها فيما يبدو لا تزال تقف حيث البقعة السوداء، في حياد غير عادل أو مبرر. ويستوي في ذلك الأغلبية التي تستقي حيادها من عدم تضررها المباشر من مظالم هذا العالم، أو تلك التي تعض على ألمها وتعتبره قضاء وقدرا لا راد له.
تقول سيندي “هذه ليست لحظة استسلام، وذلك لأنني لن أتخلى أبدا عن محاولة مساعدة البشر في العالم الذين يتضررون من تصرفات الامبراطورية الأمريكية التي كانت يوما ما ملكا لنا”. لكنها تختم رسالتها بالقول “يا أمريكا، لم تعودي ذلك البلد الذي أحببت،ولقد تيقنت أخيرا أنه مهما بلغ حجم تضحياتي، فلن يكون بإمكاني أن أجعلك مثل هذا البلد، ما لم ترغبي أنت في ذلك، والآن الأمر يعود لك”.
هي تماما، لحظة إيمان بالذات، وفقدانه بالعالم من حولنا. وفي ذلك إخلال بالمعادلة التي يمكن أن تنتج أي تغيير في أي مجال. أذكر شابا سوريا في أوائل عشرينياته، كتب قصيدة مؤثرة غداة خروجه من السجن، خلاصتها، لماذا أحكي وأكتب وأعاني، فيما الآخرين يفضلون الصمت وكسر الأقلام، هل هم يهتمون فعلا؟.
رسالة سيندي يمكن أن تكون بقلم أي إنسان في جميع دول العالم. تلك التي تصنع الحرب، أو تتاجر بها، وتلك التي تصنع الكرسي الألماني والزنزانة والمحاكم الاستثنائية، وتلك التي تقف على الحياد من ذلك كله.
ليس لدي أدنى فكرة، عن كيف يمكن للآخرين أن يرغبوا بعالم أفضل ويعملوا من أجله. لكن بالتأكيد، فإن إنسانة مثل سيندي، رغم أنها اعتزلت معركتها الأكثر سموا، لعدم قدرتها على الإجابة عن مثل هذا السؤال، أقول أن إنسانة مثلها، لا بد أن تلهم آخرين، وتجعلهم يتوقفون للحظة عند ذلك الوطن الذين ينتمون إليه، الذي لم يعد ذلك البلد الذي أحبوه، وأنه لن يعود كذلك، ما لم يرغبوا هم به ويسعوا من أجله.
والآن، الأمر يعود لكم.
razanw77@gmail.com
* دمشق