كثيرا ما افاجأ بعد نشر مقال عن الشئون الهندية بمن يأخذ علي اهتمامي و إعجابي بهذا البلد الصديق، مذكرا إياي بتخلف الهند في هذا القطاع أو ذاك، أو مشيرا إلى الفقر و الأمية المتفشيتين في مجتمعها، أو إلى الفساد المنتشر في أجهزتها، أو إلى الأساطير و الخرافات السائدة في أوساط شعوبها، و كأن المتحدث من رعايا الدول الاسكندنافية حيث لا فقر و لا بطالة و لا فساد و لا أمية.
أما ردي فهو في كل الأحوال واحد، يعترف بكل ما سبق، بل و يضيف إليه صورا سلبية أخرى لا يعرفها إلا من عاش في تلك البلاد و تردد عليها و تجول في أصقاعها و كتب عنها الدراسات، لكنه في الوقت نفسه يشدد على أن الهند تتحرك إلى الأمام بخطوات ثابتة و مدروسة محاولة الانتقال من حال إلى حال، فيما جل أوطاننا العربية جامدة في أماكنها، بل متراجعة إلى الخلف و عاجزة حتى عن حماية ما حققته من مكتسبات حضارية متواضعة.
ويبدو لي أن أصحاب وجهة النظر السابقة إما أنهم يجهلون ما يجري في الهند من حراك اقتصادي و تنموي غير مسبوق بسبب حصر اهتماماتهم بالشأنين المحلي والإقليمي، أو أنهم يتجاهلون ذلك عمدا ويحاولون التقليل من شانه لأسباب سياسية وإيديولوجية خاصة بهم.
إن ما يجعلنا نتابع الشأن الهندي بشغف و اهتمام هو الدروس التي ما برحت هذه البلاد تقدمها منذ نحو عقدين لجهة الانعتاق من اسر التخلف على مختلف الأصعدة و اللحاق بركب الأمم الناهضة في زمن لم يعد يرحم المترددين و المشككين و أصحاب النظريات و الأيديولوجيات التي أكل الدهر عليها و شرب. و تكفينا في هذه العجالة الإشارة إلى ما حققته الهند في الشهر الماضي فقط من إنجاز بانضمامها إلى نادي الدول ذات الاقتصاديات التريليونية، أي تلك التي يبلغ حجم ناتجها المحلي الكلي تريليون دولار فأكثر. و المعلوم أن عضوية هذا النادي كانت حتى عام 2005 مقتصرة على عشر دول، على رأسها الولايات المتحدة (31.5 تريليون) فاليابان (4.5 تريليون) فألمانيا (حوالي 3 تريليونات) فالصين (2.5 تريليون) فبريطانيا (2.36 تريليون) ففرنسا (2.23 تريليون)، و بعد ذلك دول تراوح حجم اقتصادياتها ما بين تريليونين و تريليون دولار مثل ايطاليا وأسبانيا و كندا و البرازيل. و في العام الماضي انضمت روسيا الاتحادية إلى النادي بعدما ارتفع ناتجها المحلي الإجمالي إلى تريليون دولار من 975 بليون دولار في عام 2005 .
ويعزى هذا الإنجاز الهندي بطبيعة الحال إلى قوة العملة المحلية التي حققت هذا العام سعرا اقل من 41 روبية مقابل الدولار الأمريكي من بعد أن كان سعرها متذبذبا ما بين 48.6 – 43.5 في الأعوام الستة الماضية. و هذا العامل كان أيضا وراء اقتراب قيمة سوق الأسهم الهندية مؤخرا من تريليون دولار، مع توقعات بتجاوزها هذا الرقم بناء على سوابق حدثت في بلاد أخرى حينما كسرت اقتصادياتها حاجز التريليون دولار.
غير أن عامل صعود سعر صرف الروبية مقابل الدولار، لئن لعب دورا في الإنجاز الهندي، فانه لا يعني تراجع مكانة الهند بعد اليوم إذا ما تغير هذا السعر لصالح الدولار، لسبب بسيط هو أن الاقتصاد الهندي حقق في الأشهر الأربعة الأخيرة من العام الجاري معدلات نمو فاقت نسبة 9 بالمئة المسجلة في العام المنصرم ، و بحيث لم يعد يفصله عن بلوغ حلم العشرة بالمئة إلا مسافة قصيرة. وهكذا فحتى لو كان معدل النمو السنوي 5 بالمئة مثلا و صار سعر الروبية 45 مقابل الدولار، فان حجم الناتج المحلي الإجمالي سيبقى تريليون دولار أو أكثر. و الجدير بالذكر أن حجم هذا الناتج كان اقل من 500 بليون دولار في عام 2000 حينما كان الدولار يساوي 45 روبية تقريبا. و هذا يعني أن حجم الاقتصاد الهندي تضاعف خلال ست سنوات بفعل معدلات نمو تراوحت ما بين 7-9 بالمئة.
و تراهن الحكومة الهندية كثيرا في تحقيق طموحاتها بنمو سنوي يصل إلى 10 بالمئة على الاستثمارات الاجنبية التي ارتفعت أرقامها 3 مرات في السنتين الماضيتين و وصلت إلى 15 بليون دولار، لتصبح البلاد واحدة من أكثر الاقتصاديات الصاعدة جذبا لروؤس الأموال الاجنبية. غير أنها تراهن بصورة اكبر على استثمارات أبنائها المغتربين، و لاسيما الموجودين منهم في أمريكا وبريطانيا. ففي الولايات المتحدة يوجد نحو مليوني مغترب هندي يمثلون أكثر الأقليات الآسيوية نجاحا في ميدان الأعمال و أبرزها لجهة مستويات الدخل و التعليم. و في بريطانيا يوجد عدد من كبار أباطرة المال و الأعمال من ذوي الأصول الهندية على رأسهم “لاكشمي ميتال” الذي حافظ على مركزه كأغنى رجل في بريطانيا في عام 2007 و بثروة قدرت بنحو 19 بليون جنيه استرليني. و في هذا السياق قدرت بعض المصادر حجم الأموال العائدة لنحو 20 مليون هندي في المهجر بأكثر من 500 بليون دولار، و عند إضافة قيمة ما يملكونه من أصول ثابتة و مقتنيات فنية فان الرقم يصل إلى نحو تريليون دولار أي ما يساوي قيمة الناتج المحلي الكلي لوطنهم الأم.
و طبقا لبعض المراقبين، فانه يتوقع أن تجذب الهند خلال السنوات الخمس القادمة نحو 30 بليون دولار في صورة استثمارات جديدة، الأمر الذي سيخلق على الأقل 15 مليون فرصة عمل جديدة، ولاسيما في قطاع الخدمات الذي يوظف حاليا 28 بالمئة من إجمالي القوى العاملة البالغ عددها نحو 520 مليون نسمة، و يأتي في المرتبة الثانية بعد القطاع الزراعي لجهة توظيف الأيدي العاملة، و يساهم بأكثر من 60 بالمئة في الناتج المحلي الكلي.
و من المتوقع أيضا أن تساهم الاستثمارات الحالية و المقبلة، إضافة إلى تحويلات الهنود العاملين في الخارج التي تنمو بنسبة 25 بالمئة سنويا و وصل اجماليها في العام المنصرم إلى 25 بليون دولار، في تخفيض معدلات البطالة التي تقف اليوم عند نسبة 7.8 بالمئة و تحسين الظروف المعيشية لنحو 25 بالمئة من السكان القابعين تحت خط الفقر، و زيادة أعداد من ينتمون إلى الطبقة الوسطى التي وصلت اليوم إلى نحو 200 مليون هندي أي ربع عدد السكان، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار البرامج والخطط التوسعية للشركات الهندية الخمس الكبرى العاملة في صناعة البرمجيات والمعلوماتية والتي وظفت خلال العام الجاري وحده 100 ألف خريج جديد.
و هكذا فانه ليس من المستغرب ما ورد في العديد من الدراسات التي أجرتها المعاهد و الجامعات الغربية، و التي أجمعت على انه إذا ما واصلت الهند نموها بالمعدلات الحالية فإنها ستصبح في غضون 30 عاما ثالث اكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة و الصين، و انه لن يأتي العام 2025 إلا و قد تجاوزت اقتصاديات فرنسا و ايطاليا و بريطانيا و ألمانيا، و لن يأتي العام 2035 إلا و هي في موقع أفضل من الاقتصاد الياباني.
هذا ما يحدث في الهند التي كانت احتياطات النقد الأجنبي فيها قبل 16 عاما بالكاد يصل إلى بليون دولار، فإذا بها في الشهر الفائت تجلس على احتياطيات فاقت 200 بليون دولار. أفليس هذا وحده مسوغ للحديث عنها باستطراد و تكرار؟
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
elmadani@batelco.com.bh