لم يشهد المشرق العربي في تاريخه الحديث ما يشهده اليوم من عنف مجنون بات يهدد دولاً بالزوال. ولم يشهد لبنان من أخطار كالتي يواجهها اليوم من جراء الحروب الدائرة في المنطقة وتدفق اللاجئين اليه من سوريا والعراق، الذي كاد عددهم يوازي عدد اللبنانيين المقيمين في بلدهم.
في مواجهة هذا الزلزال، رأت قيادات مسيحية أن الوقت قد حان لتصحيح أخطاء تاريخية ارتكبت في حق البلاد والاتيان بعد طول انتظار برئيس “قوي” يعيد إلى المسيحيين حقوقهم المفقودة.
في العام 1988، رفضت هذه القيادات إجراء الانتخابات الرئاسية وجعلت من إنهاء الاحتلال السوري أولوية، فدخلت في حرب تحرير كادت أن تقضي على البلاد لولا تدخل العالم لوقف الحرب والتوصل الى تسوية الطائف. لكن هذه القيادات رفضت هذا الاتفاق بحجة أنه لا يتضمن انسحاباً سورياً فورياً من لبنان، وعمدت إلى استبدال حرب التحرير بـ”حرب إلغاء”، الأمر الذي أفسح في المجال لاحتلال سوري للبنان، دام، بمباركة دولية، مدة 15 سنة.
في العام 2005، وبعد خروج الجيش السوري من لبنان، انتقلت هذه القيادات المسيحية من ضفة الى أخرى، وعملت على صوغ “ورقة تفاهم” مع خصوم الأمس لنيل تأييدها في بحثها عن رئيس “قوي”. وهي بهذا الانتقال فتحت الباب أمام عودة سوريا إلى لبنان، الأمر الذي دفع اللبنانيون ثمنه غالياً.
في العام 2015، أي بعد 27 سنة على بداية هذه “المأساة الرئاسية”، قررت هذه القيادات المسيحية أن تحسم الأمر، وأن تضع الجميع أمام مسؤولياته: رئيس “قوي” أو لا رئيس. فاشترطت على النواب الاقرار مسبقاً بمبدأ الرئيس “القوي” لكي يسمح لهم بعقد جلسة انتخاب. لم تتوفر هذه الموافقة المسبقة، فاضطرت هذه القيادات الى اختيار الفراغ الرئاسي. ينم هذا الواقع عن انفصام خطير. فهناك مشهدان لم يعد من علاقة بينهما:
المشهد الأول يتلخص في الآتي: دولة ومؤسسات تواجه خطر الانهيار؛ مجتمع يعاني من انقسام مذهبي قد يهدد السلم الأهلي؛ حرب غير معلنة تدور رحاها على طول الحدود مع سوريا؛ اقتصاد على تراجع مع ازدياد متواصل لعدد اللاجئين. أما المشهد الثاني فيتلخص في صراع على مركز رئاسة الجمهورية، مع ما يرافق ذلك من “أوراق تفاهم” بين الأحزاب المسيحية ومن مطالبة بتعديل الدستور لاستبدال الانتخاب باستفتاء شعبي على مرحلتين – المسيحيون يختارون والمسلمون يؤكدون خيارهم – وصولاً الى الدعوة إلى إلغاء اتفاق الطائف وتنظيم مؤتمر تأسيسي لوضع أسس “الجمهورية الثالثة”. عدنا اليوم الى العام 1988.
لم نتعلم شيئاً من تجربة كل تلك السنوات التي شهدت دوراً مسيحياً مميزاً أدى الى اطلاق انتفاضة كانت الأولى في العالم العربي ضد الأنظمة الديكتاتورية، تلك الانتفاضة التي – والكلام هنا للمجمع البطريركي الماروني – “فتحت الباب للخلاص الوطنيّ بتوحّد غالبيّة الشعب اللبنانيّ على نحوٍ غير مسبوق”.
لم نتعلم شيئاً من تجربة العيش المشترك التي يمتاز بها لبنان، تلك التجربة التي تكتسب اليوم أهمية استثنائية بسبب فرادتها في العالم عموماً، من حيث شراكة المسيحيين والمسلمين في إدارة دولة واحدة، وفرادتها في العالم الإسلامي خصوصاً، من حيث شراكة السنَّة والشيعة في إدارة الدولة ذاتها.
لم نتعلم شيئاً من تجربة الكنيسة التي تخطت المنطق الطائفي الذي لا يزال يتمسك به “الأقوياء” في الطائفة وكانت، مع المجمع البطريركي الماروني 2006، من أوّل المنادين في هذا العالم العربي بإقامة الدولة المدنية، القائمة على “التوفيق بين المواطنية والتعددية” وعلى “التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، بدلاً من اختزال الدين في السياسة، أو تأسيس السياسة على منطلقات دينية لها صفة المطلق”.
في تاريخ لبنان المستقل، أتى الى سدة الرئاسة رئيس “ضعيف” وفق المفهوم المعتمد اليوم للقوة، هو اللواء فؤاد شهاب. فكان أن بنى هذا “الضعيف” دولة لا تزال مؤسساتها حتى اليوم تنظّم حياتنا الوطنية. واحترم هذا “الضعيف” دستور بلاده، فرفض تمديد ولايته.
المطلوب اليوم قليل من التواضع لنعيد بناء تجربة وطنية جديدة لا تقوم على التمييز بين “الاقوياء” و”الضعفاء”، بل على التمييز بين الذين استخلصوا دروس الحرب من مختلف الطوائف، وأدركوا أهمية الوصل والشراكة مع الآخر المختلف، وهم اليوم الأكثرية، وبين الذين، ومن مختلف الطوائف أيضاً، لم يغادروا كهوف عصبياتهم الطائفية والمذهبية، ولا يزالون يعتبرون الآخر المختلف مصدر تهديد لوجودهم، ينبغي العمل على إقصائه.
الوقت يدهمنا، والتطورات التي تشهدها المنطقة تتسارع، فعلينا طيّ صفحة الفراغ الرئاسي لكي نمكّن الدولة من القيام بدورها في حماية هذا الوطن، حماية “الضعفاء”، ولكن أيضاً “الأقوياء”، الذين باتوا اليوم في حال صعبة، من العراق وصولاً الى اليمن، مروراً بسوريا.