الحلقة الأخيرة
اتخذ مكانه على الأرض فى ساحة وقوف السيارات لأحد مراكز التسوّق الضخمة التى ازدادت عددا خلال السنوات الثلاثة الأخيرة فى عمان. شدّنى اليه عقاله الجنوبى ووداعة قسمات وجهه التى حفر عليها الزمن آثار معاناة لا يخطئها نظر من يرى بقلبه. انه السيد (م. ح.) القادم من أبى صخير – من أعمال النجف الأشرف – باحثا عن رزق عزّ عليه فى بلاد الخيرات والأمجاد. انه يقيم فى الأردن منذ حوالى السنة قبل أن تحوّطها سلطاتها بموانع تحول دون تسرّب مزيد من العراقيين الفارّين من قدر الله الى قدر عباده. وقد حضر السيد (م. ح.) بصحبة زوجه وشقيقته اللتين تتخذان من الساحة الهاشمية فى وسط عمان القديمة مركزا لالتقاط رزقهما وهم جميعا يبيعون علب مناديل، قطع لبان، أكياس قمامة، جمعوها على بسطة خشبية يسهل حملها والتنقّل بها. ولا تفكر هذه العائلة بمغادرة الأردن فى وقت قريب كما أن السلطات الأردنية لا تتابع أمثالهم ما لم يقوموا بخرق فادح للقانون. وهم بانتظار احدى الحسنيين موعدا للعودة الى ديارهم: صدور قرار – بات تقليدا سنويا – من وزارة الداخلية يعفيهم من غرامة الاقامة غير المشروعة التى تبلغ حوالى الدولارين عن كل يوم، أو جمع الحصيلة المالية المتوخاة من هذه التغريبة والتى سينفقونها فى العراق اما لشراء سيارة بسعر يتراوح ما بين 1500 – 2000 دولار ليعمل عليها ربّ العائلة فى المناطق القريبة من سكناه أو لاستئجار دكان صغيرة يبيع فيها البقالة أو يمارس فيها حرفة يدوية. ولكنّ آمالهم بالكسب تتعلق بما يجود به مواطنوهم العراقيون الميسورون والذين يعرفونهم بسيماهم. كما أنهم يعرفون أن سفرهم من الأردن سيكون بلا عودة بسبب ما استجدّ من قيود.
يختلف وضع السيد (س. ك.) عن مواطنه السابق ذكره. فهو ينتسب الى قرية حدودية مع سوريا عرف أهلها بالثراء من وراء عمليات التهريب التى لم توفّر سلعة بدءا من النقد وانتهاء بالقماش وقد جمع منذ أيام الثمانينات البيضاء ثروة طائلة أودع الفائض منها فى خارج العراق فكانت سترا له فى هذه السنوات السوداء. جاء الى الأردن مع أشقائه الأربعة وتابعيهم وقبل أن يرتاحوا من عناء السفر فى منازلهم التى سبق وأن اشتروها فى التسعينات. عمدوا الى شراء ما تيسر من أراض ليؤسسوا شركة بناء امتلك العراقيون المتدفقون الى حيث الأمن معظم الشقق التى شيّدتها. واستغلّ تسهيلات الاستثمار ومزاياه فأودع فى مصرفه مليون دينارا ليحصل على جواز سفر أردنى يعفيه من نظرة التوجّس التى تجابه حامل جواز السفر العراقى فى السفارات الأجنبية. وقد انتسب شباب العائلة الى الجامعات واقتنوا سيارات أردنية غير مكترثين لتساهل السلطات مع مالكىّ السيارات العراقية التى، وان امتازت بفارق كبير فى الثمن، الاّ أنها تجذب لسائقيها لعنات سوقة العاصمة. ويتابع السيد (س. ك.) أخبار العراق بروح اليائس من عودة السلامة الى بلده ولم تعد الألوان السوداء المختلطة بحمرة الدماء تستفزّ مشاعر الوطنية لديه، فقد أدّى تكرارها على مدار الساعة الى تبلّد عواطفه. وتنحصر اهتماماته فى متابعة تطوّر أعمال شركته والتفكير فى مجالات جديدة للعمل بعد ركود سوق البناء نسبيا وملاحقة السيرة الدراسية للأولاد ويحلو له وهو السنّى الملتزم تكرار عبارة للامام علىّ مؤداها أن الفقر فى الوطن غربة والغنى فى الغربة وطن!!
ينتمى معظم العراقيين المقيمين فى الأردن الى الطبقة الوسطى التى حملت معها مدخراتها. فمنهم من يقرض منها جزءا بعد جزء آملا أن تعود العافية الى بلده فى وقت يسبق نفاد هذه المدخرات. ومنهم من أسس أعمالا تجارية يأمل أن تدرّ عليه ما يكفى معيشته. والأقلية منهم تنتمى الى طبقة السيد (م. ح.) والأقل منها تنتمى الى طبقة السيد (س. ك.). فالآنسة (ز. ح.) التى تخرّجت من الثانوية فى السنة الماضية توافقت مع والدها على أن بغداد وجامعاتها لم تعد آمنة ولم يجد الرجل مناصا من مصاحبتها الى عمان لتسجيلها فى احدى جامعاتها المرموقة حيث تبلغ كلفة الدراسة فى كلية الأعمال المالية والادارية ثلاثة آلاف دولار سنويا. وقد فوجىء والدها أن كلف تأسيس مشروع تجارى قد تضاعفت عما كانت عليه قبل سنوات ثلاث وأنها قد تكلفه نصف مدخراته فضلا عن تشككه من جدواه الاقتصادية. وكذلك قنع الرجل بحياة متوسطة متعللا بضرورة التضحية من أجل ضمان مستقبل وحيدته بعد أن كان محسوبا فى وطنه من أبناء الطبقة المترفة. فأقام فى شقة مستأجرة وقنع بسيارة واحدة مشتركة بينهما وفى ظنّى أن أصالة منبته ووعيه الثقافى قد حالا دون طغيان الشعور بالمرارة على روحه أو اصابته بالكآبة التى أظلمت بها حياة بعض أقرانه.
رأيت فى سيرة السيد (ن. ع.) دراما كاملة. فقد بدأ شبابه فى صفوف القوة الجوية العراقية طيارا على القاذفة المقاتلة – ميراج –
وكان من الذين دكّوا جزيرة خرج الايرانية وسواها من الأهداف الحيوية. وقد أهلّه تميزه العسكرى الى أن ينال عدة أوسمة والأهم من ذلك أنه بلغ رتبة رائد وهو فى سنّ الثلاثين. وقد أصابه الاحباط عقب هزيمة العراق فى معركة الكويت وتمكن من خلال أقاربه المتنفذّين فى ادارة الدولة أن ينال تقاعدا مبكّرا لينصرف الى العمل كمورّد لقطع غيار لآليات الجيش، وهوعمل يكفل لمن يعرف مسالكه تكوين ثروة فى وقت قياسى. وقد عرف صاحبنا المسالك وأجاد بل برع فى التسلل منها الى حيث المال والنفوذ والعلاقات مع المقامات الادارية والسياسية الرفيعة وساعده فى ذلك روح ماكيافيلية فطرية بدت لمن عرفه عن قرب أنه رضعها مع حليب أمه. وتنامت ثروته طرديا مع تفاقم الصعوبات التى أحاطت وقتئذ بالعراق ولقد تشكلت طبقة بكاملها وبأنماط سلوكياتها من ذلك الظرف. وعندما ضرب الاعصار الأميركى البلد فى ربيع 2003 كان صاحبنا متربصا فى بغداد وقد أدرك أن التسيب صار عنوانا ليوم سقوط بغداد وكذلك اصطحب صديقه (ب. ك.) وهو أحد مدراء التحويل الخارجى فى البنك المركزى العراقى وبرفقتهما أشقائهما الستة ليدخلوا آمنين الى حيث الخزنة وليفرغوها من محتوياتها من سبائك ذهبية وعملات أجنبية وعراقية قال العارفون أن قيمتها وصلت الى خمسين مليون دولار. وقبل أن ينبلج صبح اليوم التالى كان صاحبنا قد ملأ تجاويف موكب من السيارات بغنيمته سار به الى العاصمة الأردنية مستغلا انفلات الحدود العراقية وانفعال الحدود الأردنية بمصاب العراق وأهله. وقد اصطدم المحارب القديم بالعقبات التى وضعتها المصارف بعيد غزوتى نيويورك وواشنطن أمام ايداع المبالغ الكبيرة مجهولة المصدر فحوّل غرفة فى القصر الذى اشتراه الى خزينة حصينة ليسرّب منها ما قدر عليه بوسائل شتى الى حساباته المصرفية. وبما أنه ليس من سرّ فى العراق ولا بين العراقيين يدوم خفاؤه، فقد انتشرت قصته وسارت بها الركبان. واذ دهمه هاجس عودة سطوة الدولة الى العراق. بدأ يجاهد لنقل القسم الأكبر من رصيده الى لندن حيث صرّح بنيّته الانتقال اليها فى الوقت المناسب متصورا أنها ستعصمه من الملاحقات القانونية. ان قصة السيد (ن. ع.) ليست متفردة. فأمثاله من العراقيين ممن لا يحصيهم العدد منتشرون فى أصقاع المعمورة غير أن سوء حظه وحده جعلها نموذجا ينشر اليوم على أثير الأنترنت يحكى عن فئة من عدة فئات من العراقيين المقيمين فى الأردن.
ان عراقا مختزلا بكل طوائفه وطبقاته وأفكاره تشكّل فى هذا البلد الصغير وقد قابلت وتحدثت مع من سبق من النماذج المختارة من أفراد هذا العراق المختزل وارتأيت صياغة هذه المقابلات على شكل حكايات بعيدا عن الشكل المألوف للتحقيقات التى تعودنا قراءتها على ورق الصحف وهو شكل أراه يتلاءم وصحافة الأنترنت. وفى ظنّى أخيرا أن طلب السلامة كان الدافع الأساس وراء هجرة لم يألفها تاريخ العراقيين اذ كان بلدهم على مرّ الدهور مركز استقطاب للوافدين من كل جنس ودين ولم يكن أبدا طاردا لأبنائه فضلا عن ضيوفه. ولكنها دورة للفلك وانقلاب للزمن وانفلات للمعايير والقيم شاء القدر أن ترافق بداية انحطاط الامبراطورية على أكتاف وأعتاب العراق.
alhakim949@yahoo.com
المحامي سليمان الحكيم: أبناء الرافدين فى مضارب الأردن-2المحامي سليمان الحكيم: أبناء الرافدين فى مضارب الأردن-1