ألتهم في هذه الأيام الرمادية كتابا ضخما،للمؤرخ الإنجليزي الفذ “إيريك هوبسبوم” ويحمل عنوان “عصر الثورة”.. فبالرغم من أن الكتاب يقع في أزيد من ستمائة صفحة من القَطع المتوسط إلا أن قراءته أجَّلت غيرها الأقل ضخامة و..أهمية.
يتناول المُؤلف بالدرس والتحليل مرحلتين تاريخيتين مهمتين، غيرتا العالم الغربي منذ قرنين وثمانية عشرة سنة بالتحديد الدقيق، ونعني بهما، كما هو واضح الثورتين الإنجليزية والفرنسية. يقف المُؤلف بدقة لا تتسنى سوى لكبار الباحثين والمُؤرخين، عند تلك التفاصيل السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والثقافية.. التي غيّرت قلب أوروبا الغربية، ومعها كامل القارة العجوز، وفي ركابهما باقي العالم، سلبا أو إيجابا (إذ ثمة مُجتمعات استُعبدت من طرف الدول الأوروبية المُتقدمة الغازية).. يمنح المؤلف لقارئه الحصيف مفاتيح ذهبية لفهم ما جرى في واحدة من أهم وأخطر المراحل، وما أقلها، التي مرت منها البشرية.. نفهم مثلا أن مسألة التحول الاقتصادي كانت الأساس، وأن الطبقتين البورجوازية والوسطى، هما اللتان قادتا التغيير بـ “فضل” جشعهما وسعيهما للربح والمزيد من الربح. وقد فعلتا ذلك، ليس في تعارض أو تصادم، مع الماسكين بزمام الحكم المركزي في الممالك والإمارات الأوروبية المُتحالفة مع الإقطاع والكنيسة، بل تم ذلك بهدوء، لكن في حسم، لأن الحكم المركزي الأوروبي آنئذ كان قد أدرك بأن التغيير حتمي، بالنظر إلى استفحال المُتناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..
ولقائل أن يقول: وما الجديد في هذا الأمر؟ الجديد هو أن المُؤرخ الكبير”هوبسبوم” يُذكر أصحاب مثل هذا السؤال أن التغيير الحقيقي للبنيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا يتم بالخطابات الفوقية، ولا بالنظريات المُعقدة، التي تُلاك كالعلك في أقسام الدرس. بل إن “..الطبقات الوسطى والمتعلمة والملتزمون بالتقدم هم الذين أقنعوا الحكم المركزي بوجوب السير في اتجاه التقدم”.
وطبعا فإن هذا يطرح مسألة تجذّر البورجوازية والطبقة الوسطى، وليس حديثي النعمة الذين يحسبون كل صيحة عليهم، بسبب أنهم اختطفوا “ثرواتهم” بوسيلة أو بأخرى، من خلال ممارسات بعيدة كل البعد عن قواعد مُنافسة اقتصادية ومهنية شرسة.
نعم.. لقد شق التغيير في أوروبا أواخر القرن السادس عشر طريقه في أوصال القارة العجوز، انطلاقا من فرنسا وإنجلترا، ليس فقط بسبب الجشع الاستثماري للبورجوازية، والأطماع الارتقائية لأفراد الطبقة الوسطى، بل أيضا لالتقاء مصلحة القابضين على الحكم المركزي مع طموحات التقدم لكل هؤلاء. وبذلك تم التحول، بعنف في المراحل الأولى، ولكن بقوة وثبات في المراحل الأخرى الطويلة التي ما زالت مُستمرة إلى حد الآن.. والدرس المُستفاد من ذلك حسب رأيي، هو أن ذوي الأسمال من المُعدمين الذين يجدون أنفسهم، لسبب أو آخر، مُلتصقين بحواشي السُّلَط المركزية، لا يُنتجون قيمة مُضافة، اقتصادية أو سياسية أو فكرية، تنقل القاطرة المجتمعية من حال أسوأ أو أسفل، إلى آخر أفضل أو أعلى،لسبب بسيط، هو أن الهم الأساسي لمثل هؤلاء يكون في الغالب، مُتجها نحو، إما تأبيد الحال الذي يستفيدون منه، أو مُحاولة القضاء عليه للحلول محله في شكل حكم أسوأ.
تلك هي اللازمة الموضوعية، التي رتّقها المُؤرخ الإنجليزي الكبير ” هوبسبوم” عبر مُؤلفه الضخم المذكور. وهو بذلك يريد أن يُذكر مَن ما زال في حاجة للتذكير، بأن التغيير نحو الأفضل، لم يكن أبدا شأنا محض خاصاً، بل عملية منح وأخذ مجتمعية بالغة الوضوح والتعقيد في الآن نفسه، والشرط الأساسي هو توفر الطلائع الاقتصادية والسياسية والعلمية والاجتماعية المناسبة في الوقت المناسب..
مُعادلة التغيير تقول ببساطة، أنه يجب توفر ذوي الأطماع الاقتصادية الشرهة، الذين يفرضون على أصحاب الحكم المركزي اقتناعا بضرورة ترك ما لله لله وما لأصحابه لأصحابه.
نعم.. إنها الليبرالية الكلاسيكية،كما أفرزتها أوروبا الثورتين: الاقتصادية والصناعية منذ أزيد من قرنين من الزمان، وهي تجربة ما زالت تحتفظ بكامل إجرائيتها بالنسبة للمُجتمعات التي ما زالت تحبو بعماء عند أفواه الدروب الوعرة للتقدم.
اقرأوا “هوبسبوم” ذلك المِؤرخ اليساري العظيم، الذي اعترف بالحقيقة الليبرالية، لكنه احتفظ دائما بثقته في الإنسان باعتباره مُنتج قيم يرنو باضطراد إلى تجاوز شرطه البشري العويص..إقرأوه لتعلموا أي درك أسفل نحن فيه مُنقلبون.
mustapha-rohane@hotmail.fr