يبدو انني لم وربما لن امل من ملاحقة تداعيات الانهيار السيادي والسياسي والاقتصادي والمالي والنقدي والمصرفي والاداري على الأوضاع الاجتماعية والصحية والبيئية والحياتية عموما للشعب اللبناني. فلم يعد خافيا ان هناك تحولات اجتماعية هائلة قد رافقت هذه الانهيارات، خصوصا مع تفاقم ازمة اللجوء السوري بابعادها المختلفة المتزايدة خطورة، والتي يزيدها خطابات الشعبوية والتحريض والابتزاز والاستثمار تفجرا. وقد انبتت هذه التحولات ظواهر اجتماعية طالت حتى النخب الاكاديمية والمهنية والثقافية. وهي ظواهر كنا نشهدها في دول شقيقة، وكنا نظن ان بلد الارز الذي تخطى شتى الحروب والاحتلالات بقدر مقبول من التغييرات والتحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لن يشهدها. ذلك ان لبنان ورغم اقتصاده المشوه وتكويناته الطائفية والمذهبية ورغم انقساماته الفئوية والقبلية المرافقة لنشوئه والمشوهة لدستوره المدني المتقدم نبسيا، استطاع بميزاته الجيوسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية المرتكزة على التنوع والتعدد والمرونة الفردية، ان يحافظ على طبقة وسطى توسعت في المركز في الستينيات والسبعينيات، ومن ثم في الاطراف تحت ضغط الاصلاحات الشهابية من جهة والنضالات الديمقراطية ليسار قوي ومتنوع ويمين متنور وانفتاحي من جهة أخرى.
ان القضايا السيادية والسياسية والدستورية يعتبرها جميع المعارضين بمنوعاتهم المختلفة عن حق امهات القضايا. ذلك ان تراجع الدولة العميقة باداراتها المختلفة وتخلخل مؤسساتها بما فيها الحكم والحكومة والبرلمان وصولا للقضاء، تحت مطرقة فائض القوة الفئوية المسلحة وراعيها الاقليمي وسندان الانقسامات الطائفية والمذهبية ذات المنحى الشخصاني والقبائلي احيانا، بات يشكل تهديدا وجوديا للكيان في مرحلة التحولات والصراعات والمنافسات الاقليمية والدولية التي تؤشر لواقع دولي جديد في العالم وفي منطقتنا خصوصا، حيث تتزاحم الاحزمة والممرات الجيوسياسية الحريرية والحديدية والبحرية، و مؤخرا البوارج وحاملات الطائرات التي استحضرت على وقع الهستيريا الغربية التي تلت “عملية طوفان الاقصى”والتي اجازت لكيانها الصهيوني الغاصب والمجروحة غطرسته بتدمير انتقامي وحشي وعنصري لغزة المحاصرة بالبؤس والقهر والاحتلال وبقتل وتهجير اهلها امام الكاميرات والشاشات الذكية. وليس سرا ان هذا البلد الجميل الذي شكل مرفأه المفجر درة المرافى في شرقي المتوسط بات خارج هذه الممرات، رغم رائحة النفط والغاز المنبعثة من شواطئه ورغم الترسيم البحري الذي قدم لاسرائيل ارباحا اضافية شبه مجانية على حساب السيادة والمصالح اللبنانية.
إن القضايا الحياتية المباشرة باتت تضغط بشدة على صدور اللبنانيين،خصوصا مع دخول مواسم الجامعات والمدارس والحاجات التموينية التي تتزايد مع اقتراب المطر والبرد، فضلا عن الحاجات الصحية المتزايدة مع الانهيار البيئي والضغوط النفسية للأجساد المتعبة، معطوفة على متطلبات الصيانة العادية للبيوت والسيارات التي باتت تكلف قنطارا، بالمقارنة مع شح الرواتب والاجور وحجز الودائع والمدخرات وتراجع صناديق التعاضد والضمان. فهذه القضايا عادت لتتصدر الهموم، رغم عجقة الموفدين العرب والدوليين لحل لغز الرئاسة اللبنانية الشاغرة والغاز الحاكمية وقيادة الجيش وغيرها من المواقع في الدولة العميقة التي يجري تفكيكها. و رغم استفحال توحش السلطة بجناحيها الميليشيوي والمافيوزي في سحق المواطنين عموما، والمودعين خصوصا، فإن بوادر مقاومة متنورة وان نخبوية بدأت تظهر، خصوصا في موضوع الودائع بعد انتقال الحاكمية ووصول الاحتياط الالزامي الى مستويات كارثية نتيجة العجز والنهب والهدر والدعم الكاذب وانهيار القيم والقواعد المصرفية وارتفاع هستيري في الاسعار، مع تصاعد الدولرة والاقتصاد النقدي وما يرافقه من اقتصادات سوداء موازية، فضلا عن التهريب والتهرب الجمركي والضريبي وظهور قرارات وموازنات تشليح الجيوب المثقوبة اصلا بموازاة اعفاءات البطون المتخمة والجيوب المنفوخة. فقد خفت شعبوية “الودائع المقدسة” التي غطت عمليا تذويب معظم الودائع بتعاميم الفرعون سلامة نيابة عن شياطين التوحش السلطوي وتساوت عمليا مع منظري شطب الودائع من المتربعين في الابراج الحكومية. وجيد ان بدأ الكلام عن “ودائع مشروعة وودائع غير مشروعة” بمواجهة “ودائع مؤهلة وودائع غير مؤهلة” يأخذ حيزا مهما بعد ان كان يبدو كصرخة في واد سحيق، لا احد يريد ان يسمعها، حتى من اكتوى بها. وبموازاة الكلام، وان النظري، عن استعادة الاموال المنهوبة بدأ الكلام، وان متأخرا وملتبسا، عن استعادة بعض ما جناه مواربة، كبار المقترضين بالدولار من القرار الشائن بدفعهم القروض بالشيكات او بدولار ١٥٠٠ على حساب المودعين المحرومين والمقهورين من ثلاثي التوحش في السلطة والبنك المركزي و البنوك.
وكي لا نشعر القارئ بالملل، لن نندفع نحو التحاليل التقنية التي يبرع بها مهنيون واكاديميون واعلاميون محترفون، بل سنذهب مباشرة نحو الهدف ونسأل الحاكم منصوري بضعة اسئلة، اظن انها على شفاه الالوف، ان لم يكن مئات الالوف. فالمناخ الايجابي الذي ارخاه ورفاقه يجب ان يترجم راهنا و مباشرة في رفع الظلامة التي لحقتهم بتعاميم وقرارات استنسابية لا علاقة لها بالقوانين وبالدستور الذي يحفظ الملكية الخاصة.
السؤال الاول: مع تقدير موقف عدم تمويل عجز الحكومة بالليرة وبالدولار، هل يعلن د. منصوري ان الاحتياط الالزامي هو حق للمودعين فقط لا غير مهما تقلبت الظروف، وهو بهذا المعني امانة سترد فقط لاصحابها.
السؤال الثاني: هل ترفض د. منصوري علنا بدعة الودائع المؤهلة والودائع غير المؤهلة التي اخترعها الحاكم سلامة وهل توافق على ابدالها بشعار الودائع المشروعة والودائع الغير مشروعة. ذلك ان هذه البدعة ضربت الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى( شريحة المدخرين) وحملتها مسؤولية التحويل من الليرة الى دولار في اعقاب الاغلاق الاسود الذي اعقب انتفاضة تشرين ٢٠١٩ بتحديد ٣١/١٠/٢٠١٩ فاصلا بين الودائع. وهنا اضع ملاحظتين
أ- التحويل تم بموافقة البنوك والبنك المركزي وبمعدل وسطي ٢٠٠٠ ليرة للدولار وبتجميد بين السنة والثلاث سنوات وغالبا دون فوائد.
ب- هذا التحويل حرم اصحابه من استعمال اموالهم بالليرة في مجالات كثيرة، منها استثمارات عقارية، خصوصا ان الليرة كانت ما زالت قوية ومتوفرة بسقوف سحب شهرية عالية.
ت- اذا لم يكن هناك ملاءة للتحويل فيجب عقاب اصحاب البنوك وجماعة المركزي، وليس عقاب المودعين الذين يحميهم الدستور ولا ذنب لهم، اما التذرع بموضوع تجارة الشيكات فأظن ان د.منصوري ورفاقه يعرفون شبيحة ومافيات الشيكات في البنوك وخارجها و معظمهم كان محميا من السلطات السياسية والنقدية والمصرفية الفاسدة.
السؤال الثالث: هل توافق د. منصوري على استثناءات التعميم ١٥٨ وهي الاستثناءات التي ظلمت عشرات ان لم يكن مئات الالوف. ومع اننا لا نجد مبررا، سوى الاستضعاف والفرعنة، لاعتبار ٣١/١٠/٢٠١٩ حدا فاصلا بين نوعين من الودائع (وسيأتي يوم نكشف فيه فرقة الاشرار المختلطة مصرفيا ونقديا وسياسيا واقتصاديا وميليشياويا والتي افتت باغلاق البنوك اسبوعين للمرة الاولى بتاريخ البلد وعملت السبعة وذمتها خلال الاغلاق) الا اننا نسأل سعادة د.منصوري ⁃ هل يوافق على استثناء من التعميم ١٥٨ وحرمان مع نقلوا ودائع دولارية سابقة عن ٣١/١٠/٢٠١٩ لبنوك اخرى في البلد ذاته بعد هذا التاريخ. وهل نقل ١٠٠$ من جيب لاخرى يغير نوعها؟ ⁃ هل توافق د.منصوري على استثناء وحرمان من نقل وديعة دولارية سابقة عن ٣١/١٠/٢٠١٩ ضمن نفس البنك لاولاده بعد هذا التاريخ. علما ان التعديل د) الذي صدر في ١/١٠/٢٠٢١ بقي ملتبسا ولم تطبقه بنوك كثيرة الا بالمعنى الضيق للكلمة.
السؤال الرابع: هل توافق د.منصوري على التعميم ١٥١ والذي ابتدع لاذابة الودائع، خصوصا الصغيرة منها، وقد دفع معظم اصحابها الى حافة الفاقة، علما ان الرواتب والاجور انهارت أيضا؟. في مقابلة لك قلت انك مستعد لرفع الدولار من ١٥ الف الى ٩٠ الف اذا دخل ذلك في الموازنة وهذا مناقض لما تقوله بان الودائع هي لاصحابها دستوريا، فلماذا انت بحاجة للموازنة او للحكومة لتقرر لك سعر الدولار. الوديعة هي ملك اصحابها وبالتالي اما ترد بالدولار من الاحتياط الالزامي مع سقف شهري معين( ما يشبه ١٥٨ ولكن للجميع وبتوازن معين يأخد بعين الاعتبار واقع الاحتياط وواقع البنوك) او ترد بالليرة وبسعر السوق مع سقف سحوبات يحتوي التضخم. على سبيل المثال الافتراضي فقط لان السقوف غير موحدة في البنوك:
٩ ملايين ليرة سقف شهري حالي تبقى ٩ ملايين ولكن مقابل ١٠٠$ وليس ٦٠٠$. وهذا القرار كما باقي القرارات والتعديلات المقترحة في الاسئلة تعود لك ولرفاقك في المركزي لوقف التوحش في نهب ما تبقى من ودائع ومدخرات، لان هذه الودائع هي ملك اصحابها حسب الدستور وليست ملك الحكومة والمركزي الذي يستطيع ان يحدد سقفا شهريا مؤقتا، وليس السماح بمتابعة سرقتها علنا وفي وضح النهار بانتظار تأهيل وقوانين واصلاحات قد لا تأتي قبل سنوات. اما السؤال المكرر والذي لن نمل من طرحه على المعارضات المتعددة، التغييرية خصوصا، وعلى النقابات وعلى مؤسسات ومجموعات المجتمع المدني عموما فهو الآتي :
الم يحن الاوان للتصدي التفصيلي والمنسق لتوحش السلطة و العمل على مواجهة التدهور الحياتي لعموم اللبنانيين. خصوصا ان المواجهات السيادية الكبرى، بما فيها مواجهة احتلال الواسطة تتطلب النفس الطويل وتمكين الشعب المقهور من الصمود. علما ان انسداد الحلول و التسويات المتوازنة بعيدا عن المحاصصة يدفع اللبنانيين نحو اليأس ويضع على اكتاف الجميع مسؤوليات استثنائية. فهل نترك هؤلاء اللبنانيين فريسة للالتهام من قبل predators السلطة التي تبحث عن الحلول في جيوب الضعفاء، كما حصل في تسعيرة الكهرباء والاتصالات والضرائب والرسوم. وبما ان المديح يكال للحكام الجدد في المركزي من قبل معظم المعارضات، فليثمر هذا المديح بالطلب من د.منصوري الجواب على اسئلتنا والشروع فورا بوقف الظلم الفادح الذي اوقعته فرقة الاشرار عبر سلامة على المودعين، وذلك عبر تعديل وتصويب التعاميم الفاجرة، وهذا أضعف الايمان.
talalkhawaja8@gmail.com