معركة حلب تحتوي على أبعاد كثيرة في التوازنات الإقليمية والعالمية، أرادها النظام محرقة لدفن حلم الشعب السوري وحراكه الثوري، وأرادتها أطراف أخرى ساحة لصراع الإرادات وقياس النفوذ.
الأربعاء 26 أبريل 2016 في يوم اختتام الجولة الثالثة من مفاوضات جنيف 3، وبعد شهرين على “الهدنة” المفترضة، أتت غربان الموت وقصفت مستشفى القدس في شمال مدينة حلب، المدعوم من منظمة أطباء بلا حدود الدولية مما أدّى إلى مقتل 30 شخصا بينهم ثلاثة أطباء وتدمير المستشفى بشكل كامل.
في هذا السياق، اتهمت منظمة أطباء بلا حدود قوات التحالف الذي تقوده الحكومة السورية بتنفيذ هذا العمل المتعمد، أما رئيسة بعثتها في سوريا، موسكيلدا زانداكا، فوجّهت صرخة إلى أصحاب القرار قائلة “أين هو غضبكم مما يجري؟ أنتم من يتوجب عليهم إيقاف هذه المجزرة”.
لكن هذه الصرخات تشبه أصوات الصارخين وسط برية هذا العالم في القرن الحادي والعشرين، وأصحاب القرار فيه كأنهم لا يعلمون أن الوضع في مدينة حلب، كان حرجا جدا حتى قبل هذا الهجوم. فقد بقي ما يقدّر بـ250.000 شخص في أجزاء المدينة التي تسيطر عليها الجماعات المناهضة للنظام (كان عدد السكان مليونا و300 ألف شخص في 2014) وشهدوا ارتفاعا هائلا في مستويات القصف والقتال والموت خلال الأسابيع الأخيرة. ولم تبق سوى طريق واحدة مفتوحة للدخول والخروج من هذه المناطق، وفي حال تم قطعها ستصبح المدينة محاصرة بالكامل.
أشار بيان منظمة أطباء بلا حدود إلى أنه خلال الأسبوع الأخير تعرّضت عدة مرافق طبية للهجوم والتدمير في مدينة حلب وقتل خمسة من متطوعي الإنقاذ في الدفاع المدني السوري (القبعات البيضاء)، ويجدر التذكير أن عدة مستشفيات تعرضت للقصف في شمال سوريا وجنوبها منذ بداية العام 2016 ومن بينها 7 مرافق طبية مدعومة من قبل منظمة أطباء بلا حدود، قُتل خلالها ما لا يقلّ عن 42 شخصا من بينهم 16 موظفا طبيا على الأقل.
إن إلقاء الضوء على هذا الجانب المحدود جدا من الكارثة الإنسانية في سوريا، يفضح استنكاف ما يسمى المجتمع الدولي عن تحمل المسؤوليات البديهية في احترام أدنى الحقوق الإنسانية وفي مواكبة مسار سياسي مترنح، يعود ذلك بالطبع إلى إصرار النظام في دمشق على مقولة الحسم العسكري التي لم تفارقه يوما، وإلى شراكة إيران ومحورها لهذا الخيار بالتلازم مع التدخل الروسي وتداعياته. ولم يحصل كل هذا من دون الالتباس الأميركي في الشأن السوري والفشل السياسي والأخلاقي لواشنطن التي لا تتردد في ممارسة الضغوط على شركاء دوليين وإقليميين من أجل ضبط الوضع تحت سقف مصالحها وسقف ما تسميه أولوية الحرب ضد الإرهاب، وليس من أجل إنتاج حل واقعي للمعضلة السورية.
في مقالة سابقة عن “جون كيري ومعركة حلب: ميونيخ أو ساراييفو؟” (13 فبراير الماضي)، قارنت بين سابقة اتفاق ميونيخ الذي كان عارا لبعض الأوروبيين ولم يمنع الحرب مع هتلر، وبين ترتيبات لافروف – كيري التي لا تنتج إلا حربا. وتساءلت ما إذا كان مصير حلب سيشبه ما جرى في دمشق عام 1920 ونهاية ما سمي الثورة العربية الكبرى، أو إذا كان الوضع شبيها بساراييفو 1914 عشية الحرب العالمية الأولى.
اليوم مع مجزرة مستشفى القدس واستمرار مسلسل قتل الإنسانية فوق الركام السوري (بشار الأسد متعهد تدمير سوريا أعلن منذ فترة عن حجز إعادة الإعمار لكل من إيران وروسيا والصين. ووائل الحلبي رئيس وزرائه أعلن توقيع عقود مع الحكومة الروسية لإعادة إعمار سوريا بمقدار مليار دولار في لحظة إعلان البنك الدولي عن قرب نفاد احتياطي دمشق من العملات الصعبة)، نتذكر أحداثا أخرى في العالم أدّت لهز الضمير الإنساني أو تغيير مجرى المصالح والأحداث. ففي الثامن والعشرين من أغسطس 1995 قام الصرب بقصف سوق شعبي في مدينة ساراييفو (37 قتيلا و90 جريحا) وحصل ذلك بعد ثلاثة أعوام على بدء حرب البوسنة وحروب البلقان، وأسفر عن بدء تدخل حلف شمال الأطلسي ضد بلغراد والصرب بعد تردد واستنكاف، ويومها تحمل بيل كلينتون الأميركي وجاك شيراك الفرنسي وهلموت كول الألماني وجون ميجور الإنكليزي مسؤولياتهم، ووضعوا حدا للحرب عبر اتفاقيات دايتون.
بالطبع يدور التاريخ دورته ونحن لسنا أمام عالم الأحادية الأميركية كما كان في 1995، ولكننا في عالم الاضطراب الاستراتيجي وليس في عالم الأحادية الروسية.
في النزاع السوري المتضمن عدة حروب في حرب، هناك تقاسم للمسؤوليات عن الكارثة بين العديد من العوامل الداخلية والخارجية، ووجود الكثير من اللاعبين غير العقلانيين. في موازاة مسار جنيف 3 يبدو واضحا أن التأقلم الأميركي مع دور موسكو في سوريا لم يسفر عن تحكم روسيا بالملف السوري تماما، نظرا لرفض إيران وسعيها إلى إعادة تأهيل النظام السوري. وهذا ما يفسر إرسال قوات اللواء 65 من الجيش الإيراني واتخاذ قرار تصعيد معركة حلب.
يجري كل ذلك وسط إقرار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف “أن التعاون مع واشنطن ساعد على تحقيق تقدم في سوريا”. لكن هذا التعاون لم يكن فعالا في تهدئة الأمور ولجم النظام وشريكه الإيراني، اللذين استفادا من وقف الأعمال العدائية لكي يفرضا الأمر الواقع في ميادين القتال من ضواحي حلب إلى الشيخ مسكين في الجنوب.
بيد أن كل هذا الزخم في هجوم النظام ومحوره منذ أكتوبر 2015، لم يحقق الغاية المرجوة في تدمير المعارضة وإلزامها التوقيع على صك استسلام الشعب السوري أمام النظام. ومما لا شك فيه أن واشنطن التي تعتبر أن إسقاط النظام في دمشق حاليا غير وارد أو هو خط أحمر كما بالنسبة لموسكو (إذا صدقنا ما باح به لافروف أمام دبلوماسيين عرب) أسهمت على طريقتها في المعركة الروسية عبر قطع الإمداد عن المعارضة منذ أوائل 2016 ومنع مدها بأي سلاح نوعي.
ترافقت معركة حلب مع انعقاد مفاوضات جنيف 3، وعبر معركة حلب كانت الرسالة الأسدية الإيرانية لا لبس فيها وخلاصتها منع طرح مصير الأسد على طاولة المفاوضات وفرض حل متناسب مع المصالح الإيرانية والروسية. عبر تحريك قطع المدفعية نحو حلب شارك القيصر الجديد في المعركة تحت ذريعة تداخل مواقع جبهة النصرة والمعارضة. لكن وزير دفاعه، سيرجي شويغو، نطق بالكلام الصريح إذ قال إنه لا يثق بأن رحيل الرئيس السوري بشار الأسد سيسمح بالحل في سوريا. والأدهى أن فلاديمير بوتين نفسه قال أمام وفد من الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية زاره أخيرا أنه “يجب إعادة القسطنطينية إلى المسيحيين كما أراد القيصر نيقولا الثاني”.
هناك إذن ما هو أبعد من سوريا والسيطرة عليها، أو من الانتقام الروسي من تركيـا أو من تصفيات حسـابات مذهبية داخل الإسلام أو من حق تقرير المصير للأكراد، إذ تحتوي معركة حلب على أبعاد كثيرة في التوازنات الإقليمية والعالمية. أرادها النظام محرقة لدفن حلم الشعب السوري وحراكه الثوري، وأرادتها أطراف أخرى ساحة لصراع الإرادات وقياس النفوذ. ماتت هناك الإنسانية، لكن حلب وكل سوريا تعاني فعليا من “شام فوبيا” عالمية. إنه الرهاب والخوف من الشام الحرة والمشرق المتحول. لكن الطفل أحمد الرحب الذي خرج حيا بعد يوم كامل من تحت أنقاض مستشفى القدس يقول عكس ذلك، ويقول إن الصراع المفتوح ينتهي بهزيمة الفاشية من كل أنواعها وبقاء سوريا.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس