قد تكون بداية الديموقراطية في اي دولة او مجتمع، قرارا سياسيا او تدخلا دوليا، او ثورة مسلحة او سلمية او ربما انقلابا، ولكن نجاح الديموقراطية واستمرارها وازدهارها ورسوخها.. أمر آخر!
فعلماء السياسة يتحدثون عن العديد من الشروط والمستلزمات التي تضمن الاستمرار والفعالية لهذا النظام وتحمية من خصومه. ولعل ابرز هذه العوامل الضرورية وجود «طبقة وسطى» نامية ونشطة، تؤكد الديموقراطية وترى فيها ركنا اساسيا من اركان الادارة العصرية للدولة. فماذا نعرف عن الطبقة الوسطى في العالم العربي؟ وما حجمها وما مشكلاتها؟ والواقع ان الديموقراطية العربية تعاني ازمة حقيقية في هذا المجال، فغياب الديموقراطية اوضعفها او تعثرها يضعف مكانة الطبقة المتوسطة، ويهمش بالتالي دورها وينعكس هذا الضعف والتهميش بدوره على المكاسب الديموقراطية نفسها، ويجعلها مجرد شكليات غير مؤثرة في واقع الحياة السياسية، وبخاصة ان كانت الدولة ثرية من عوائد النفط وغيره كبعض الدول العربية، او مضطرة لمراعاة الشكليات الديموقراطية كبعضها الآخر.
ويرى بعض الباحثين ان هذه الطبقة تتألف في العالم العربي من شريحتين رئيسيتين هما:
الشريحة القديمة، وتشمل اصحاب الملكيات والتجارة المتوسطة والصغيرة واصحاب الصناعات وارباب المهن الحرة والمثقفين التقليديين من علماء دين وقضاة ومعلمين، والحرفيين اصحاب المهن الشعبية وصغار رجال الاعمال واصحاب الدكاكين وموظفي الدولة وضباط الجيش.
أما الشريحة الجديدة، فتتكون من المثقفين والتقنيين وخريجي الجامعات والمهنيين من اطباء ومهندسين ومحامين واصحاب الدخل المحدود من موظفي الدولة والشركات الصناعية والتجارية والمالية، فضلا عن ضباط الجيش واصحاب المشروعات الخاصة الصغيرة ورجال الاعمال الحرة.
وهكذا يمكن اعتبار هذه الطبقة بمختلف شرائحها وفئاتها عماد الحياة الحديثة في كل مجال، والمسؤولة عن تقديم كل الخدمات تقريبا، فلا غرابة في ان تقول د.هالة مصطفى، رئيسة تحرير دورية «الديموقراطية» في العدد الذي خصص لدراسة الموضوع باسهاب، «ان تاريخ مصر الحديث هو الى حد كبير تاريخ تلك الطبقة، فهي محركته وصانعة الكثير من احداثه، وهي جزء لا يتجزأ من مسيرته السياسية على مر العقود والأجيال منذ ان خرجت منها الحركة الوطنية التي فجرت اولى ثوراتها عام 1919 ثم في 1952». (دورية الديموقرطية، دار الاهرام، عدد اكتوبر 2004، ص8) وعن دور نفس الطبقة في العراق، يقول د.عبدالرزاق الصافي انها «لعبت دورا ملحوظا في الحياة السياسية في العراق، فمن بين صفوفها جاءت النخبة السياسية التي شكلت التيارات السياسية منذ الثلاثينات في القرن العشرين».
وتحتل الطبقة الوسطى ما بين 33 ـ %37 من مجموع السكان في دولة متقدمة اوروبية مثل بريطانيا، ونحو ربع السكان في فرنسا و%40 في الولايات المتحدة بموجب بعض الدراسات.
وتذهب بعض التحليلات عن العالم الثالث إلى ان الطبقة الوسطى في بلدانها تعيش ازمة قد تفضي بها الى التراجع والانكماش. ويشار في هذا المجال عادة الى عاملين رئيسيين في هذه الازمة وهما التقدم التكنولوجي المعاصر والسياسات الليبرالية الجديدة واجراءات الخصخصة.
وفي العالم العربي يقول باحث بأن التأويلات والتفسيرات قد تأرجحت بين مؤيد لوجود طبقة وسطى في مصر وبين معارض لذلك الوجود بين غياب وحدة هذه الطبقة لاسباب تتعلق بمتغيرات عصرية ادت الى اختفائها تماما، او تحولها الى شرائح مفتتة لا تقوى على تشكيل كتلة طبقية في ذاتها، كما يقول د.أحمد حجازي من جامعة القاهرة، وبين تفسيرات اخرى تؤكد بالدلائل الواقعية على بقاء طبقة وسطى وان تغيرت ملامحها في بعض عناصرها وفئاتها. وربما تكون هناك رؤية ثالثة تدلل على ان ما يسمى بالطبقة الوسطى في مصر قد فقدت وظائفها الاساسية. ويلاحظ د.يونان لبيب رزق ان قاعدة الطبقة الوسطى الصغيرة في مصر قد اتسعت خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، لجملة اسباب: اولا: احتكار الاراضي من قبل كبار الملاك في الريف وافتقار عدد كبير من متوسطى الحال والصغار، فزادت ظاهرة نزوح هؤلاء الى المدن، حتى قال المفكر المصري جمال حمدان «ان مصر قد انتقلت آنئذ من قرية طويلة ضخمة في الماضي الى نصف قرية ـ نصف مدينة حاليا».
ثانيا: تنامي العديد من الصناعات الصغيرة التي استدعتها ظروف الحرب من نشوء طبقة من متوسطي رجال الاعمال المصريين، خاصة مع الوضع في الاعتبار ان تلك الظروف قد ادت الى هجرة اعداد كبيرة من الاوروبيين من هؤلاء، فتركوا فراغا سعى المصريون الى ملئه.
ثالثا: اصابت هذه الهجرة كذلك قطاعات غير قليلة من اصحاب المهن الحرة، اطباء ومهندسين ومحامين، خاصة من اليونانيين والشوام والارمن، الامر الذي اتاح لخريجي الجامعات المصرية المتزايدين شغل اماكن هؤلاء. اما المحامون، فقد استفادوا من انتهاء عهد المحاكم المختلطة عام 1949، وما صاحب هذا من تآكل لدور المحامين الأجانب «الافوكاتو»، ليحل محلهم المحامون المصريون من خريجي كليات الحقوق. اما بالنسبة للصحافيين، فقد ادى ارتفاع موجة الحركة الوطنية، وزيادة حدة الصراع بين الفصائل السياسية في الداخل الى أن أصبح هؤلاء مهيئين للتعبير عنه اكثر من الصحفيين الشوام.
وسرعان ما بادرت هذه الطبقة المتوسطة الى اصطناع ادواتها ومظاهر حياتها، فاقتبس منتسبوها الكثير من الألفاظ الاجنبية ودخلت البيوت بعض الآلات الموسيقية الحديثة كالبيانو كما ترتبت لها قيم ومصالح جديدة، تختلف عن تلك الرائجة بين كبار الاثرياء الارستقراطيين من جانب، وفي اوساط الفلاحين والفقراء والمعدمين من جانب آخر. أما على الصعيد السياسي والعقائدي، فلقد افرزت تيارات واحزاباً مختلفة بل ومتناقضة الاتجاهات كالوفد والناصرية وحركة الاخوان المسلمين والحزب الشيوعي وغير ذلك.
تدخلت عوامل اخرى في تشكيل مصير الطبقة الوسطى في العراق، وبخاصة عدم الاستقرار السياسي والتعددية القومية والدينية والمذهبية ثم الدكتاتورية. ولهذا برزت مثلا ظاهرة الهجرة الى الخارج، وبخاصة الى اوروبا والولايات المتحدة، في اوساط النخب العراقية المتوسطة. ويقول د. علي عبد الامير في مقال له انه وبحسب ارقام رسمية اعلنها النظام السابق في العام 1999، وضمن دراسة خاصة مقدمة من اربع وزارات عراقية هي التعليم العالي، والصحة، والصناعة، والتربية، »ان نحو 340 الف مهندس وطبيب ومدرس ثانوي ومن حملة الشهادات الجامعية الاولية والماجستير والدكتوراه، غادروا البلاد على الرغم من قرارات حكومية تمنع حتى العام 1998 سفر المهندسين والاطباء واساتذة الجامعات» (دورية الديمقراطية، ص 96).
ويتميز لبنان في اوضاعها الطبقية، بتباين كبير في مستويات الدخل بين المناطق والفئات الاجتماعية المختلفة.
ويظهر توزيع الودائع المصرفية بحسب فئات الودائع ان 2% من مجموع حسابات الودائع تستقطب نحو 59% من مجموع قيمة الودائع، وفي مقابل نحو 61% من مجموع الحسابات التي لا تستقطب سوى 2% من هذه القيمة.
ولا تحسن الشرائح الاجتماعية الوسطى دائماً اختيار الحزب المناسب لطموحها ومتطلباتها، والقادر على خدمة اهدافها، وتتدخل هنا عوامل كثيرة توجه اعضاء الطبقة الوسطى الى الالتحاق باحزاب تضر بمصالحها اشد الضرر ويقول باحث جزائري ان المعلم والموظف الذي التحق بالجبهة الاسلامية للانقاذ، «لم يجد نفسه داخل حزب سياسي، كما كان ينتظر يمكن ان يؤثر في قراراته أو يتسلق هياكله للحصول على ترقية اجتماعية، كما فعل ذلك مع جبهة التحرير، ترقية تقيه شر التقهقر الاجتماعي والإفقار الذي بدأ يعيشه، بل وجد نفسه كجزء من قاعدة اجتماعية لتيار سلفي برز على شكل حركة اجتماعية قوية ومندفعة، مما جعله تقريبا من دون دور متميز فعليا، فطابع الحركة الاجتماعية الذي غلب على الجبهة الاسلامية للانقاذ وخصوصياتها الفكرية السلفية لم تسمح للكثير من المتعلمين بالقيام بأي دور كفئة متعلمة مهما كان تواضع زاد الحركة علميا ومعرفيا، ناهيك عن المزاحمة التي وجدتها هذه الفئات الوسطى من قبل الكثير من الفئات الاجتماعية الأخرى، كالتجار وأصحاب الحرف وأرباب العمل في القطاعات غير الرسمية والهامشية التي تميزت بحضور قوي داخل الجبهة الاسلامية للانقاذ والتيار الاسلامي عموما. وعلينا ألا ننسى في هذا المجال مواقف الجبهة المتشددة ضد الديموقراطية نفسها، «والرفض،بل التكفير الذي قوبلت به آليات عملية الانتقال كالانتخابات وفكرة التداول على السلطة وكل القيم المرتبطة بها، من قبل نفس التيار السلفي الذي لم يترك أي فرصة للمتعلمين الكثيرين الذين التحقوا به للتمايز أو القيام بأي دور فكري داخل التنظيم، الذين احتلوا فيها مواقع ذيلية وتابعة للعناصر الشعبية، التي منحت الكثير من خصائصها للحركة» (ص120).
ومثل هذا النمط من سوء اختيار الأداة الحزبية والجماعية العقائدية من قبل الطبقة المتوسطة لتحقيق التقدم والاستقرار لنفسه وبلاده ومجتمعه رأينا نماذج مؤلمة منه في دول عربية واسلامية عديدة.، وفي العالم العربي بالذات هناك ما أسميه بـ «المتاهة الثلاثية»، حيث تختلط المطالب الوطنية بالأحلام القومية والشعارات الدينية، فتحدث في كل مرحلة من مراحل الصراع السياسي تداخلات غير موضوعية وتوجهات رومانسية مثالية، ولا يتم تحقيق أي انجاز ثابت: أليس هذا ما جرى ويجري في ايران واندونيسيا، ومصر وتركيا، وبلدان المشرق العربي ودول الخليج، وشمال أفريقيا والسودان؟
ولا تنحصر مشاكل الطبقة الوسطى في اضطراب رؤيتها السياسية ووعيها الاستراتيجي، بل تتحدث كتب ومقالات كثيرة عن «انقلاب في خريطة الطبقات الاجتماعية» في مصر مثلا! فقد صعدت شرائح وتدنت شرائح، وزادت أنماط الاستهلاك بسبب تقليد الشريحة الثرية، وحلت القيم المادية محل القيم المعنوية، وتفككت الروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية، واختلطت الموازين والمعايير.
ولا يمكن للأ سف في هذا المقال القصير الحديث عن تأثير كل هذه التحولات على الموقف من المرأة والثقافة والأدب، والتوجهات التنموية وغير ذلك. فمن الباحثين مثلا من يرى ان فن الرواية «مرتبط في نشأته ونضجه ببروز دور الطبقة الوسطى ونضج مثالها الثقافي ومثلها الجمالي الأعلى، فهذا النوع الأدبي يستلهم ملامح ابطاله من صفات «أوساط» الناس، أو من العاديين، وليس من العمالقة الكمل اصحاب الخوارق، وكان اكتشاف الانسان العادي من اكتشاف الطبقة الوسطى». (ص43).
ويشير د. يونان رزق الى ان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، كان شديد الاخلاص للطبقة التي جاء منها، أي الطبقة الوسطى. منها مثلا ما يروى عن تعامله مع زوجته، ومرورا بالمأكولات التي يفضلها، الجبن والخبز الجاف، وانتهاء بتفاخره بمهنة أبيه البسيطة.
ويعلم الكثيرون الذين عاشوا في تلك الفترة، يضيف د. رزق، «قصة حرب الأغاني التي كانت قد نشبت في وقت من الأوقات بين اذاعتي القاهرة وعمان، على عهد الملك حسين. فعندما كررت الأولى اذاعة أغنية «سونا يا سنسن» كيدا في جلالته، وردت عليها الثانية بأغنية «البوسطجية اشتكوا»، بهدف رد التحية لعبدالناصر وتعييره بأصله المتواضع، ما كان من الرجل، الا ان أمر ان تبث الاذاعة المصرية ذات الأغنية جنبا الى جنب مع سونا يا سنسن».
بقي الكثير للحديث عنه حول دور الطبقة الوسطى، بعد هذا «الفاصل الغنائي»!