I
أنواع التعددية
لا بدّ لأي فلسفة اجتماعية أو سياسية، بل لكل فلسفة، سواء أكانت في الدين أم في العلم أم في الأخلاق أم في غير ذلك، من مفهومين جوهريَّين هما التعدد والوحدة. وقد دارت فلسفة أفلاطون ـ وهي الأصل الأقدم لكل الفلسفات اللاحقة في الدين والعلم والأخلاق والفن والاجتماع والسياسة ـ على هذين المفهومين. وجاء أفلاطون بنظرية المثُل التي تجد مصدر الكثرة ومآلها ومعناها في مبدأ مركزي أَطلق عليه أسماء مختلفة، لكنها ذات مدلول واحد في نظره، هي: الخير، الجَمال، الحق، اللـه…
وما دمنا في صدد الفلسفة الاجتماعية، فلنتناول مفهوم التعدد أولاً ثم مفهوم الوحدة بالنسبة إلى المجتمع.
في كل مجتمع أنواع من التعدد أو التنوع. هناك، مثلاً، تنوع في العلم والمستوى التربوي. حتى في حال إلزامية التعليم، نجد أفراداً يتابعون الدراسة الجامعية وآخرين لا يفعلون. كما نجد فئات يذهب أفرادها إلى معاهد مهنية. وفي كلتا الدراستين الجامعية والمهنية تنوعات وتشعبات كثيرة. وربما غَصّت مجتمعات معينة ببعض ذوي المهن، كالأطباء والمهندسين والمحامين، فبات بعضهم يسعى إلى أعمال أُخرى أو إلى البحث عن عمل خارج مجتمعاتهم. وتقيم بعض المجتمعات تمييزاً بين ذوي الياقات البيض، أي العاملين وراء مكاتبهم أو العاملين بقدراتهم العلمية، وذوي الياقات الزرق، أي العاملين في المصانع والممارسين أعمالاً تنفيذية عموماً، لا تحتاج إلى درجات جامعية عليا أو مهارات ذهنية مميزة.
هناك أيضاً تنوع في الطبقات الاجتماعية، مثل طبقة الأرستقراطيين أو البورجوازيين، والطبقة الوسطى، والطبقة الدنيا. وفي القديم كانت هناك طبقة العبيد، في نظُم اجتماعية تقبل بالعبودية، أي شراء الناس وبيعهم وتسخيرهم للأعمال الشاقة أو التي يترفّع عنها أبناء المجتمع من أي طبقة كانوا. وإذ يرتبط الوضعان الطبقي والمالي على وجه العموم، إلا أن هناك استثناءات. فرُبَّ عائلة تحمل لقب شرف عَرف أفرادُها الفقر في أحوال معينة، وربَّ عائلة من الطبقات الدنيا حَقَّق بعض أفرادها غنى مادياً كبيراً. وقد يكون هذا الغنى أحياناً سبباً في تدرُّج العائلة أو فرع منها إلى طبقة اجتماعية أعلى. وما يزال الواقع الطبقي على أشدّه في بلدان مثل الهند، حيث يرتبط ارتباطاً حميماً بالعقائد الدينية الهندوسيّة.
إذا انتقلنا إلى التعدد العرقي، لوجدنا في معظم بلدان شمال أفريقيا عنصرَين طاغيَين هما العربي والبربري، وفي العراق عناصر عدّة كالعربي والكردي والتركماني. وفي لبنان نجد أعراقاً عربية وسريانية وأرمنية وغير ذلك. كما نجد هذا التنوع العرقي في بلدان أُوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا. والغالب أن يكون لكل عرق لغته، مثل الأمازيغيّة والكرديّة والسريانيّة والغاليّة. ومن أقوى وجوه الواقع العرقي ضعف هذه اللغات أمام اللغة المركزية الجامعة، كالعربية والانكليزية والفرنسية والاسبانية. وطالما كان الصراع العرقي في المجتمعات دافعاً إلى حركات انفصالية وحروب أهلية.
أما التعدد الديني والمذهبي فهو واقع مجتمعات كثيرة جداً حول العالم. فهناك تعدد إسلامي ـ مسيحي في بعض البلدان العربية والأفريقية وسواها، وتعدد بوذي ـ مسيحي في بعض بلدان جنوب شرق آسيا، وتعدد هندوسي ـ سيخي ـ إسلامي ـ مسيحي في شبه القارة الهندية… ناهيك بالتعدديات المذهبية ضمن المسيحية الأُوروبية وغير الأُوروبية، وضمن الاسلام العربي وغير العربي، وضمن البوذية اليابانية وغير اليابانية، وناهيك بالأديان المسمّاة “بدائيّة” والتي ما تزال منتشرة بين قبائل أفريقيا وأُوستراليا وأميركا الجنوبية وسواها. وعلى غرار التعدد العرقي، طالما أدّى التعدد الديني أو المذهبي في المجتمع الواحد إلى حروب أهلية كانت من أعنف الحروب في تاريخ الجنس البشري. والصراعات الدموية التي نشأت بين الكاثوليك والبروتستانت، خصوصاً في فرنسا وألمانيا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، مثَل صارخ على هذا الأمر. وهكذا الصراع بين الهندوسية والاسلام الهندي الذي أدّى إلى نشوء باكستان “الغربية” وباكستان “الشرقية”، وهي بنغلادش لاحقاً.
تبقى أنواع كثيرة من التعدد، لعل أبرزها التعدد السياسي. ونجد حول العالم نظماً سياسية مختلفة، كالجمهوري والوزاري والاستشاري والملكي المطلق والملكي الدستوري. ويزخر القاموس السياسي بمصطلحات، قد يكون أحبّها إلى الحكام والمحكومين جميعاً مصطلح الديمقراطية، وإنْ فسّرته كل مجموعة على هواها. ومن المفاهيم السياسية ـ الاقتصادية مفهوم اليمين الرأسمالي واليَسار الاشتراكي، ومنها في الآونة الأخيرة “النظام العالمي الجديد” و”العولمة”. وهناك أنظمة سياسية تتيح قيام أحزاب وتكتلات، وأنظمة أُخرى تَمنع نشوء بعض الأحزاب أو تتقيد بالحزب الواحد. وقد عَرفت بعض الأنظمة العربية أحزاباً قومية، دينية أو علمانية، وأحزاباً إصلاحية، وأحزاباً كانت تميل ذات اليمين أو ذات اليَسار، فيما طغى على العالم العربي عموماً نظام الحزب الواحد التوتاليتاري الذي يختلط فيه السياسي والديني أحياناً كثيرة.
لكن هَبْ أنّ بعض أنواع التعددية، مع ما يرافقها من مشاكل وصراعات، كانت عديمة الوجود في مجتمع أو آخر… هَبْ أنّ أبناء مجتمع معين كانوا كلهم من عرق واحد، وهذا شبه مستحيل عملياً إلا إذا انحرفنا بمفهوم المجتمع عن معناه المقبول، أو هَبْ أنهم كانوا كلهم من دين واحد أو مذهب واحد، وهذا ممكن إذا أخذنا الانتماء بمدلوله الاسمي، فلا يتوهَّمنّ أحد أن التعددية تزول إذ ذاك من المجتمع. لأنه مع هذا كله، يبقى للتعددية معنى راسخ لا يمكن أن يزيله شيء، هو المعنى العددي(1). هكذا، كل مجتمع تعددي شاء أم أبى، وسوف يبقى على الدوام وتحت كل الظروف تعددياً شاء أم أبى، بمعنى تكوُّنه من أفراد، أي من عدد. قد يكون هذا المجتمع عربياً خالصاً أو كردياً خالصاً، مسيحياً خالصاً أو مسلماً خالصاً، سنّياً خالصاً أو شيعياً خالصاً، لكن هذا “النقاء” العرقي أو الديني لن يزيل عنه البتّة سمة التعددية.
التعددية بالمعنى العددي، إذاً، هي واقع كل مجتمع. وهذا هو المعنى الأصيل والأقوى لمفهوم التعددية الاجتماعية، حيث تبقى التعددية قائمة تحت كل الظروف، ويتعذر مَحْوُها أو تبديلها أو تعديلها. ويجدر بكل المنظِّرين في الاجتماع والسياسة والفلسفة والدين إدراك هذه الحقيقة البديهية. وهذا الادراك يَستتبع أخذ الحقيقة المذكورة في الاعتبار من جانب المخططين والمنفذين وكل العاملين في إدارة شؤون المجتمع.
II
أنواع الوحدة
لكن التعدد لا يمكن ولا يجوز أن يبقى منفلتاً من كل تنظيم أو توحيد. وما المعارف والعلوم والنظُم المختلفة التي تَوصَّل إليها الانسان سوى محاولات لاكتشاف مبادئ تتوحد حولها الظواهر. لماذا توضع ظواهر متعددة تحت اسم واحد، مثل: جيولوجي، بيولوجي، فيزيائي، علمي، سياسي، ديني، فنّي، هندي، ياباني، أميركي، فرنسي، عربي، صيني، بوذي، مسيحي، مسلم، كاثوليكي، أُرثوذكسي، سنّي، شيعي، ديمقراطي، جمهوري، شيوعي، اشتراكي…؟ أليس لأن ثمة حالات تتشابه، على تعددها وتباينها، في خصائص معينة؟ لو كان واقع الأشياء واقع تعدد مطلق، لأدّى هذا إلى التهافت وانغلاق أبواب الفهم والتفاهم بين الناس.
ثمة حاجة، إذاً، إلى اكتشاف مبادئ نظام أو وحدة في مختلف ظواهر الوجود، وأحياناً إلى افتراض مبادئ من هذا النوع أو حتى فرضها على بعض الظواهر. وأكتفي بمثلين عن هذه الوحدة، هما الشخصية على الصعيد الفردي والدولة على الصعيد الاجتماعي(2).
في تجربة كل فرد تعددية هائلة، تتعاقب فيها تيارات الزمان والمكان والأشخاص والظروف والحالات. في غياب عملية تنظيمية تضبط هذا التعدد في وحدات معينة، من الطبيعي جداً أن يصاب الفرد الذي تحصل له التجارب بالتهافُت النفسي. والكثير من الأزمات النفسية التي يعانيها بعض الأفراد ترتبط بالعجز عن تبنّيهم أو ابتكارهم قوانين توحيدية من شأنها حفظ خبراتهم المتنوعة ضمن مبادئ تنظِّمها أو توحِّدها.
إن الذين يطلقون العنان لتجارب الحياة تتقاذفهم من غير أن يتوقفوا بين الحين والآخر للتأمل فيها والبحث عن معناها يشبهون قوماً قال فيهم الشاعر تي. إس. إليوت: “كانت لنا التجربة لكن فاتَنا المعنى”(3). هذا المعنى هو بالذات ما نقصده بالوحدة أو بالمبدأ التوحيدي. وهو، بالنسبة إلى الأفراد، ذو مصادر متنوعة: فبعضهم يستمدّه من انتمائه الديني، وبعضهم من انتمائه السياسي، وبعضهم من انتمائه الفكري، فيما يستمده آخرون من تأملاتهم ومواقفهم الشخصية. حتى الذين ينادون بالعَبَث يرون في هذه العبثية أو اللامعنى نوعاً من المعنى. وبعضهم ممّن يجد معاني عظيمة للحياة مستمَدّة من مصدر ديني أو اجتماعي أو إنساني قد يَفقد المعنى على أثر خبرات معينة مثل الموت أو خيبة الأمل. وإذ يجد الفرد نفسه متروكاً وسط تعددية هائلة من التجارب لا ينظّمها أو يربطها أي رابط معنوي، فهو قد يلجأ إلى أُمور مثل الانتحار هرباً من مأزق لا قدرة له على احتماله. وفي علمَي النفس والاجتماع والعلوم السلوكية عموماً دراسات كثيرة لظاهرة الانتحار، حَدَّدت أحياناً دوافع هذه الظاهرة في فَقْد المعنى أكثر من تحديدها في اللامعنى.
وإذا كانت الشخصية مبدأ الوحدة على الصعيد الفردي، فالدولة هي مبدأ الوحدة على الصعيد الاجتماعي. بين الأمثلة التي أعطيناها عن التنوع أو التعدد الاجتماعي، ذكرنا التعدد الطبقي والعرقي والديني والسياسي. لكن كما في حال النفس البشرية، لا بدّ من أن يؤدي التعدد المطلق، أي ذاك الذي لا توحّده مبادئ معينة، إلى فوضى أو تهافت على الصعيد الاجتماعي. وهذا واقع بعض المجتمعات، حيث الأعراق المختلفة أو الأديان المختلفة أو المذاهب المختلفة أو الأحزاب والتكتلات السياسية المختلفة أقوى من الدولة. وطالما حاولت إحدى هذه الفئات أن تكون “دولة في قلب الدولة”، أحياناً بهدف فرض المبدأ التوحيدي الذي يلائمها. وطالما حصل، باسم الديمقراطية أو مفهوم الأكثرية، تغليب عرق على بقية الأعراق أو دين على بقية الأديان أو مذهب على بقية المذاهب، بهدف بثّ الوحدة في مجتمع معين. وليس من النادر تحقيق التوحيد السياسي عبر اعتماد نظام الحزب الواحد، أي حزب السلطة، وحظْر كل حزب آخر، مع ما يستتبعه ذلك من هيمنة “رسمية” على الإعلام والتعليم والجمعيات الأهلية وكل المرافق الاجتماعية. لكن في أنظمة سياسية أُخرى يتمّ التوحيد على أُسس تأمين الحرية والعدالة والمساواة للجميع، من غير إقصاء أي فئة، عرقية أو دينية أو مذهبية أو سياسية أو سواها، عن جسم الدولة.
يمكن أن تتحقق الوحدة الاجتماعية، إذاً، وفق نمطين رئيسيين: أحدهما يقوم على اقتطاع عنصر معين من عناصر التعددية الاجتماعية وبناء قاعدة الحكم عليه. وغالباً ما يحصل هذا الاقتطاع على أساس أغلبيّة ما: عرقية أو دينية أو مذهبية أو سياسية. لكن إحدى الأقلّيات قد تتولى السلطة أحياناً وتفرض إرادتها على الأكثرية. ولئن كان هذا النوع من التوحيد، خصوصاً ذاك الذي تبادِر إليه إحدى تعدديات المجتمع بحكم تفوقها العددي عرقياً أو دينياً أو سياسياً، أبسطَ الأنواع وأكثرها مباشَرةً، إلا أنه ليس أفضل أنواع التوحيد على الاطلاق. فهو يبقى بعيداً عن هدف تحقيق العدالة، مهما حاولت الفئة “الغالبة” وضع الفئات الأُخرى “في ذمّتها” وادّعت “التسامح” في معاملتها. فالتسامح، في مفهوم كهذا، ناقص جداً بل مشوَّه، إذ يرتكز إلى أن صاحب القوة أو الغلبة أو السلطة وحده في الحق أو في الحق الكامل، وأنه يتساهل مع سواه ممّن هم في بعض الحق أو حتى في انحراف عنه، لأن مبادئه، الدينية أو سواها، تملي عليه الشهامة تجاه الآخرين أو أخْذهم بمبدأ “العفو عند المقدرة”(4).
النمط الآخر من التوحيد هو ذاك الذي تتحقق فيه الوحدة الاجتماعية لا على حساب التنوع أو عبر طمس التنوع أو إضعافه، بل وسط التنوع أو ضمن التنوع. هذا يَستبعد أن تكون أداة التوحيد واحداً من عناصر التنوع. وما دمنا نتكلم عن الوحدة الاجتماعية التي تجسّدها الدولة، فهذا النمط التوحيدي يقضي بأن تكون الدولة آلة إدارية لا داعية عقيدة(5). لأنها إذا تبنّت عقيدة دينية معينة، مسيحية مثلاً، فَقدت ولاء غير المسيحيين، وإذا تبنّت عقيدة إسلامية فَقدت ولاء غير المسلمين. وهكذا إذا تبنّت عقيدة سياسية، شيوعية مثلاً أو قومية من فئة معينة. وظيفة الدولة أن تستوعب تعددية المجتمع من غير أن تطمسها أو أن تُبرز فئة، مهما غلبت عددياً، على سواها. حتى في حال انتماء كل أفراد المجتمع اسمياً إلى مذهب ديني واحد، يجب أن تحقق الدولة وحدة المجتمع على أساس تعدديته بالمعنى العددي الذي هو، كما قلنا، المعنى الأصلي للتعدد. فالإكراه لا يجوز، إنْ في الايمان وإنْ في التفسير الديني وإنْ في الموقف من العلاقة بين السياسة والدين.
هذا النمط من الوحدة الاجتماعية أو من النظام السياسي الذي نزكّيه، إذاً، وهو الوحدة في التنوع، يهدف إلى بثّ النظام والانسجام في الجسم الاجتماعي. وفي غيابه تتنافر تعدديات المجتمع وتتصارع، ويغيب السلام والأمن الاجتماعيّان لتَبرز الفوضى والحروب الأهلية، الدينية والعرقية وسواها. ولعل من الصعوبة القبض على هذا النوع من الوحدة ومحاولة تحديده وتسميته. فهو نوع من وحدة الجوهر أو الروح وسط تنوع المظاهر واختلاف الأسماء. وعندما حاول الفيلسوف البريطاني جون لوك تحديد هذا العنصر، قال إن “الجوهر شيء غامض يحمل الأعراض”(6). ولئن آثَر ديفيد هيوم الاكتفاء بالأعراض، أي بالتعددية المطلقة، والاستغناء عن الجوهر الذي يوحّدها وعن غموضه، خصوصاً لأن هذا الجوهر لا يتكشف للحواس، وهي السبيل الوحيد إلى المعرفة لدى هيوم، إلا أن جورج باركلي، وهو أحد التجريبيين البريطانيين، كان قد جَعل من مفهوم الجوهر لبّ فكره، موضحاً أن هذا الجوهر، حتى بالنسبة إلى الأشياء المادّية، هو حقيقة روحية. ثم انبرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ليعترف بفضل هيوم عليه في إيقاظه من “سُباته العقائدي” لجهة عدم القدرة على البرهان التجريبي الحسّي عن حقائق من نوع الجوهر وقانون السببية والانتظام الطبيعي، لكنْ ليشدد في الوقت نفسه على استحالة قيام أي علم وحتى أي سلوك عملي بعيداً عن هذه المفاهيم التي لا بدّ من افتراضها أو فرضها، باسم البديهة العقلية، على الوجود.
III
بيت من زجاج
رأينا أن أي تعدد بدون وحدة هو اختلال في طبيعة الأشياء، وأن أي وحدة بدون تعدد هي هكذا أيضاً. كما رأينا أن الوحدة التي تحصل على حساب التعدد هي وحدة تعسفية تُجافي، على صعيد الاجتماع البشري، المبادئ والقيم الأساسية لهذا الاجتماع، وهي الحرية والعدالة والمساواة. أما الوحدة المنشودة فهي الوحدة في التعدد. وهذا أشبه بوحدة الجوهر أو الروح أو المعنى وسط تعدد المظاهر والأسماء. وإذا كان التوصل إلى هذا النوع من الوحدة أشبه بتحقيق “المدينة الفاضلة” أو الدولة المثالية، فلا شك أن رقيّ الأنظمة السياسية يقاس باقترابها من هذا المثال.
الآن، إذا نظرنا إلى المجتمع اللبناني عشيّة الحرب الأهلية (1975)، لوَجَدنا، في لبنان ومحيطه العربي، نموذجَين لاختلال نظام الحكم ونأْيه عما سميناه رقيّاً سياسياً. النموذج العربي خارج لبنان كان يجسِّد، إلى حد أو آخر، الوحدة التعسفية المفروضة قسراً على حساب التنوع. ففي العراق، مثلاً، غلبة للمذهب السنّي على بقية المذاهب، ولمنطقة من البلاد (تأتي منها الطبقة الحاكمة) على بقية المناطق، ولعرق (العربي) على بقية الأعراق (الأكراد وسواهم)، ولحزب واحد هو حزب البعث العربي الاشتراكي على بقية الأحزاب التي لم تتمكن من العمل إلا سرّاً أو في المنفى. غنيٌّ عن القول أنه، في نظام كهذا، يغدو القمع سيّد الأحكام، حيث التصفية هي الحل الأقوى في يد السلطة للحفاظ على “الوحدة”. والمؤسف أن بعض ردود الفعل التي يشهدها العراق اليوم تمثِّل تبادلاً للأدوار بين القاهر والمقهور ضمن النهج الملتوي عينه(7).
ولئن عَرفت سورية ومصر فترات من الليبرالية والديمقراطية بأثر من الغرب، الاستعماري وغير الاستعماري، إلا أن الأنظمة العربية، من سورية إلى الجزيرة إلى مصر إلى ليبيا إلى الجزائر إلى المغرب، اتَّسمت عموماً بالسعي إلى الوحدة على حساب التعدد السياسي و/أو العرقي و/أو الديني و/أو المذهبي. وهذا أدّى، وما يزال، إلى حالات كثيرة من القمع والقهر والاضطهاد والسجن والاقامة الجبرية والنفي والاغتيال وأحكام الاعدام الجائرة وغير ذلك من انتهاك حقوق الانسان. وفي عقود الخمسينات والستينات وبعض السبعينات، أدّى إلى انقلابات عسكرية لم يكن فيها المنتصر أفضل من المنكسر بالنسبة إلى الهيمنة التعسفية. كما حمل بعض الأفراد والفئات على الانكفاء أو الهجرة أو اللجوء السياسي، مع تأسيس معارضة في الخارج أحياناً. وقد لا تكون برامج بعض الفئات المعارِضة أفضل حالاً من الفئة الحاكمة حيال اعتماد مبدأ الوحدة في التنوع.
أما في لبنان فكان الاختلال آتياً من الجهة المضادة، أي من التعددية الهائلة التي لا يربطها رابط أو يوحّدها مبدأ معين. كل شيء في لبنان كانت تسيّره الطوائف، وما برحت تسيّره الطوائف إلى حد بعيد، هو حد انعدام الولاء الوطني العامّ وإعلاء الولاء المذهبي فوق كل ما عداه. على سبيل المثال، التعليم كان في أيدي الجمعيات الطائفية، التي تربّي الأجيال الطالعة وفق تطلعات وقيم ومواقف متنافرة، بحيث لا تَجمع بين أفرادها نظرة واحدة إلى الوطن والعالم والانسان. وعندما وَجد بعض المنظِّرين توليفة سعيدة في توحيد كتاب التاريخ، صَدر هذا الكتاب بعد جهد جهيد، بمساومة من هنا ومساومة من هناك، حتى لفظته المطابع ميتاً في نهاية المطاف.
وبلغت الطائفية اللبنانية ذروتها في الإطباق على كل المرافق والوظائف. وراح معظم مَن يُسمّون “رؤساء طوائف” يدافعون عما يعتبرونه حقوقاً أصيلة أو مكتسَبة لمن انتمى اسمياً إلى طوائفهم، أو بالأحرى عشائرهم، في الحصول على هذه الوظيفة أو تلك. ومع الوقت قويت التجمعات الطائفية حتى كسفت المجتمع الواحد وكوَّنت كل منها مجتمعاً. وراجت في الحرب الأهلية وفي أعقابها مقولات من نوع “المجتمع المسيحي” و”المجتمع الاسلامي” و”المقاومة الاسلامية”. وإذ راحت بعض الفئات المسيحية، انطلاقاً من شعورها بالتقلص العددي، تعزز مفهوم التعددية، وَجدت بعض الفئات الأُخرى، المتفوقة عدداً، في هذا المفهوم ما يعارض مصالحها. ولعلها كانت تتوق إلى فرض نموذج الوحدة التعسفية التوتاليتارية على لبنان، أُسوةً بالأنظمة التي تُلهِمها وتُمِدّها بالعَون. ومع خمود نار الحروب الأهلية، غدا مصطلح التعددية أكثر مدعاةً إلى القبول من فئات رفضته سابقاً. لكن في غياب دراسات علمية رصينة، فلسفية وسلوكية وسياسية ودينية وغيرها، لهذا المصطلح ومعانيه التي قد تكون مختلفة كثيراً في ما بينها تبعاً للمجموعة المذهبية أو السياسية التي تستعمله وللدوافع إلى قبوله بعد رفض طويل، لا يجوز البتّة الاطمئنان إلى أن كل هذه الفئات باتت تتبنى مفهوم الوحدة في التنوع.
بالعودة إلى عشيّة 1975، نجد أن الدولة كانت مرآة للتعدد الاجتماعي، خصوصاً المذهبي، بدلاً من أن تكون منارة للوحدة. وبما أن التعدد من غير وحدة يؤدي إلى التهافت، فقد حصل هذا فعلاً، وكانت أقسى نتائجه الحرب الأهلية. من هنا لا أُوافق الذين يكتفون بتسمية هذه الحرب “حرب الآخرين على أرض لبنان”. صحيح أن هؤلاء “الآخرين”، من أنظمة عربية وغير عربية وقوى كبرى، موَّلوا وسلَّحوا ودرَّبوا وحرَّضوا، لكنهم فعلوا هذا كله مع فئات لبنانية، مستغلّين هذه التعددية المطلقة بالذات، وهي التعددية التي لا يربط بين عناصرها رابط قوي، لتأجيج التناقض والتنافر والصدام، والسعي أحياناً إلى الهيمنة، أي إلى تحقيق وحدة تعسفية عبر فرض أحد عناصر التعدد على المجتمع بأسره.
إنّ مثَل المكتفين بمقولة “حرب الآخرين على أرض لبنان” يشبه مثَل القائلين بأن لوحاً من الزجاج كُسر لأنّ حجراً أصابه. بديهي أن هذا التفسير جزئي وخاطئ. فانكسار الزجاج لا يفسره العامل الخارجي فقط، وهو الحجر، بل تفسره أيضاً، وعلى وجه الخصوص، طبيعة الزجاج، أي زجاجيّته أو قابليته للانكسار. لقد كان لبنان عشيّة الحرب الأهلية، وما يزال إلى حد بعيد جداً، أشبه ببيت من زجاج. ولو كان هذا البيت من حجر أو من حديد لما كُسر بهذه السهولة أو لما كُسر أبداً. وأحسنَ بعض علماء الاجتماع عندما وصفوا المجتمع اللبناني بأنه “فسيفسائي” أكثر منه تعددياً(8)، لأن الفسيفسائية تشير إلى تعددية مطلقة، في حين أن التعددية السليمة تنطوي على مفاهيم النظام والانسجام والوحدة.
IV
الدين والقومية
اليوم يجد اللبنانيون أنفسهم معلَّقين بين عالمين، أحدهما مات والآخر لم يولد بعد. التحدي هو الآتي: كيف تتحقق الوحدة ويبقى التعدد؟ كيف نصون التعدديات ونجعل منها عامل استقرار بدل أن تكون عامل فوضى وصدام؟ ما هو نموذج الحكم المنشود، الذي تكون فيه الدولة وحدة وسط التنوع؟
لنأخذ نقطة انطلاقنا من العامل الطائفي بما أن له اليد الطولى على صعيد السياسة والوظيفة والشأن العام في لبنان. ما هو شكل الحكم اللبناني الكفيل بتحقيق الوحدة وسط تنوع الأديان والمذاهب؟ طبعاً، كلامنا عن وحدة في التنوع يستثني أن تتولّى طائفة معينة عملية التوحيد باسم تفوقها العددي وبما يخدم مصالحها الشكلية. ومن الخطأ الفادح أن يظن بعضهم، من مسلمين معظم الأحيان ومن مسيحيين أحياناً، أن المسيحية لا تَرفع تحدياً حقيقياً في وجه قيام دولة إسلامية في لبنان لأن المسيحية، حسب ظنّهم، دين يحصر اهتمامه بالآخرة، وليس ديناً ودولة كالاسلام(9). إن المسيحية والاسلام، وكذلك اليهودية والهندوسية والبوذية والزردشتية والكونفوشيوسية وكل دين بلا استثناء، هو، بمعنى عميق جداً، “دين ودولة” في آنٍ معاً. فالدين نظرة إيمانية شاملة إلى الوجود، تتناول كل شيء في حياة الانسان، بما في ذلك المجتمع والسياسة والدولة، ولا تبقي شيئاً خارجاً.
ولئن أعلنت المسيحية تمسكها بالسماويّات في قولها: “ليس لنا هنا مدينة باقية”(10)، فالاسلام يؤكّد هذا الاعلان عبر قوله بأنّ “الآخرة خيرٌ وأبقى”(11). وهذا مصداق لقول المسيح: “مملكتي ليست من هذا العالم”(12)، الذي يفصله بعضهم عن سياقه ويدعمونه بقول آخر للمسيح: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه”(13)، ليستنتجوا خطأً أن المسيحية غير معنية بهذا العالم. والأحرى أن المسيحية والاسلام وكل الأديان “ليست من هذا العالم”، بل هي من السماء أو من اللـه، لكنها وُجدت لهذا العالم أو من أجله، كي تحوّله بل تعيده، كما تستوجب النظرة الايمانية، إلى ملكوت أو ملك للّه، عبر كل الوسائل الممكنة، بما فيها سياسة المجتمع وإدارة الدولة ونظام الحكم.
لكن إذا كانت المسيحية ديناً ودولة والاسلام ديناً ودولة واليهودية ديناً ودولة والهندوسية ديناً ودولة والبوذية ديناً ودولة وكل دين، بمعنىً، ديناً ودولة، فلأيّ دين تحقّ سلطة الحكم في مجتمع ما؟ إلى حد كلامنا عن لبنان، حيث لا أكثرية غالبة مذهبياً بقوّة، من غير العدل أن يكون لمذهب معين الكلمة الفصل في الحكم. لكنْ وإنْ كان لبنان، أو غير لبنان، من غالبية مذهبية معينة، وحتى لو انتمى المواطنون إلى مذهب واحد، يبقى الحكم الديني غير مستحَبّ لتَعدُّد التفسيرات والاجتهادات والمذاهب الفقهية، ولأن الايمان لا يُفرَض بقوانين، ولأن الحكم باسم اللـه يتولاّه بشر لهم حدودهم وأهواؤهم ومصالحهم. وفي كل مكان عَرَف الحكمَ الديني، كائناً ما يكون اسم الدين، تزخر صفحات التاريخ بأخبار حكّام رَوَّعوا شعوبهم وشعوباً أُخرى وقمعوها واضطهدوها باسم الدين وتفسيراته القويمة، وبأخبار حركات “تصحيحيّة” انقلب فيها حاكم على آخر دموياً وحصلت كلها تحت شعار “الخط القويم”. وأتذكّر هنا قولاً للفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ: “حيثما أُقيمَ الحق على السلطة الإلهيّة، يمكن تبرير أشد الأُمور سوءاً وظلماً”(14). وإذا كان الحكم باسم اللـه ظالماً للبشر، فهو بهذا يَهزم الدين وقضيته، كما يَظلم اللـه لأنه يحمّله نقائص الحكام وموبقاتهم.
لنذكر على الدوام أن كل مجتمع تعددي، شاء أم أبى، بالمعنى العددي، أي معنى تكوُّنه من أفراد، وأن لكل من هؤلاء الأفراد ـ وإن انتموا إسمياً إلى مذهب واحد ـ موقفه من الايمان وفهمه وتفسيره للنصوص الدينية ونظرته إلى السياسة ونظام الحكم والعدالة الاجتماعية. وهدف الدولة إتاحة أفضل الظروف أمام جميع الأفراد الذين يتكون منهم النسيج الاجتماعي لكي يحققوا ذواتهم ويتعايشوا بسعادة وطمأنينة وسلام.
في سعي الأفراد والشعوب نحو هذه المطالب خلال التاريخ، تبيَّن أن أفضل الأنظمة الاجتماعية أو السياسية الكفيلة بتحقيقها هي تلك القائمة على قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان. وهذا عين ما يدعو إليه لا دين بعينه بل كل الأديان، التي تتلاقى على أن أعلى ما في الانسان كرامته، وهي آتية من كونه مخلوقاً على صورة اللـه ومثاله. والدولة التي تنتهج هذه القيم من دون إعلاء دين على دين آخر أو مذهب على مذهب آخر أو موقف إيماني على موقف إيماني آخر أو تفسير على تفسير آخر هي الدولة الدينية الفعلية. وهذه أقرب إلى جوهر الدين من الدولة الدينية الاسمية، أي تلك التي تكتفي بالتفاصيل والقشور في حين تنتهك مبادئ الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان حفاظاً على أسماء ومظاهر مفرغة من محتواها.
وإذا كانت “العلمانية القاسية” أو “المتطرفة” هي تلك التي لا تكتفي بفصل الدين عن الدولة بل تحاول إقصاءه عن المجتمع، و”العلمانية الليّنة” أو “المعتدلة” هي تلك التي تفصل الدين عن الدولة لمصلحة الدولة والدين كليهما، فما سميناه “الدولة الدينية الفعلية” يتلاقى مع النظام السياسي العلماني بالمعنى الليّن أو المعتدل(15). وإذا استطاع نظام الحكم الانسجام مع جوهر الدين فهو إنما يساهم في تحقيق أهداف الدين بعيداً عن التحجر ضمن شكليات لم ينتج منها سوى الويل خلال التاريخ، الأمر الذي يخون قضية الدين.
ثمة مسألة رئيسية أُخرى ذات علاقة بمفهومَي التنوع والوحدة: كيف تكون الدولة في لبنان أداة توحيد وسط ثلاث دعاوى قومية مختلفة تتوزع على معظم الأحزاب السياسية وتنادي بالقومية اللبنانية والقومية السورية والقومية العربية؟ صحيح أن الحميّة القومية، في لبنان وحول العالم، شهدت ضعفاً أكيداً مع بداية الألفية الثالثة وسط دعوات العولمة وهيمنة القوة الأحاديّة التي تمثلها الولايات المتحدة الأميركية، وبعد الخيبات الكثيرة التي عرفتها الحركات القومية حول العالم. لكن تبقى التوجهات القومية للحركات السياسية في لبنان، خصوصاً في غياب التنظير المتفاعل مع الوضع العالمي الجديد، أسيرة أُطرها التقليدية عموماً. وإذا كان لكل من هذه الدعاوى القومية جذور تاريخية راسخة، فليس معنى هذا أن تتصارع الأحزاب القومية للسيطرة على الدولة، حيناً باسم القومية “الأقدم” في تاريخ لبنان، وهي السورية، أو باسم القومية المرتبطة بالغالبية العددية السنّية في المنطقة، وهي العربية، أو باسم قومية العصور الحديثة، وهي اللبنانية.
لكل من هذه الدعاوى القومية، كما قلنا، جذورها التاريخية. وإذا استطاعت إحداها تولّي الحكم في لبنان عن طريق حزب أو آخر من الأحزاب التي تمثلها، فالخوف من غلبة القوميين العرب، مثلاً، أو السوريين بالنسبة إلى القوميين اللبنانيين آتٍ من القضاء على الكيان اللبناني عبر تذويبه في جسم أكبر، مع ما قد يستتبعه ذلك من إخضاع للمسيحيين تحت راية إسلامية. وخوفُ القائلين بالقومية السورية من غلبة الدعوى اللبنانية الانعزالُ في الحاضر والتنكر للماضي، ومن غلبة القومية العربية إحلالُ الدولة الدينية مكان الدولة المدنية أو العلمانية. كل فئة، بدورها، تخشى أن يؤدي انتصار سواها إلى خيانة التاريخ الذي تظنه منحازاً إليها، هذا التاريخ الذي، كما في تعبير الشاعر تي. إس. إليوت مرة أُخرى، “قد يكون عبودية وقد يكون حرّية”(16).
إن هويّة شعب ما تأتي لا من ماضيه فحسب، بل من حاضره ومن مستقبله أيضاً، أي مما هو اليوم ومما يودّ أن يكون. لذلك يجدر أن تلطِّف الأحزاب “الجغرافية” في لبنان، وهي تلك التي تختلف في ما بينها حول تحديد حدوده، من غلوائها التاريخية. فالسؤال الذي طرحه أنطون سعادة يوماً، بمنهجيته العلمية الرصينة، “مَن نحن؟”، وأجاب عنه بأننا “سوريّون، والسوريّون أُمّة تامّة”(17)، يمكن أن يأتي جوابه أننا “عرب” أو “لبنانيّون”. كما لا تكفي الاجابة عما كنّاه يوماً لتقرير ما يجب أن نكون في المستقبل القريب أو البعيد.
المطران جورج خضر، بروحانيته الأصيلة ورؤيويّته العميقة وثقافته الواسعة، لاحظَ هذا الأمر وعالجه في غير موضع(18). وكتب أنّ “عقْدتنا هذه الرقعة الصغيرة التي نعوِّض عن ضيقها بتوسيع تاريخنا، برجوعنا إلى الماضي السحيق وقد انقطع أكثر من سبب بيننا وبينه”(19). وهاله أنّ التاريخ يبتلع شعبنا الذي “يتعبَّد له حتى الأسر… وكأن هويّة الجماعات لا تذاق إلا في الذاكرة. لا أحد منا يفتش عن هوية يريدها مكونة من تطلعاته”، إذ “الهوية أصلاً في ما نعمله. تنشأ من الحرية”(20).
لكن إذ لا يمكن لكل الدعاوى القومية الثلاث أن تمتلك لبنان في آنٍ معاً، كما لا يجوز لإحداها امتلاكه عنوةً وإخماد الدعويَين الأُخريَين، يبدو أن الحل المنسجم مع مبدأ الوحدة في التنوع هو ذاك الذي يبقي هذه الدعاوى حية لدى اللبنانيين، لكن من غير أن تكون إحداها ملغيةً للأُخرى أو مقصورة على فئة من اللبنانيين دون سواها. إن شرط إبقاء هذه الدعاوى حية، إذاً، هو تجريدها من إلغائيتها القومية والاحتفاظ بمحتواها الحضاري. فاللبنانيون كلهم “لبنانيون” وكلهم “سوريون” وكلهم “عرب”. ويمكن أن يظهر الوفاء لهذا الواقع التاريخي في نظام عصري متطور للحكم يعزز إنجازات لبنان في الديمقراطية والحرية والتربية والثقافة والإعلام والاقتصاد وغير ذلك، وتنتصر فيه هذه الدعاوى الحضارية، بسلام وانسجام، عبر نظام تربوي تجسّده كتب التاريخ والانسانيات على وجه الخصوص، كما تجسده سياسة الدولة العامة وأحلافها وولاءاتها.
صحيح أن لبنان كيان محْدَث أدّت إلى إنشائه ظروف معينة، وأنه قبل ذلك الحين كان جزءاً من كيان أكبر. غير أن المسيرة التي اختطَّها هذا الكيان الحديث لنفسه في المناحي المذكورة، السياسية والاقتصادية والتربوية والإعلامية وسواها، على ما شابَ هذه المسيرة من نقائص ومساومات وعيوب واستئثار أحياناً، جعلته طليعة البلدان العربية في اعتماد قيم الحرية والعدالة والمساواة، وجعلت منه نموذجاً في مجالات كثيرة، يجدر بكل بلد عربي أن يحتذيه عندما يقرر هذا البلد أو ذاك أن يضع نفسه على خريطة العالم المتحضر(21). لا بل إن لبنان، كما قال أنطون سعادة، إذا كان نوراً، وهو حقاً هكذا، فأحرى بهذا النور أن يشعّ ويَشيع في كل ما حوله(22).
ثمة حاجة، إذاً، إلى لبنان الكيان، لا لأنه “أزَليّ” كما يتبجَّح بعضهم، بل لأنه أثبت أنه ضرورة لا يستغنى عنها في المجالات التي تحقق إنسانية الانسان عبر احترام حريته وكرامته. إنه لمن قبيل الكفر أن نزعم أنّ أي كيان غير اللـه الخالق يتمتع بالأزلية، أي أنه كان في البدء، قبل أن يكون أي شيء آخر. الأزلية صفة الخالق وحده… “أفَمن يَخلق كمن لا يَخلق؟”(23).
وكما أن كل شيء وُجد في الزمن يخضع لأحكام الزمن، فما ليس أزلياً يستحيل أن يكون أبدياً. لذلك كان استمراراً لمنطق الكفر نفسه نَعْتُ لبنان، وأي وطن آخر على وجه الأرض، بالأبدية. وحده لا نهاية له مَن لا بداية له، أي اللـه تعالى. ولئن كانت الأوطان قديمة جداً في التاريخ، فهي، على قِدَمها، تبقى حادثة في الزمن وخاضعة لأحكامه وحركته. لذلك تخيفني فكرة “الوطن النهائي” التي ابتكرها نفَر من المسيحيين وأقرّوها في مؤتمر الطائف، أو بالأحرى صلح الطائف، كي يردّوا عنهم خطراً طالما أخافهم، هو خطر إلغاء الكيان اللبناني عبر ارتهانه أو إضعافه أو تذويبه في وحدة سوريّة أو عربية من شأنها تأكيد أقليتهم العددية ووضعهم في ذمّة سواهم والقضاء عليهم شيئاً فشيئاً. وكان أن قبل هذا النفر المسيحي بعروبة لبنان إزاء قبول مواطنيهم المسلمين بكَون لبنان وطناً “نهائياً” لجميع أبنائه.
اليوم إذ تنحسر، مع الأسف، دعاوى العروبة حول العالم العربي باسم تجمعات مذهبية أو عرقية أو سواها، أرى لزاماً على المفكرين الاجتماعيين والسياسيين وعلى المثقفين عموماً العمل من أجل إعادة تحديد مفهوم العروبة، وهو وحده الكفيل بإقامة الوحدة السليمة وسط التنوع في العالم العربي وتأسيس كيان عربي قوي يَتَّخذ شكلاً أو آخر من أشكال الاتحاد الاقتصادي ـ الثقافي ـ السياسي. والمعنى المنشود للعروبة يتجاوز العرقية، بحيث يكون أكراد العراق عرباً لا أقل من سواهم، وبربر المغرب عرباً لا أقل من سواهم، والسريان والأرمن في بلاد الشام عرباً لا أقل من سواهم، ويهود فلسطين عرباً لا أقل من سواهم… كما يتجاوز الطائفية ليكون السنّة والشيعة والمسيحيون بمختلف مذاهبهم وكل الفئات الدينية فوق الأرض العربية عرباً بالتساوي.
وما دمنا في ذكر العروبة، فلا يجوز أن ننسى دَور المسيحيين الجليل في صنع النهضتين العظيمتين فوق هذه الأرض: النهضة العربية الأُولى خلال العصر العباسي، والنهضة العربية الثانية في العصر الحديث، التي كان للُّبنانيين اليد الكبرى فيها. ويصف المطران جورج خضر هذه العروبة الحضارية بأنها “عروبة بيضاء لا تتنكّر للتراث الشرقي القديم ولا للانسان المعاصر المبادر، وذلك في رقعة عربية تضيق أو تتَّسع”(24). أجل، “تضيق أو تتّسع” لأن الأوطان لا يمكن أن تكون “نهائية” ولا “أزلية” ولا “أبدية”، مهما امتدّ ماضيها وأَوغل في حقَب التاريخ “غير الجليّ”(25). ويعلن المطران خضر رفضه أن تكون “مشكلة الانسان الأخيرة مرتبطة بكيان أرضي”(26)، وأنه “يكره فكرة الوطن المسيحي” لتَمسُّكه “إلى أقصى حد باستقلال المسيحية عن كل أرض وعن كل حضارة… المسيحيون، في النهاية، غرباء، لا يتوَطَّنون. إنهم السؤال الملحاح يُطرَح على كل كيان”(27)، إذ “المهمّ في الأوطان مضمونها الروحي، قربانها الانساني”(28). لذلك وَجد أن “الأهم من بحث الكيانات العربية وتوحيدها أن نعرف مضمونها الروحي ولون الثقافة فيها”(29). ويرى أن حاجة الانسان إلى وطن لا تتعدى الحاجة “إلى مدى ينتقل فيه، إلى رمز. وقد تكون البطولة في البقاء إذا كنا دائماً واقفين على أرض غربة”(30).
هذا النوع من الفكر واللغة والثقافة نادرٌ جداً أن نجده في مجتمعنا، وأكثر ندرةً أن نجده عند رجل دين. من الطريف أن يتصدّى دارسون أكاديميون لتحليل الخطاب الديني والأدبيات الدينية العربية لدى كل الناطقين باسم الأديان والمذاهب. والراجح في هذا النطاق طغيان اللغة التقليدية والمفاهيم الموروثة وغياب الثقافة العصرية. أما جورج خضر فقد أقبلَ على الثقافة والكتابة برسالة واعية، واصفاً مهمّته كمن يتكلم بضمير الغائب: “رأى أن المسيحية التي صمتت كثيراً بسبب الرزوح آنَ لها أن تتكلم الآن عن نهضة بلسان عربي فصيح. وقد رَفض قول القائلين أنْ أبَت العربية أن تتنصَّر”(31). ولئن كان هذا الفكر موجَّهاً إلى كل اللبنانيين وكل العرب، وكذلك إلى كل قارئ، فهو منطلِق من إيمان مسيحي وموقف مسيحي مسؤول. وهو باكورة ما يمكن أن يسمَّى فكراً أُرثوذكسيّاً عربياً، كان جورج خضر مبدعه ومطْلقه، وما يزال، كما أرى، ممثله الأوحد.
هناك علمانيون أُرثوذكس سبقوا جورج خضر وكانوا طليعة ثقافية ـ فكرية ـ نهضوية في العالم العربي. ولعل أبرز هؤلاء أربعة، هم: أنطون سعادة، شارل مالك، قسطنطين زريق، ميخائيل نعَيمة(32). وقد تفاوَت هؤلاء في مواقفهم القومية، فدَعوا، على التوالي، إلى: القومية السورية، القومية اللبنانية، القومية العربية، الانسانية الحضارية الجامعة المستقلة عن القوميات وإن ارتبطت بالموروث اللغوي الثقافي. هذا التنوع في مواقف الأُرثوذكس القومية جعل المطران خضر يصرِّح مراراً، خصوصاً إبّان الحرب الأهلية في لبنان، أن الأُرثوذكس “كنيسة، لا قبيلة”(33).
إلى المفكرين الأربعة المذكورين، لمعت أسماء كثيرة لمثقفين ومفكرين وأُدباء وشعراء وصحافيين ومناضلين أُرثوذكس في الوطن والمهجر، ناصروا القضايا العربية وناهضوا الاستعمار. لكنْ يميِّز هؤلاء جميعاً عن جورج خضر أنهم كانوا علمانيين لا رجال دين. إنهم أُرثوذكس و مفكرون، أو مفكرون صَدَف أن كانوا من الطائفة الأُرثوذكسية(34). أما هو فكان مفكراً أُرثوذكسياً بل، كما قلنا، مبدع ما يمكن أن يسمى الفكر الأُرثوذكسي العربي. وهو، في فكره هذا، لم ينحرف طبعاً عن لاهوت كنيسته الذي وَجد أروع تعبير عنه لدى تلك المجموعة من المفكرين المعروفين بِـ “آباء الكنيسة”، وبرز منهم أنطاكيّون سوريّون يمكن اعتبارهم، حسب مقولة العروبة الحضارية، عرباً قبل التعريب، إذ نشأوا على أرض أصبحت لاحقاً عربية. وخوفاً من طمس أي روافد تراثية من هذا النوع، الأمر الذي يؤدي إلى تغريب بعض المجموعات الدينية وسواها عن جسم العروبة، رأينا المطران خضر يدعو إلى “عروبة بيضاء لا تتنكر للتراث الشرقي القديم”. وإذ نتأسف لأن الفكر “الآبائي” الشرقي لم يجد طريقه بعد إلى الإحياء العصري المنهجي عبر نقله إلى العربية ودراسته على أيدي اختصاصيين(35)، علماً أن الاختصاص اللاهوتي المحض في هذا المجال لا يجدي بانفصال عن الفيلولوجيا والفلسفة والانسانيات عموماً، تكفي الاشارة إلى أن ما خَلَّفه جورج خضر من كتابات غزيرة متنوّرة يؤكد أن الفكر الآبائي لم ينقطع، وأن صاحبنا واحد من كبار آباء الكنيسة المعاصرين.
V
مفهوم الوطن والمواطَنة
لا التعدد المطلق من دون وحدة، إذاً، كما رأينا في مثَل لبنان، ولا الوحدة التعسفية على حساب التعدد كما رأينا في مثَل البلدان العربية خارج لبنان ـ لا هذا ولا ذاك يشكِّل فلسفةً لنظام سياسي سليم. لكننا نجد هذه الفلسفة، كما رأينا، في مفهوم الوحدة في التعدد. وإذْ يبقى ضرورياً جداً أن يعالَج هذا المفهوم على أيدي المثقفين ولا سيما المشتغلين في الفلسفة الاجتماعية والسياسية، فإننا نتمسك بنموذج الوحدة الذي أعطيناه على صعيدَي الدين والقومية. ونكرر أن الدولة العلمانية التي دعَونا إليها هي الدولة الدينية “الفعلية” تمييزاً لها عن الدولة الدينية “الاسمية”. فهي لا تتبنى اسماً دينياً معيناً لئلا تستعدي عليها المواطنين المنتمين إلى أسماء دينية أُخرى، ولئلا تَفرض أي إيمان أو أي تفسيرات دينية خاصة على مواطنيها وإن انتموا اسميّاً إلى مذهب واحد، ولئلا تحمِّل اللـه وأنبياءه ورسله أوزار الحكام ومحدودياتهم. لكنها، في الوقت نفسه، تنتهج مبادئ الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان، “لأنّ هذا”، في أي حال، “هو الناموس والأنبياء”(36).
أما نموذج الوحدة القومية بما يخص لبنان فهو إبقاء الدعاوى الحضارية السورية والعربية واللبنانية جميعاً حية، تربوياً وثقافياً وإعلامياً وسياسياً واقتصادياً، لكن بعيداً عن رفع القومية أو الأُمّة أو الوطن إلى مقام الأُلوهة بإغداق صفات عليها من نوع “الأزلية” و”الأبدية” و”النهائية”. حقّاً لقد حَقَّق لبنان إنجازات نهضوية، ثقافية وتربوية وإعلامية واقتصادية وسياسية، جعلته طليعةً في العالم العربي ونموذجاً يُحتذى في مجالات كثيرة. إلا أنه، لاتّباعه الحرية المطلقة وإطلاقه عنان التعدديات من غير ضوابط تؤلف في ما بينها، قَوّى نزوع بعض الفئات، الدينية وسواها، إلى التملص من سلطة الدولة المركزية وقوانينها والتصرف كما لو كانت “دولة في قلب الدولة”. وهذا من شأنه أن يبقينا في التعددية الفوضوية المطلقة التي تحيل الدولة دولاً أو دويلات ويُحِلّ شريعة الغاب ـ مهما بدت الشرائع الخاصة جليلة في أعيُن أصحابها ـ مكان حكم القانون، ويضعِف مفهوم الوطن والمواطَنة.
ما يحتاج إليه لبنان لتحقيق الوحدة في التعدد على الصعيد السياسي هو دولة مركزية قويّة تجسِّد مفاهيم الوطن والمواطَنة. الايمان الديني لا يشكِّل قضية على هذا الصعيد. وهذا يفسر قول الانجيل بإعطاء ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه. وفي القرآن آيات عدّة تشير إلى هذا الأمر، منها: “فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر”(37)، و”لا إكراه في الدين”(38). وفي إحداها يخاطِب اللـهُ تعالى نبيَّه ورسوله محمداً بقوله: “أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين؟”(39). المطلوب، لحسن عمل الجسم الاجتماعي، قوانين تضمن الحرية والعدالة والمساواة وتردع تعديات الناس بعضهم على بعض، بصرف النظر تماماً عن تنوّعات إيمانهم وتجاربهم الدينية. ولئن كان لهذا الايمان آثار إيجابية في تعزيز مفهوم المواطَنة الواحدة وسط مواقف المواطنين المختلفة من الدين والايمان، فليبذل ذوو الايمان ورعاتهم كل ما في وسعهم لتربية هذا الحس الديني النبيل في ذواتهم ولدى الرعية. بكلام آخر، إذا كان الايمان الديني يعزز احترام القوانين المدنية والسلم الاجتماعي بجعله المؤمن مواطناً صالحاً يحترم القوانين ويحفظ الوعود والعهود أكثر من سواه، فهذا، في أي حال، يقع ضمن مسؤولية المؤمنين ورعاتهم. لكن يبقى أن ما يعني المواطن من مواطن آخر ليس دينه وإيمانه، بل احترام حريته وكرامته وعدم التعدي عليه.
إن مفهوم المواطَنة في لبنان لا يمكن أن يتعزز وسط تطلع بعض فئاته الطائفية خارج حدود بلدهم لاستلهام مواقف قد تعرقل سياسة الدولة المركزية، وإن باسم الدين أحياناً. كما لا يمكن أن يتعزز هذا المفهوم وسط دعاوى قومية مختلفة يشدّ كل منها في اتجاه على نحو لا يمكن أن ينتج عنه سوى تمزيق الجسم الاجتماعي. لذلك كان من أشد أُمور الاصلاح السياسي إلحاحاً إصدار قانون جديد للأحزاب، يقام على القضايا الاجتماعية الاصلاحية ويؤخَذ فيه الكيان اللبناني كأمر مفروغ منه، وتُمنَع تلك الأحزاب “الجغرافية” التي تقوم دعواها الأساسية على رسم حدود لبنان، وتلك التي تشكك في شرعية الكيان اللبناني، كما تُمنَع الأحزاب “الطائفية” التي تقتصر عضوية أفرادها على دين واحد أو مذهب واحد. والمضحك في بعض هذه الأحزاب حالياً أن قادتها يتشدقون بقانون انتخابي وقوانين اجتماعية أُخرى تحقق ما يسمونه “الانصهار الوطني”. لكن كيف يتحقق انصهار من هذا النوع ما لم تقدِّم أحزابهم أولاً، وهي نموذج مصغر للوطن، المثال الصالح عن هذا الانصهار؟ إن مثال الوطن المنشود لا يمكن أن يتحقق قبل إلغاء الأحزاب والتجمعات الفئوية والطائفية، مع كل امتيازاتها وحساباتها ومحسوبياتها.
لقد أرهَقَنا الدين وأدعياؤه في لبنان، حتى كادت عبارة “الدين” تقتصر على مدلولات سلبية لكثرة ما استغلوها لمآرب خاصة. إذا سُئلتُ عن أنبل كلمة في القاموس لأجبتُ: “الدين”، وعن نقيضها لأجبتُ أيضاً: “الدين”. ذلك أن الدين، حسب استخدام الناس له، أي حسب تمسكهم بجوهره الصحيح أو بقشوره التي أقحمها منحرفوهم عليه لخدمة مصالحهم الإلغائية، هو مصدر خير كما هو مصدر شر. أعطِني “ديناً” ـ لا سمح اللـه ـ خالياً من الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان والمحبة والسلام، وأعطِني من ناحية أُخرى نظاماً تحت أيّ اسم، لكنْ نظاماً قائماً على هذه القيم، فلا شك أني أرفض الدين الاسمي وأختار ذاك النظام الآخر ديناً فعلياً. وهنا أعود إلى المطران خضر، داعياً كل الناطقين باسم الأديان إلى الاقتداء به في نَفْيه صفة القبَلية عن الجماعة الايمانية، وفي تمييزه بين “أهل اللـه” الذين هم “قلّة عزيزة” و”أهل الدين” الذين هم “كُثر”(40)، وفي نقده الكنيسة، أو المؤسسة الدينية عموماً، بمعناها الاسمي أو الشكلي، إذ رأى “استمرار البلادة والجهل والخنوع وانعدام الشخصية في صفوفها، كأنها المكان الأمثل لدحر العبقرية وإطفاء الموهبة”(41)، وفي إعلانه عن تحرره “من هذه الديانة الكَذوب” التي كانت “حقاً أفيوناً للشعوب”(42).
التحدي الأكبر الذي يواجه اللبنانيين اليوم هو خَلق الوطن اللبناني والمواطن اللبناني. وطن يكون فيه الناس، بكل أديانهم وطوائفهم ومواقفهم من الدين والايمان والشؤون الأخيرة، وبكل أُصولهم العرقية والإثنيّة، مواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات والكرامة الانسانية. وإذا كان لبنان قطع شوطاً على هذه الطريق لكن ما تزال تعترض طريقه عراقيل، فإن تخطّي هذه العراقيل لن يحصل إلا بخطوة، لا بل قفزة، جريئة. وهي قفزة لا يأخذها الرافضون عادةً ولا المترددون، بل تؤخذ عنهم. والتردد حيال قفزة جريئة من هذا النوع آتٍ من خوف المترددين إن هم تحولوا إلى مواطنين أن يَفقدوا ما يظنونه امتيازات تأتيهم من وضعٍ قبَليّ يتيح لهم الانحراف عن قوانين الوطن الواحدة واتّباع نهج غامض يتولّون مَلء فراغاته، كلما دعت الحاجة، على النحو الذي يخدم مصالحهم. وهذا يعني إبقاءَ لبنان ضمن شريعة الغاب، والنأيَ به عن حكم القانون، وفقدانَ الارادة لتأسيس وطن والمشاركةِ في المجتمع المدني بصفة مواطنين.
إن لبنان بعد الحرب الأهلية لا يمكن ولا يجوز أن يستمر في أخطاء كانت سائدة قبل هذه الحرب، لا بل كانت من الدوافع إليها. وأقسى تلك الأخطاء ما كان يعرقل تحقيق مثُل المجتمع المدني والوطن العصري، ويمنح الطوائف كل الامتيازات التي تعطل حياة المواطنين الموحَّدة ضمن روابط المواطَنة فوق أرض الوطن. وإذا كانت بعض الفئات لا تستطيع التملص من الماضي بل تحاول التشبث بعقلية الامتيازات الطائفية وعرقلة نشوء الدولة المدنية، فالحل المطلوب ثورة “من فوق”، تُفرَض على الكل فرضاً للخروج من الظلمة إلى النور تحت قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان، هذه القيم التي تجسدها وترعاها دولة مركزية قوية تكون مثال الوحدة في التعدد على الصعيد الاجتماعي.
كثيرةٌ هي الوسائل لإيجاد دولة من هذا النوع وبسْط سلطانها، ولن نبحثها في هذه الدراسة(43). لكن يجدر أن نختم بذكْر بعض صفات الحاكم الذي يستطيع إحداث القفزة الجريئة المنشودة من “المزرعة” إلى “الدولة”، من الفوضى إلى النظام، من شريعة الغاب إلى حكم القانون. وفي مقالات افتتاحية ثلاثة نشرها المطران خضر حديثاً في صحيفة النهار، تساءل: “متى يصبح لبنان مدينة اللـه؟”(44). ورفضَ أن تأتي هذه المدينة، التي يجب أن نبنيها فوق أرضنا كلها: “على الجبال وفي السواحل”، من “حلف الطوائف الذي يبدو في الأُفق”، لأنه يقتل الوطن(45). وكان، في المقال الأول من هذه السلسلة(46)، عَرَض صفات الحاكم المرجو لنهضة لبنان، قائلاً إن “الأقدر على المحبة والفهم هو الأقدر على المسك بالسلطة التي هي مقام الخدمة”، وإن “السلطان الصالح، العادل، المحب أيقونةُ اللـه أمامنا”. وأضاف أن الحاكم الصالح هو مَن “اعتَبر اللـه حاكماً له”. هذا لا يطلب شيئاً لنفسه ولا لعائلته ولا لطائفته. وهو لا يطلب غير رضى اللـه، بل يذلِّل نفسه أمام ربه من غير أن يذلّ الناس. كما يبتعد عن الفئوية ويكون للجميع ولا يتحزب إلا للحق. فالحق وحده يحرره من كل شهوة، وبهذه الحرية يتمكن من انتهاج “سياسة طاهرة”. ويختم المطران مقاله متوجهاً إلى الحاكم المنشود: “كنْ في السياسة بسيطاً ببساطة اللـه وشفّافاً مثله. ومُتْ عن الأُمة كما مات الفادي. ففي هذا قيامتك وقيامة الذين استَعبدتَ نفسك لهم بالاخلاص. اضرب الكبرياء والتحكم والمجد الباطل ليكون اللـه وحده هو العزيز”.
إن الصفات التي افترضها مفكرون مثل أفلاطون وكونفوشيوس والفارابي في الحاكم الصالح، وهي أن يكون مشبعاً بالمعرفة والحكمة وسموّ الأخلاق والتواضع والصدق والعدل والمحبة، تكتمل بفضيلة الزهد التي تكلّم عنها المطران خضر، والتي تلامِس القداسة وتجعل الحاكم واحداً من أولياء اللـه: “الحلول الأساسية هي تلك التي تأتي من النفس الزاهدة”(47). والحاكم المقصود ليس شخصاً واحداً فحسب، بل هو آلة الحكم بأكملها، من حكومة وإدارة وقضاء وقـوى أمنيّة وممثلين للشعب. إن “عَدوى” الحاكم الصالح: العارف ـ الحكيم ـ النبيل ـ المحبّ ـ الزاهد يجب أن تنتقل إلى هؤلاء جميعاً.
هوامش
1. أثَرْتُ مفاهيم الوحدة والتعدد والوحدة ضمن التعدد في كتابي الدين والمجتمع الصادر عام 1983، يوم كانت بعض قوى “الأمر الواقع” في تلك المرحلة من الحرب الأهلية في لبنان تحظّر عبارات من نوع “التعدد”. ويجب أن أعترف بأن المعنى الأصلي الذي أعطيتُه للتعدد، أي المعنى العددي، هو ثمرة تحليل وموقف شخصيَّين لا ثمرة قراءات. انظر: أديب صعب، الدين والمجتمع، بيروت: دار النهار، 1983، طبعة ثانية 1995. وتجدر الاشارة إلى أن كل ما ورد في الدراسة الحالية ينطلق من مفهوم الوحدة في التنوع كما عالجتُه بدءاً من هذا الكتاب.
2. أديب صعب، المرجع المذكور، ص 88 ـ 90 (ط 1) و80 ـ 82 (ط 2).
3. T. S. Eliot, “The Dry Salvages” (verse 93), in Four Quartets, London: Faber, p. 39.
قارن مع ما يقوله الفلاسفة الرواقيون، وعلى الأخص ماركوس أُوريليوس، حول فحص الذات.
4. أديب صعب، وحدة في التنوع، بيروت: دار النهار، 2003، ص 27 ـ 33. انظر أيضاً: أديب صعب، “فلسفة للحوار الديني”، صحيفة الحياة، السبت 3 تمّوز 2004، ص 14.
5. أديب صعب، الدين والمجتمع، ص 8 (ط 1) و16 (ط 2).
6. للاطّلاع على آراء لوك وهيوم وباركلي وكانط في هذا المجال، انظر الفصول 2، 4، 8 من: أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، بيروت: دار النهار، 1994، (ط 2، 1995).
7. يبدو أن كلاً من الشيعة والأكراد يحاولون اليوم تحقيق أكبر المكاسب السياسية الممكنة في العراق، كما فعل السنّة حتى الاجتياح الأميركي. ومع طرح دستور جديد للبلاد والتصدّي للأُمور الطارئة، يبدو كأن مقولة العروبة تخص السنّة العرب وحدهم.
8. حليم بركات، “المجتمع اللبناني: فسيفسائي أم تعددي؟”، مجلة مواقف، العدد 1، بيروت، تشرين الأول ـ تشرين الثاني 1968، ص 108 ـ 125.
9. أديب صعب، وحدة في التنوع، الفصل الرابع: “الدين والدولة” والفصل الخامس: “الدولة الدينية الفعلية”، ص 41 ـ 54.
10. رسالة بولس إلى العبرانيّين،13: 14.
11. سورة الأعلى (87): 16 ـ 17. قارن مع: سورة الأعراف (7): 169، سورة يوسف (12): 57، سورة الرعد (13): 26، سورة النحل (16): 30.
12. يوحنّا 18: 36.
13. متّى 22: 21، مرقس 22: 17، لوقا 20: 25.
14. Ludwig Feuerbach, The Essence of Christianity, New York: Harper, 1957, p. 274.
15. أديب صعب، الدين والمجتمع، ص 119 ـ 128 (ط 1) و106 ـ 113 (ط 2).
16. T. S. Eliot, “Little Gidding” (verses 162 – 163), in Four Quartets, p. 55.
17. أنطون سعادة، مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، بيروت، 1970، ص 7 ـ 11. انظر شرحاً مفصلاً لهذا المبدأ في: أنطون سعادة، المحاضرات العشر.
18. ما يزال المطران جورج خضر يكتب، منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، مقالاً أُسبوعياً افتتاحياً لصحيفة النهار، يتناول شؤوناً سياسية راهنة من منظار روحي يتجاوز المواقف الدينية “الرسمية”. وقد أُعيد نشر هذه المقالات في مجموعات صدرت عن دار النهار: الرجاء في زمن الحرب (1987)، مواقف أحَد (1992)، لبنانيّات (1997)، الحياة الجديدة (2001). وتجدر دراسة هذه الكتب على نحو منهجي كنموذج لخطاب سياسي وديني في آنٍ معاً، عميق في رؤيويّته وفريد في تَنوُّره.
19. جورج خضر، لو حكيت مسرى الطفولة، بيروت: دار النهار، 1979، ص 20.
20. المرجع نفسه.
21. وَجد شارل مالك فرادة لبنان في عناصر مثل جباله وقراه وعاداته، في حين أن لبنان يتشارك في هذه العناصر مع عدد من بلدان الجوار والبلدان المتوسطية. والأحرى أن ما يميز لبنان آتٍ من مسيرة الحرّية فيه. انظر: شارل مالك، لبنان في ذاته، بيروت: مؤسسة بدران، 1974.
22. جاء هذا في خطاب أنطون سعادة عند عودته إلى لبنان عام 1947 بعد اغتراب قسري دام تسع سنوات. انظر: سعادة في أوّل آذار، بيروت: مطابع لبنان، 1956، ص 83.
23. سورة النحل (16): 17.
24. جورج خضر، لو حكيت مسرى الطفولة، ص 38.
25. صاغ أنطون سعادة المبدأ الرابع مـن مبادئ حزبه الأساسية علـى النحو الآتي: “الأُمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة مـن تاريخ طويل يرجع إلى ما قبـل الزمن التاريخي الجلي”. انظـر: أنطون سعادة، مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، ص 20 ـ 30.
26. جورج خضر، المرجع السابق، ص 35.
27. المرجع نفسه، ص 35 ـ 36.
28. المرجع نفسه، ص 37.
29. المرجع نفسه، ص 38.
30. المرجع نفسه، ص 70.
31. المرجع نفسه، ص 37. كتاب لو حكيتُ مسرى الطفولة هـو بمثابة سيرة ذاتية، ثقافية ـ فكرية ـ روحية، يعبّر فيها المطران جورج خضر عن نفسه بلسان شخص يسميه “صاحبي”.
32. أديب صعب، “الأثر الانجيلي والأنكلوسكسوني في فكر الأُرثوذكس العرب”، دراسة لمؤتمر نظّمته جامعة البلمند وكلية اللاهوت للشرق الأدنى، وقُدِّمت في البلمند يوم الجمعة 21 أيّار 2004. وهي معَدَّة للنشر في كتاب يصدره منظمو المؤتمر.
33. تردّدت هذه العبارة مراراً في مقالات المطران جورج خضر الافتتاحية في صحيفة النهار خلال الحرب الأهلية. انظر، مثلاً، كتابه: الرجاء في زمن الحرب، بيروت: دار النهار، 1987.
34. حاول بعضهم ردّ نزوع الكثير من الأُرثوذكس نحو القوميتين السورية والعربية إلى توزعهم الجغرافي في المشرق العربي وحرصهم على صَون وجودهم. لكن مهما كان من أثر لهذا التوزع وهذا الحرص، فهما لا يبدّلان أبداً من شرعية هذه الأفكار والمواقف. ويجدر التحرّي عن جوّ الكنيسة الأُرثوذكسية الأنطاكية الاجتماعي ـ القومي ـ السياسي وأثره في مواقف هؤلاء.
35. لا نجد في العربية مجموعات آبائية كاملة منقولة من أُصولها اليونانية مع شروح ومقدمات مستفيضة، كما هي الحال في الانكليزية والفرنسية والألمانية. وتقتصر الترجمات العربية على كتب قليلة، نُقل بعضها عن ترجمات إنكليزية أو فرنسية.
36. متّى 7: 12. جاء هذا في موعظة الجبل التي اختصرها يسوع بالآتي: “فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم. لأنّ هذا هو الناموس والأنبياء”.
37. سورة الكهف (18): 29.
38. سورة البقرة (2): 256.
39. سورة يونس (10): 99.
40. جورج خضر، لو حكيت مسرى الطفولة، ص 32.
41. المرجع نفسه، ص 48.
42. المرجع نفسه، ص 45.
43. من هذه الوسائل إصلاح التعليم الديني الذي اقترحناه في الدين والمجتمع (1983) وتابعناه في الكتب الثلاثة اللاحقة: الأديان الحية (1993)، المقدمة في فلسفة الدين (1994)، وحدة في التنوع (2003).
44. جورج خضر، “مدينة اللـه”، النهار، السبت 4 حزيران 2005.
45. جورج خضر، “السياسة”، النهار، السبت 2 تمّوز 2005.
46. جورج خضر، “شهوة السلطة”، النهار، السبت 12 شباط 2005.
47. جورج خضر، لو حكيت مسرى الطفولة، ص 102.
* د. أديب صعب أُستاذ الفلسفة في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في البلمند، حيث درَّس، لسنوات طويلة، الفلسفة القديمة والوسيطة والحديثة وتاريخ الأديان وفلسفة الدين. له رباعيّة في الفكر الديني صدرت عن دار النهار في بيروت بين 1983 و2003 تحت العناوين الآتية: الدين والمجتمع، الأديان الحية، المقدمة في فلسفة الدين، وحدة في التنوع، إضافة إلى مجموعات شعرية وعدد كبير من الدراسات والمقالات.
لبنان بين تعددية المجتمع ووحدة الدولةأجد في دراسة د.أديب صعب القّّّيمة والموّثقة والموثوقة أساسًا لاصلاح أنظمة الحكم في العالم العربي بناء على جملة الأفكار التي تطرحها: 1- كل مجتمع تعددي، شاء أم أبى، بالمعنى العددي، أي معنى تكوّنه من أفراد. هذا هو المعنى الوحيد الذي يصون القيم العليا، وفي رأسها كرامة الانسان. 2 – الوحدة المطلوبة هي وحدة وسط التنوع، لا وحدة تعسفية على حساب التنوع كما هو حاصل. 3- العروبة الحضارية أو الثقافية أو اللغوية قد تكون نموذجاً صالحاً لمفهوم الوحدة في التعدد على الصعيد العربي. 4- كل الثقافات، وإن بلسان غير عربي كاليوناني والسرياني والعبري، التي نشأت على… قراءة المزيد ..
لبنان بين تعددية المجتمع ووحدة الدولةقرأت بشغف بالغ دراسة د. أديب صعب بعنوان “لبنان بين تعددية المجتمع ووحدة الدولة”. والحق أقول انها تتميز بعمق النظرة ونبل الفكرة وبلاغة التعبير الذي يجمع الفلسفة والسياسة والتاريخ والاجتماع والأدب والتربية في وحدة متينة تحت باب “الانسانيات” الذي يشمل كل الأنظمة الفكرية المذكورة. الفكرة المحورية في هذه الدراسة هي “الوحدة في التنوع”، التي أرسى عليها أديب صعب فلسفته، بدءاً من كتابه “الدين والمجتمع” حتى “وحدة في التنوع”، لا بل حتى كتابه الأخير “هموم حضارية”. أما الدراسة التي ينشرها موقعكم المتنور فيليق أن يوضع تحتها هذا العنوان الفرعي: “ميثاق جديد للبنان جديد”… حبذا لو قرأها… قراءة المزيد ..
لبنان بين تعددية المجتمع ووحدة الدولةDear Sir, I disagree that the Lebanese are also Syrians but would agree that most of them are ‘Syriacs’ which is not the same thing. There was never a nation in History called ‘Syria.’ Even the great British historian, Arnold Totnbee, referred to the maps- not as Syria- but as the Syriac world. As for the Arabism, that too is a cultural issue because of its strong correlation with Islam. I am Lebanese of Syriac stock but never a Syrian. As for the ‘oldest’ ‘nationalism’ that was nothing but an amalgamation of a Fascistic-Nazi version… قراءة المزيد ..