منذ 2 حزيران 2005، تاريخ اغتيال سمير قصير، والنظام السوري يشنّ هجومه المضاد على الاستقلال اللبناني الثاني. وهو اليوم، بعد الاغتيالات والعبوات والتهديدات ومحاولات إسقاط الحكومة، ينتقل الى التفجير العسكري لاجئاً الى عمل مخابراتي داخل خلايا أصولية أتقن منذ سنوات لعبة استخدامها وتوظيفها في استراتيجية الرعب التي يعتنقها حماية لنفسه وطلباً لمفاوضته.
لم تكن صدفة أن يستهدف النظام السوري في أول محطّات هجومه الدموي على انتفاضة الاستقلال منذ عامين بالتحديد، مثقفاً يسارياً علمانياً يعتبر الربيع البيروتي مقدّمة للربيع الدمشقي، ويرى في التحرّر من الاستبداد في العالم العربي مشروعاً نهضوياً في ذاته، ومنطلقاً لدعم القضية الفلسطينية على أساس المواجهة مع العنصرية والاحتلال الاسرائيليين.
إغتيل سمير قصير يومها لافتتاح مسلسل جديد في لبنان بعد اندحار الهيمنة ‘السورية’ عنه. مسلسل بدأ بمحاولة إخفات الصوت اليساري والعروبي النهضوي، إذ تلا اغتيال سمير إغتيال جورج حاوي. ثم استمرّ المسلسل عبر محاولة قتل الحريات من خلال استهداف المنابر الإعلامية المستقلة والصحافيين الأحرار لمنع عودة بيروت وصحافتها الى ما كانت عليه، عاصمة للتنوع الثقافي والسياسي ورئة للمثقفين والمعارضين والمنفيين من أنظمة القمع والعسكر العربية. فاستهدُفت مي شدياق ثم اغتيل جبران تويني وطُلب رسمياً بواسطة الموفدين ‘وقف الحملات الإعلامية المنطلقة من لبنان ضد نظام دمشق’. وتوالت فصول المسلسل نفسه، فانتقل التصعيد بعد فشل الترهيب وتعميم الخوف والاستسلام، الى التهديد بتفجير ‘السلم الأهلي’. فقُتل قادة حزبيون أساسيون مثل بيار الجميل، ولُوّح بحرق لبنان في حروب مذهبية وإرهاب على الطريقة العراقية انطلاقاً من تفجيرات عين علق وصدامات الثلاثاء والخميس الأسودين. وها نحن اليوم أمام لحظة احتدام جديدة، في نفس السياق، هدفها تفجير المخيمات انطلاقاً من نهر البارد، وتفجير البلاد بالتالي في ردّ مباشر على المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وعلى محاولات اللبنانيين تكريس استقلالهم.
الجبهات السياسية والأمنية
لا شك أن الأداء البعثي مؤخراً برع في التخطيط الإجرامي، وفي الاستفادة من الظروف
اللبنانية والإقليمية لحماية نظام كان متهالكاً منذ سنتين وحسّن مواقعه تدريجياً نتيجة المستنقع العراقي الدموي والتخبط الأميركي فيه، وتصاعد التوتر الإيراني – ‘الغربي’، وعودة مقولة تفضيل الاستبداد و’استقراره’ على صعود الإسلاميين في دوائر القرار الاميركية والاوروبية، والحرص الإسرائيلي على رفض القبول بأي ضغط دولي إضافي عليه خوفاً من المجهول إن سقط، إضافة الى استغلاله الظروف اللبنانية الداخلية والاتّكال على الهشاشة الطائفية من ناحية، وخدمات الحلفاء من ناحية ثانية.
على أن ‘نجاة’ النظام السوري المؤقتة لا تعني تأبيد وضعه القائم، خاصة مع إقرار المحكمة الدولية في مجلس الامن وفق الفصل السابع. لذلك، فهو معني اليوم بالعمل على المزيد من التصعيد الأمني في لبنان، وعلى المزيد من المحاولات لاستجداء التفاوض مع الاميركيين والاوروبيين على محورين: محور أمن جواره (العراق ولبنان)، ومحور استعداده للقاء الاسرائيليين دون قيد أو شرط.
بهذا المعنى، لا يمكن فهم الجنون الأخير في نهر البارد (وفي الأشرفية وفردان وعاليه)، خارج سياق اعتباره المواجهة الأخيرة في مسلسل الإجرام الطويل التي لم يستنفد نظام دمشق كل أسلحته فيها، ولكن يتوقف على نتائج التصدّي له شمالاً اليوم مآل أسلحته المتبقية.
فمعركة نهر البارد فُتحت في ذروة انسداد الأفق السياسي داخلياً عشية استحقاق رئاسي مفصلي يصرّ حزب الله ومعه حليفه التيار العوني على تعطيله إن لم يُتّفق على نتائجه مسبقاً، تماماً كما حاول تعطيل الحكومة، وكما عطّل مع حليفه الآخر الرئيس بري الإقرار اللبناني للمحكمة الدولية داخل المؤسسة التشريعية الوطنية.
وهي فتحت أيضاً في لحظة احتقان مذهبي داخلي لا يعقّد الأمور أمنياً فحسب، بل يجعل أيضاً من الغطاء السياسي والوطني للجيش في مواجهة استهدافه ضعيفاً ممّا ينعكس على أدائه وقدرته على الحسم، ويربك المعطى السياسي بأسره في البلاد.
المخيمات والحرب على اللبنانيين والفلسطينيين
ليس اختيار ‘نهر البارد’ تفصيلاً، ولا اللجوء الى ‘فتح الإسلام’ وسيلة تشبه غيرها. فالمخيم الشمالي المنكوب، ظل منذ حرب النظام السوري على منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات مباشرة بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان ومخيماته عام 1982، في قبضة المخابرات السورية مباشرة وفي إدارة حركة ‘فتح الانتفاضة’ الموالية لها والمتواجد جميع قادتها في دمشق منذ عقود (من أبو موسى الى أبو خالد العملة).
وبهذا المعنى، يأتي اختيار مخيم لا وجود عسكرياً فيه لحركة فتح ولقوى منظمة التحرير ‘موفقاً’ لجهة تعذّر الوصول الى أية معالجة، سياسية كانت أم أمنية، داخله، تمنع احتدام الصدام بين بعض من فيه وبين محيطه اللبناني. كما يأتي العمل المخابراتي السوري لإيصال إسلاميين سلفيين إليه، من جنسيات عربية مختلفة، محاولة لإبعاد الشبهة عن المحرّك الفعلي للإرهاب عبره. وهي محاولة حضّر لها منذ أشهر تسويق مقالات ديماغوجية لسيمون هيرش، تستند الى حقيقة أن ثمة أصولية سنية في لبنان ناشئة في العديد من المناطق المهمّشة والفقيرة، ومُستنفرة كمثل شقيقاتها في العراق ودول الخليج ضد ‘الرافضة والصليبيين’ ولا ينفع ولا يهم نفي وجودها، وليس أعضاؤها على ارتباط مباشر بأجهزة المخابرات السورية، لكن تحريكهم بالواسطة يتمّ، وهذا أمر كلاسيكي في عمل المخابرات، بواسطة عملاء أجهزة ووسطاء مثل شاكر العبسي ‘الفار’ من السجون السورية، وابو مدين ‘الفار’ من معسكرات التدريب، إضافة الى عشرات العناصر من فتح الانتفاضة المستقبلين لهم، وعلى الأرجح المساهمين في توريطهم في المواجهات الاخيرة.
ولا ننسى هنا أن سلوك حزب الله السياسي المستفزّ بحكم أصوليته المذهبية لأصوليات مذهبية أخرى، لا يمكن إلا أن يزيد من حالات التطرف المضاد وأن يغذّيها.
الأهم في كل ذلك، أن شرارة خطيرة وشديدة التعقيد انطلقت مع معركة ‘فتح الإسلام’ في مخيم نهر البارد، ولا يمكن حسمها فلسطينياً لأن ذلك قد يفجّر مخيمات أخرى، وبالتحديد ‘عين الحلوة’ حيث المجموعات السلفية المخترَقة مخابراتياً صارت حاضرة بقوة في الكثير من أحياء المخيم. وبالتالي لا مفرّ من حسم معركة البارد لبنانياً، وبواسطة الجيش والقوى الأمنية الشرعية، قبل تحوّلها الى حالة استنزاف أمني وعسكري (ليس مستبعداً أن يلاقيها لاحقاً استنزاف موضعي في مواقع أخرى خطيرة خارج المخيمات، من الناعمة الى دير العشائر)، وقبل تحوّلها أيضاً الى حالة استنزاف إنساني واجتماعي مع وجود آلاف العائلات الفلسطينية المشرّدة من المخيم الى مخيمات بؤس أخرى، وآلاف العائلات المحاصرة داخله في ظروف رعب ويأس وضياع.
في معنى الحسم وحقوق الفلسطينيين
إنطلاقاً من ذلك، لا نرى حلاً يقوم على المساومة وتأجيل المعركة ضد ‘فتح الإسلام’ لأن في ذلك وقوعاً مدوّياً في الفخ السوري. الحسم وحده يقي لبنان والفلسطينيين على أرضه من مخاطر حروب مخيمات جديدة، لا سيما وأن حجم الانتهاكات لحقوق المدنيين الفلسطينيين منذ عقود أدّى ويؤدّي الى حصارهم اقتصادياً واجتماعياً، وأبعدهم أحياناً عن همومهم السياسية المشتركة مع جيرانهم اللبنانيين. كما أن تصاعد الكلام العنصري ضدهم من قبل أطراف طائفية لبنانية (وفيه أحياناً إبعاد مقصود للأنظار عن حقيقة أن المعركة هي في وجه تنظيم إرهابي تحرّكه المخابرات السورية وليست في وجه الشعب الفلسطيني ولا مخيماته)، صار يلاقي في مؤدياته السياسية وضع الخطوط الحمر حول المخيمات بحجة الحرص عليها وكأنها مستهدفة، على نحو ما فعل حزب الله، وصار يهدّد بالتالي بشحن النفوس وتعميق الشرخ في العلاقات اللبنانية الفلسطينية، ومنع استئصال الإرهاب من بعض المناطق.
إن الحسم في ‘نهر البارد’ اليوم هو مقدّمة للانتصار على إرادة التخريب السورية وعلى الفتن المتنقّلة والانفجارات المرافقة لها. وهو حسم لا يمكن أن يتمّ دون تعامل عسكري موضعي يجنّب المدنيين الفلسطينيين المزيد من الأضرار والمعاناة، ولا أن يجري دون أفق سياسي واضح لتنظيم العلاقة مع منظمة التحرير ومع السلطة الوطنية ومع الفصائل المختلفة من فتح الى حماس لحماية أمن المخيمات ومنع استخدامها منطلقاً لتفجيرات واعتداءات تطال محيطها. وهو أيضاً حسم يجب أن يليه عمل إعماري وإنمائي كبير يعيد بناء ما تهدّم ويعوّض على المتضررين الفلسطينيين واللبنانيين من القتال والأعمال الإرهابية.
وعلينا ألا ننسى أن كل تأجيل في إقرار الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان، إن بحجة التوطين المتهافتة، أو بحجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ليس إمعاناً في انتهاك حقوق الانسان وتمييزاً ضد مئات الألوف من اللاجئين المقيمين فوق الاراضي اللبنانية فحسب، بل هو أيضاً تسهيل لعمل المخابرات في استغلال بؤر فقر وعوز وتطرف لتهديد الامن والاستقرار….
في ما هو أبعد من معركة اليوم
ختاماً، يدخل لبنان مع إقرار المحكمة مرحلة جديدة في مواجهته المفتوحة مع النظام السوري. يدخل المرحلة منهكاً على أكثر من صعيد: أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وهو ما زال يلملم آثار الحرب الاسرائيلية في تموز الماضي وتداعياتها.
لكن هذا الإنهاك لم ينل من إرادة اكثرية أهله بعد. ولكي لا ينال منهم، يفترض بمختلف القوى السياسية الحريصة على البلاد، بعد إخراج قضية المحكمة الدولية من التداول الداخلي، إعلاء منطق الدولة اللبنانية على ما عداه، إن في الخطاب السياسي أو في الممارسة. فالدولة، كما علّمتنا تجارب العقود الفائتة، لا تبنى بالمساومات الطائفية، ولا بمشاريع القوى المذهبية وأوهامها (إن للتمدد على حساب غيرها أو لاستعادة ‘أمجادها’ الغابرة)، ولا بالشحن العنصري، ولا بالتصنيف والتخوين والاتهامات المتبادلة.
الدولة تبنى بمنطق المؤسسات وفصل السلطات والتعاقد المواطني، وبمنطق حصرية السلاح، وبمنطق تحديد الموقع السياسي ممّا يجري في المحيط. فهل من حوار ممكن حول كل ذلك بين مختلف أطياف الاجتماع السياسي اللبناني قريباً؟ وهل من مشاريع إصلاحية يمكن أن تُقدَّم في السياسة والاقتصاد والإدارة والأمن لا يخالُ أصحابها أنها هابطة من زمان ومكان لا علاقة لهما بالزمان والمكان اللبنانيين؟
لا تبدو الإجابة على التساؤلين مشجعة الى الآن. لكن المعاناة والحاجة ‘الوجودية’ لربما تولّد من رحمها مشاريع أبعد من عمليات ‘الترقيع’ أو الانتحار البطيء السائدة اليوم… عندها فقط يمكننا أن نحصّن استقلالنا ونحميه من التهديدات الخارجية التي قد لا تتوقف قريباً. وعندها فقط يمكننا أن نقول إن تضحيات شعبنا أزهرت ربيعاً حقيقياً، فنتذكر في مثل هذه الأيام من كل عام، سمير قصير وشهداء الاستقلال الثاني، وأحمد قصير ولولا عبود وشهداء التحرير.
وإلا، فلا تهويل إن قلنا إننا سنستمر في الانحدار ببطء وثبات نحو المزيد من الأزمات، ونحو المزيد من الفتن والمكائد والإرهاب…
ziadmajed05@yahoo.com