خاص بـ”الشفاف”
بعد ما يزيد قليلاً عن أسبوع من المسيرة الفاشلة التي قامت بها شركة “فاغنر” العسكرية الخاصة إلى موسكو، ظهر رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين علناً ليقدم تقريراً إلى فلاديمير بوتين عن صحة الاقتصاد الروسي. وأظهرت هذه المناسبة أهمية القسم التكنوقراطي من النخبة الحاكمة في روسيا. وفي كثير من النواحي، كان ذلك مساويا في أهميته للإفادة العلينة التي قدمها رؤساء الأجهزة الأمنية لبوتين مباشرة بعد تمرد يفغيني بريجوزين في أواخر يونيو/حزيران.
منذ بداية الحرب، ظل التكنوقراط موالين للنظام واستخدموا خبراتهم لدعم الاقتصاد الروسي خلال زمن الحرب. ويمكن رؤية أهميتهم في عملهم على تشكيل السياسة النقدية، وتعزيز الكفاءة في الصناعات المرتبطة بالجيش، وإنشاء سجل رقمي جديد للتجنيد العسكري. في بداية حرب روسيا على أوكرانيا.
وكان هناك بعض الأمل بين الخبراء في كل من روسيا ومراكز الأبحاث الغربية في أن يعارض مسؤولون من الوحدات الاقتصادية في الحكومة قرار بوتين بالذهاب إلى الحرب، نظراً لقيَمِهم ذات الميول الليبرالية ولتفاعلهم الأكبر مع الغرب.
لم يحدث ذلك. ولكن كيف أثرت عملية فاغنر على مواقف ومزاج هذا القسم المهم من النخبة؟
للتحقق من هذا الأمر، أجرى المؤلف مقابلات شبه منظمة مع 12 مسؤولاً رفيع المستوى في الوزارات الروسية والوكالات الفيدرالية (بعد وقت قصير من التمرد، وأيضاً في أوائل يوليو). وتشير النتائج إلى أن أعمال فاغنر ربما تكون قد عززت ولاء مجموعة التكنوقراط لنظام بوتين. ويأتي هذا على الرغم من عدم اليقين الأولي العميق لدى أعضائها بشأن كيفية الرد أثناء التمرد، ورغم الافتقار إلى القيادة من جانب أولئك الذين يترأسون تلك الوزارات والإدارات، وكذلك الخوف – بل الاحتمال الحقيقي – لدى تلك النُخِب من أنه ربما تم التخلي عنها وتركِها لمواجهة بريجوزين بمفردها
أفاد المسؤولون في وزارتي الاقتصاد والرقمنة الذين أجريت معهم مقابلات أنه خلال مسيرة فاغنر إلى موسكو، فإن الوزراء نصحوا الموظفين بأن يقرروا بأنفسهم ما يجب عليهم فعله. ومن بين الأشخاص الـ 12 الذين أجريت معهم مقابلات، كان 10 خارج العاصمة عندما انتهى التمرد فجأة، لأن بعضهم كان قد فر من موسكو.و أكد رئيس مجلس الدوما “فياتشيسلاف فولودين” لاحقًا، بشكل غير مباشر، أن العديد من المسؤولين غادروا موسكو بالفعل في حالة من الذعر.
فقد خشي المسؤولون الذين أجريت معهم مقابلات من انتقام فاغنر المحتمل في حالة نجاح التمرد: فبريغوجين كان قد انتقد في السابق جهاز الدولة بأكمله، وليس فقط وزارة الدفاع.
وفي الواقع، لو نجح الانقلاب، لكان من الممكن أن تصل جهات أكثر تطرفاً إلى السلطة، ما يؤدي إلى تطهير الجهاز البيروقراطي وتأسيس اقتصاد مغلق يركز فقط على الجهود الحربية.
وعلى النقيض من بعض السياسيين الفيدراليين المنتخبين وحكام الولايات الذين أعربوا علنًا عن دعمهم للرئيس طوال يوم السبت، امتنع المسؤولون الحكوميون (بما في ذلك الوزراء المعينون) عن اتخاذ موقف واضح ـ هذا إذا علقوا على الوضع على الإطلاق. على سبيل المثال، نصح وزير الرقمنة الروس، ببساطة، بالاتصال بأحبائهم.
انكشف ضعف النظام وانقلاب بريغوجين قد يتكرر
بعد أن تحملوا هذه التجربة المثيرة للقلق، في الأيام الأولى التي أعقبت التمرد، كان لدى الأشخاص الذين تمت مقابلتهم اعتقاد مشترك بأن ضعف النظام قد تم كشفُه بشكل سيئ وكانوا يشعرون بالقلق من أن النظام قد يتعرض لضغوط مماثلة مرة أخرى في المستقبل.
ووصف أحد المسؤولين في “المكتب التنفيذي للحكومة” ما حدث بأنه “اختبار إجهاد” لم يتم اجتيازه إلا بمحض الصدفة”، وعزا نجاة بوتين من الأزمة إلى حظه المعروف.
ومع ذلك، بحلول أوائل شهر يوليو، بدأ معظم المشاركين في تبني خطاب مشابه للخطاب الرسمي. وبدأ كثيرون يقولون إن الرئيس خرج من الأزمة “بشكل إيجابي”، بعد أن نجح في تجنب إراقة الدماء وحال دون وقوع مواجهات كبرى قرب موسكو. وتتوافق هذه الرواية مع رواية مصادر قريبة من الإدارة الرئاسية، وبحلول نهاية يونيو/حزيران، أصبحت هذه وجهةَ النظر السائدة داخل البيروقراطية الروسية.
ومع ذلك، استمر المسؤولون الذين أجريت معهم المقابلات في الإشارة إلى الخطر الناجم عن تكاثر الوحدات المسلحة التابعة للنُخَب، وخاصةً مجموعات الشركات الخاصة والشركات الحكومية. وهم يخشون أن تؤدي مثل هذه التطورات إلى مزيد من العنف أثناء الصراعات التي قد تنشب بين النُخب. (إلى جانب التكنوقراط، تشمل القطاعات الرئيسية الأخرى من “النخبة” الأجهزة الأمنية، مثل جهاز الأمن الفيدرالي (“إف إس بي”)، الذي يتمتع بسلطة كبيرة، فضلاً عن الجيش، والصناعات الدفاعية، والسياسيين الفيدراليين مثل عمدة موسكو أو رئيس مجلس الدوما، والشركات التابعة للدولة مثل “روزنفت”، والشركات الحكومية مثل غازبروم”، والشركات الخاصة مثل “ألفا بنك”.) وقد كشفت تقارير إعلامية بالفعل وجودَ وحدات مسلحة داخل “غازبروم”.
يشعر المسؤولون الذين أجريت معهم المقابلات” بالقلق من إمكانية نقل الجنود ذوي الخبرة من هذه الكتائب “أقرب إلى موسكو كإجراء احترازي” ومن أن الشركات التي لم تنشئ مثل هذه الوحدات بعد قد تفكر الآن في “تسليح حراسها” في أعقاب التمرد.
في المدى القريب، يعتقد التكنوقراط أنه من المحتمل حدوث تغييرات في إدارات وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية وهيئات أخرى. ويشير أحد المسؤولين الحكوميين إلى أن هذه التغييرات ستتم في سبتمبر/أيلول، وأن عدم تقديم استقالات من مناصب رفيعة المستوى ناجم من رغبة الكرملين في تجنب الظهور بمظهر المُذعِن لمطالب بريجوزين. لكن توقع حدوث تغييرات بين كبار الموظفين يدفع الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات إلى الاستعداد لزيادة العمل في الأشهر المقبلة.
ومن المؤكد أن تشتد المنافسة بين الوكالات في سعيها جاهدة لإثبات فعاليتها وكفاءتها لتولي مهام جديدة. يقول أحد المسؤولين في وزارة المالية: “لقد جمعنا الرئيس [الوزير] وأخبرنا أنه يتعين علينا أن نبذل المزيد من الجهد الآن”. وتقول عدة مصادر إنهم ألغوا أو أجلوا إجازتهم الصيفية بعد التمرد توقعًا أن يُطلب منهم العمل أكثر.
وفي هذا الصدد، يرى الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أيضًا أن الأشهر المقبلة تمثل فترة من الفرص لهم. يقول أحد كبار المسؤولين في البنك المركزي: “نحن لم نَخُن الرئيس”، مجادلاً بأنه لا يمكن إلقاء اللوم على أي شخص في الكتلة الاقتصادية للحكومة – على عكس أعضاء النخب العسكرية والأمنية – بسبب التعاطف مع بريجوزين أو دعمه.
ويعتقد أشخاص آخرون أجريت معهم مقابلات بالمثل أنهم سيكافأون على ولائهم، وبشكل عام، سيتم تعزيز مكانة كتلتهم داخل النخبة الروسية.
إن التوقعات آخذة في الارتفاع، بالفعل. وبعد انعقاد “المؤتمر المالي الروسي” في الفترة من 6 ـ 7 يوليو/تموز، وهو منتدى اقتصادي رئيسي يستضيفه البنك المركزي، سلط العديد من الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات الضوءَ على الأجواء الإيجابية. وتوصل المشاركون إلى تعبيرات مثل “الروح القتالية“، و”أفضل بكثير من منتدى سان بطرسبورغ الإقتصادي” الذي انعقد في شهر يونيو، و”مستوى من التفاؤل لم نشهده منذ فترة طويلة” لوصف الحدث.
باختصار، كان تمرد بريجوزين سبباً في توحيد الجماعات التكنوقراطية المحيطة ببوتين. وبينما أظهر هؤلاء في السابق شعوراً “بالولاء السلبي” (دعموا النظام بسبب عدم وجود خيارات بديلة، على الرغم من معارضتهم الشخصية للحرب)، فقد عززوا دعمهم الآن.
إن من المحتمل جدًا أن يتعزز موقف مجموعة التكنوقراط داخل النخبة. وبقدر ما تنجح الحكومة في التعامل مع ضغوط العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وإذا ما ظل التكنوقراط موالين له، فإن ثقة بوتين فيهم يجب أن تنمو بشكل أكبر. في النظام الشخصاني الروسي، تُعد الثقة والتواصل الشخصي المتكرر مع الزعيم الاستبدادي من الموارد الحيوية.
وفي حالة حدوث استقالات من وزارة الدفاع والصناعات ذات الصلة، فقد يتم تعيين بعض التكنوقراط في مناصب جديدة أو منحهم سلطة غير رسمية للعمل مباشرة مع شركات الدفاع لتحسين كفاءتها. وهذا من شأنه أن يسمح للتكنوقراط ليس فقط بدعم تكييف الإنتاج غير العسكري للمهام المتعلقة بالحرب، كما فعلوا منذ الخريف الماضي، ولكن أيضًا بالتأثير بشكل مباشر على العمليات التجارية في المؤسسات العسكرية التي كانت في السابق تحت سيطرة وزارة الدفاع فقط.
ومع ذلك، لا يبدو أن بوتين قد أعطى أي إيماءات محددة لصالح مجموعة التكنوقراط، أو الحكومة ككل. بل على العكس، أعرب الرئيس علناً عن امتنانه لممثلي الأجهزة الأمنية، وخاصة الحرس الوطني (روسغفارديا)، بما في ذلك المفارز الخاضعة لسلطة رمضان قديروف في الشيشان. وكان تم نشر هذه المفارز في 24 يونيو لاستعادة روستوف التي استولى عليها فاغنر. وبعد التمرد، تم تعزيز “الحرس الوطني” (روسغفارديا) بكتيبة “قوات خاصة” من وزارة الداخلية. علاوة على ذلك، يجري الإعداد لقانون جديد لمنح “الحرس الوطني” (روسغفارديا)، بما في ذلك كتائب قديروف، إمكانية الحصول على الأسلحة الثقيلة مثل الدبابات والطائرات والسفن الحربية، ما يعزز قدراتها بشكل كبير بالمقارنة مع الوكالات الأمنية الأخرى مثل جهاز الأمن الفيدرالي (“إف إس بي”).
وتؤكد هذه الزيادة في قوة واحد من الأجهزة الأمنية أن بوتين، حتى بعد التمرد، ما يزال يعتمد على هذه القطاعات من النخبة أكثر من المجموعات الأخرى. ولا يزال بإمكانه أن يتجه نحو التكنوقراط مستقبلاً – ولكن في الوقت الحاضر، ربما يظل متمسكًا بما يعرفه جيدا.