مصير المنطقة يبقى بعهدة أبنائها، ومشاريع التقسيم وإعادة التركيب والخرائط الجديدة ليست قدرا دوليا، وأي تركيبة بديلة عن سايكس بيكو لن تمر على حساب المكون العربي في الإقليم، ولا على حساب وحدة شعوب الدول وأراضيها.
في أكبر حشد عسكري في الشرق الأوسط والخليج العربي منذ حرب الخليج الثانية (1990 – 1991)، احتضن شمال المملكة العربية السعودية التمرين العسكري “رعد الشمال” في قاعدة الملك خالد العسكرية في مدينة حفر الباطن، بمشاركة عشرين دولة عربية وإسلامية، إضافة إلى قوات درع الجزيرة التابعة لمجلس التعاون الخليجي. من خلال تنظيم هذه المناورات متعددة المهام، لا يحجب البعد العسكري الأهمية السياسية الاستراتيجية لهذا التمرين في المقام الأول، وخلاصتها أن حذف العرب من المعادلات الإقليمية وهم، وأن المملكة العربية السعودية قادرة على بناء تحالفات للسلم وللحرب.
في مواجهة بركان الشرق الأوسط الملتهب والانقلابات في موازين القوى على ضوء النهج الأميركي الحذر والاختراق الروسي والتمكن الإسرائيلي واستراتيجية التوسع الإيراني، تكمن فكرة “رعد الشمال” في توجيه رسائل بالجملة لكل من يعنيهم الأمر، وعلى الأخص للطامعين، بأن هناك جيوشا قوية تحمي أوطانها ضد المتربصين من قوى تقليدية وغير تقليدية، وأنه في زمن الاضطراب الاستراتيجي عالميا وفي زمن الزلازل الإقليمية المتواصلة (منذ دخول القوات الأميركية إلى بغداد في إبريل 2003) بدأ زمن الانكشاف الاستراتيجي العربي مع صعود ثلاث قوى إقليمية غير عربية أي إسرائيل وتركيا وإيران، وتفاقم تهميش الموقع العربي مع انهيارات السنوات الأخيرة في سياق الفوضى التدميرية غير الخلاقة وإفشال بزوغ تحولات “الربيع العربي”، تكمن أهمية تجميع عناصر القوة بشكل عقلاني ومحسوب في الزمان والمكان وتحديد الأهداف وفق طبيعة المرحلة.
من الناحية الرمزية كانت الصورة الجماعية في الحفل الختامي لملوك ورؤساء وقادة الدول العربية والإسلامية المشاركة أكثر من معبرة، إذ تبين أن دولا لها وزنها وتاريخها تلتقي على ضرورة الدفاع عن النفس والاعتماد على الذات، وعدم انتظار تركيب التحالفات من خارج العالمين العربي والإسلامي.
إن وجود الدول العربية في الخليج إلى جانب الدولة العربية الكبرى مصر والدولة الإسلامية الكبيرة باكستان، بمشاركة مملكة المغرب والسودان، والمشاركة الأفريقية اللافتة من السنغال وتشاد وموريتانيا، بالإضافة إلى المشاركة الرمزية لدول مؤثرة مثل ماليزيا وتركيا، تبين أنه بإمكان العرب والمسلمين معالجة قضاياهم بأنفسهم إذا طوروا سبل تعاونهم وقدراتهم العسكرية في مجالي الدفاع أو إنزال القوات في مسارح العمليات. بالطبع، لا يعني أن هذا التموضع الاستراتيجي لا يطرح أسئلة كثيرة حول طبيعة المخاطر وأولوية التهديدات والتحالفات مع اللاعبين الكبار. والسؤال الأول يدور حول الأفضلية بين مشروع القوة العربية المشتركة المنشودة، وبين التحالف الإسلامي لمواجهة الإرهاب، والجواب واضح إذ لا شيء يمنع من وجود الهيكليتين، وفي أوروبا أكثر من مثل إذ تشارك دولة مثل فرنسا في عدة تحالفات لا تتناقض أهدافها. والأهم هو إيجاد مؤسسات ورصد إمكانيات وعدم البقاء في المجال النظري. أما السؤال الثاني حول طبيعة المخاطر، فمن الواضح اليوم أن الحدود الدولية للعالم العربي يواجهها نمطان من المشكلات على الأقل:
1- مشكلات الحدود الخارجية.
2- احتمالات التقسيم كما حصل مع السودان أو احتمالات “البلقنة” الداخلية من العراق إلى سوريا وليبيا واليمن، وربما بلدان عربية أخرى. أضف إلى ذلك أن العالم العربي يتعرض لتهديد بحبس المياه عنه؛ إذ تنبع أنهاره الكبرى (النيل ودجلة والفرات) من أراضٍ أجنبية، وترتبط الأوضاع الجيوبوليتيكية للحدود العربية بما يسمى حروب المياه، ولا يمكن التقليل من آثار حرب أسعار النفط، ومن عامليْ ثروة الطاقة في مقاربة مصادر الخطر.
من خلال قرن الفشل الاستراتيجي العربي أي القرن العشرين، ومع البدايات العنيفة في هذا القرن، يبدو العالم العربي مسرحا أو ملعبا للنفوذ وليس فاعلا في تقرير مصيره. بالإضافة إلى العجز أمام إسرائيل يبرز الآن المشروع الإمبراطوري الإيراني وغول الإرهاب والفتنة، ولذا تأتي مناورات رعد الشمال في الوقت المناسب للقول بأن مصير هذه المنطقة يبقى بعهدة أبنائها، وبأن مشاريع التقسيم وإعادة التركيب والخرائط الجديدة ليست قدرا دوليا وأن أي تركيبة بديلة عن سايكس بيكو لن تمر على حساب المكون العربي في الإقليم، ولا على حساب وحدة شعوب الدول وأراضيها.
أمام تداعيات انعدام الحصانة الذاتية في أكثر من مكان، ومساعي القوى الإقليمية والعالمية الأخرى لفرض معادلاتها على مقاربات أمن المواقع العربية، كان الدور السعودي والخليجي فعالا في مواكبة الوضع المصري لأن انهيار الدولة العربية الكبرى ستكون له مضاعفات خطرة، وفي العام 2015، كانت عملية “عاصفة الحزم” في اليمن وتتماتها من المحاولات الجدية لإعادة بعض التوازن الاستراتيجي لصالح القوى العربية، وكانت مؤشرا على إمكانية وقف التوسع الإيراني ومنع طهران من الاستفادة من الاتفاق النووي كي تبسط نفوذها على أكثر من ساحة عربية. ومما لا شك فيه أن التدخل الروسي المباشر في سوريا زاد من خلط الأوراق ومن التحديات. وهكذا في زمن إعطاء الأولوية للحرب ضد داعش وزمن تحييد المحور الإيراني، أتى تمرين رعد الشمال بمثابة تأكيد على الاستعداد لمواجهة التطورات في سوريا والعراق والدفاع عن دول الجزيرة العربية والخليج عند الضرورة.
لا يمكن القول بأن هناك رؤية جيوبوليتيكية واضحة للعالم العربي المعاصر، فعلى مدى قرون عديدة انشغل العالم العربي “بإزالة عدوان” الأطماع الجيوبوليتيكية للقوى العالمية التي اجتاحت أراضيه واستغلت ثرواته.
إذا ما قدر للعالم العربي أن يُفيق من مشاكله، لا بد من مقاربة المصالح الجيوبوليتيكية وفق التبادل والتكامل، أو وفق موازين القوى مع ما يجاوره من دول ومشاريع وتكتلات، ومن هنا لا بديل عن مشروع عربي يبدأ بالحد الأدنى ويتطور مع الأخذ بعين الاعتبار أن للعالم العربي رصيدا حضاريا كبيرا في الدوائر التي تحيط به: كدائرة البحر الأبيض المتوسط، والدائرة الأفريقية، ووسط وشرق آسيا. ومع حد معقول من التجمع الاستراتيجي ومن الشورى الديمقراطية الداخلية، ستصبح الفرصة سانحة أمام التفاعل الحضاري مع الأصدقاء وفرض الاحترام مع جيرانه، القوي منهم والضعيف، وهذا كفيل بأن يجعل العالم العربي – حتى بعد نفاد النفط – قوة لا يستهان بها.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس