هذا أمرٌ مفاجئ نوعًا ما لأن الأميركيين كانوا قلقين منذ البداية حول ما إذا كان الإسرائيليون واضحين بشأن ما قد تؤول إليه عمليتهم العسكرية في غزة. فقد أبلغ الرئيس الأميركي جو بايدن الإسرائيليين خلال الزيارة التي قام بها إلى إسرائيل بعد الهجمات التي نفّذتها حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر أن قراراتهم تستوجب “التفكير المتأنّي. وتتطلّب طرح أسئلة صعبة للغاية. وتستلزم أيضًا تحديد الأهداف بوضوح، وإجراء تقييم صادق حول ما إذا كانت الخطوات التي يتم اتخاذها تحقّق هذه الأهداف”. وتمّ تفسير تصريحه بأنه تحذير مفاده أن إسرائيل، إذا كانت تفتقر إلى خطة استراتيجية للخروجٍ من غزة، قد تجد نفسها عالقة في مأزق، وقد تُحمَّل على نحو متزايد مسؤولية ارتكابها المجازر بحقّ السكان المدنيين، ما من شأنه أن يولّد ديناميكيات تؤدّي إلى صراعٍ إقليمي.
ولم يهدّئ الاجتياح الإسرائيلي لغزة هواجس الأميركيين، وتطرّقت صحف عدة إلى هذه المخاوف، منها صحيفة هآرتس الإسرائيلية التي نقلت يوم 6 تشرين الثاني/نوفمبر ما مفاده: “أعرب مسؤولون كبار في إدارة بايدن عن قلقهم وإحباطهم إزاء افتقار إسرائيل إلى’استراتيجية للخروج’ من غزة. وقد طرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أسئلة حول هذا الموضوع على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي خلال عطلة نهاية الأسبوع، وتلقّى انطباعًا بأن هذا الأمر لم يُطرح للمناقشة حتى الآن…”.
هذا صحيحٌ ربما. لكن سُرعان ما اتّضح لنا أن الولايات المتحدة نفسها لا تملك أيضًا تصوّرًا واضحًا لإنهاء النزاع. نشر بايدن مقالًا في صحيفة واشنطن بوست يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر سعى من خلاله إلى رسم مسار سياسي تتّبعه إدارته في المرحلة المقبلة. وكان الانطباع أن الرئيس يعيد تدوير أفكار سابقة لم تتكلّل بالنجاح. فقد كان جلّ تركيز بايدن على حرب أوكرانيا التي يبدو أن معظم الناس قد نسوها، لكنه في الشق الفلسطيني لجأ إلى المقاربة القديمة نفسها. فهو يرى أن “حل الدولتَين، الذي يتمثّل في وجود شعبَين يعيشان جنبًا إلى جنب وبقدر متساوٍ من الحرية والفرص والكرامة، هو النتيجة التي يجب أن يؤدّي إليها الطريق نحو السلام. لكن تحقيق ذلك سيتطلّب التزامات من الإسرائيليين والفلسطينيين، وكذلك من الولايات المتحدة وحلفائنا وشركائنا. وهذا العمل يجب أن يبدأ على الفور”.
لا ينطوي هذا الأمر على مفاجآت، مع أن بايدن لم يشرح كيف يمكن أن يحظى حلّ الدولتَين بالزخم، نظرًا إلى المزاج السائد الذي لا يبشّر بالخير في إسرائيل اليوم، إذ يخوض سياسيون إسرائيليون نقاشات حول مشاريع ترحيل الفلسطينيين قسرًا إلى دول عربية أخرى. ومع أن بايدن كرّر اللازمة نفسها عن ضرورة إلحاق الهزيمة بحماس، كتب قائلًا: “يجب ألّا يتعرّض الفلسطينيون إلى التهجير القسري من غزة، وألّا تتم إعادة احتلال القطاع، ولا فرض الحصار عليه، ولا تقليص أراضيه. بعد انتهاء هذه الحرب، يجب أن تكون أصوات الشعب الفلسطيني وتطلّعاته في قلب عملية الحكم في غزة في مرحلة ما بعد الأزمة”.
الأرجح أن ما سيبقى في أذهان الإسرائيليين من مقال بايدن هو تحديدًا حديثه عن إرساء “مستقبلٍ خالٍ من حماس”. فيبدو أن نتنياهو وحلفاءه في اليمين المتطرّف (وربما معظم السياسيين الإسرائيليين البارزين) لا يأبهون في الغالب بحلّ الدولتَين. ونظرًا إلى أن الأميركيين لم يفعلوا ذلك في السابق، من المستبعد أن يتلقّفوا الآن الفكرة التي أعادت دول إسلامية وعربية إحياءها مؤخّرًا، وهي “التمسك بمبادرة السلام العربية للعام 2002″، التي تعرض على إسرائيل توقيع اتفاقات سلام مع كل الدول العربية مقابل انسحابها من الأراضي التي احتلّتها في حزيران/يونيو 1967، والتوصّل إلى حلٍّ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتَّفق عليه وفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، والقبول بقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة تكون عاصمتها القدس الشرقية. ولن تمتحن إدارة بايدن أبدًا نوايا حماس، على الرغم من أن رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، أعلن في الآونة الأخيرة: “نحن مستعدّون للدخول في مفاوضات سياسية تقود إلى حلّ الدولتَين، على أن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية”.
بتعبير آخر، لدى الرئيس الأميركي فكرة حول النتيجة التي يريد بلوغها، لكنه لا يعرف كيف يمكن تحقيقها. من خلال التركيز على سحق حماس، عاد بايدن إلى تبنّي وجهة النظر الإسرائيلية حول الصراع – وجهة النظر نفسها التي أعرب أثناء زيارته إلى إسرائيل في شهر تشرين الأول/أكتوبر عن تخوّفه من كونها تفتقر إلى الوضوح حول كيفية تحقيق أهدافها. كذلك، لم يأخذ بايدن في الحسبان واقع أن ما من أحد يثق بعد الآن بقدرة الأميركيين على الوفاء بالتزاماتهم. وإذا خسر بايدن الانتخابات بعد عام من اليوم، فغالب الظن أن كل ما يقوله سُرعان ما سيقلبه رأسًا على عقب خصمه الجمهوري، ولا سيما إذا كان دونالد ترامب.
وبالمثل، لا يعلم أحدٌ كيف سيتعامل مع غزة، حيث كل الخيارات تطرح مشاكل. فالسلطة الفلسطينية ليست متلهّفة لبسط سيطرتها على القطاع، ناهيك عن المصريين أو الأمم المتحدة. قد تريد إسرائيل إبقاء قوات لها هناك، لكن المهلة الزمنية التي ستلقى قبول الأميركيين غير واضحة. وحتى لو أن إدارة بايدن والحكومة الإسرائيلية اتّفقتا على ضرورة القضاء على حماس، لا يبدو أنهما تأخذان في الاعتبار المشاكل التي قد تعيق هذه العملية.
المشكلة الأولى هي، كلما طالت الحرب على غزة، ازداد احتمال أن تمتدّ رقعتها لتشمل دولًا أخرى في المنطقة، ولا سيما لبنان. لقد أظهر الأميركيون بوضوح تامّ أنهم لا يفضّلون هذا الخيار، وأرسلوا مبعوثين إلى المنطقة للتعبير عن ذلك. لكن كيف يتوافق هذا الأمر مع تصريحات بايدن بوجوب القضاء على حماس؟ أصبح جليًّا أن هذه النتيجة ستشكّل انتكاسة لإيران، وبالتالي قد يعمد الإيرانيون وحلفاؤهم إلى تصعيد وتيرة الصراع لتجنّب وقوع هذا السيناريو. لذلك، قد يُضطرّ بايدن قريبًا إلى الاختيار بين إما وقف العملية العسكرية الإسرائيلية، أو السماح لها بالاستمرار وربما جرّ واشنطن إلى صراع إقليمي تسعى جاهدةً إلى تفاديه.
المشكلة الثانية المحتملة تتمثّل في تكلفة الحملة الإسرائيلية، التي تتوقّع بعض التقديرات أنها ستبلغ 50 مليار دولار إذا دام الصراع بين ثمانية أشهر واثنَي عشر شهرًا. قدّرت وزارة المالية الإسرائيلية أن هذه الحرب تكلّف الاقتصاد 270 مليون دولار يوميًا، ما يعني أنها كبّدت البلاد ما بين 12 و13 مليار دولار حتى اليوم. وفيما قد تتكفّل الولايات المتحدة بتغطية قسمٍ من هذا المبلغ، لا يجب الإفراط في التركيز على ذلك، نظرًا إلى أن المزاج العام في الكونغرس الأميركي يعارض تخصيص الأموال من أجل حروب خارجية. وقدّرت وزارة المالية الإسرائيلية أيضًا أن يصل معدّل النمو الاقتصادي للعام 2023 إلى نحو 2 في المئة، علمًا بأن التوقعات السابقة أشارت إلى أنه سيبلغ 3.4 في المئة. ومع أن هذا العامل لن يسهم كثيرًا في عملية صنع القرار على المدى القصير، فهو يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كانت إسرائيل قادرة على تحمّل تكاليف عملية عسكرية طويلة في غزة، في ظل غياب حلٍّ واضح.
أما المشكلة الثالثة فهي الخسائر البشرية الناجمة عن الاجتياح الإسرائيلي لغزة. لقد منحت إدارة بايدن الحكومةَ الإسرائيلية قسطًا من الوقت لتحقيق أهدافها، لكن هذه المهلة تكاد تنقضي، خصوصًا على ضوء الهدنة الراهنة. فاستمرار الأوضاع على النحو الذي كانت عليه، فيما تركّز إسرائيل هجماتها على جنوب غزة حيث لجأ أكثر من مليون شخص، سيشعل بالتأكيد موجة من الغضب الشعبي المتزايد، ما يعني ضغطًا شعبيًا أكبر على البيت الأبيض. وقد أثار نفاق الإدارة الأميركية استهجان الكثيرين، نظرًا إلى أن الرئيس ووزير الخارجية أعربا عن تعاطفهما مع الأطفال الفلسطينيين من جهة، ثم أكّدا من جهة أخرى على ضرورة مواصلة الحرب لإلحاق الهزيمة بحماس.
لقد تجاوزنا بالفعل عتبة ما يمكن تقبّله في غزة. إن إطالة حماس أمد عملية تبادل الإسرائيليين في عهدتها مقابل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، ستؤدّي إلى إبطاء زخم التوغّل البري الإسرائيلي بشكل أكبر. مع ذلك، ما لم يرسم الأميركيون مسارًا سياسيًا واقعيًا للخروج من مأزق غزة، قد تستمرّ الحرب إلى ما لا نهاية، فيما تسعى إسرائيل إلى تحديد ما يمكن أن تعتبره نصرًا لا يقبل الجدل. فالعنف الخالي من أي هدف سياسي ينطوي عادةً على إراقة الكثير من الدماء. لكن الأميركيين يدركون أمرًا واحدًا، أن “حوار الردع” الضمني مع إيران هو ما ساهم في تفادي نشوب صراع أوسع نطاقًا بكثير.
فهل بايدن مستعدٌّ لإطلاق العنان أمام المزيد من الوحشية الإسرائيلية، حتى إذا عنى ذلك تقويض هذا الحوار؟