عندما تعلّق الأمر بمحاولة جعل قضيّة مفتعلة، مثل قضيّة الصحراء، تتسلل خلسة إلى القمّة، كان للعرب الواعين موقف واضح. جعل هذا الموقف النظام الجزائري يتراجع، خصوصا أنّ اكثريّة عربيّة تقف مع المغرب ومع وحدته الترابيّة.
مشكورة الجزائر على استضافة القمّة العربيّة، علما أن القمم العربيّة لم تعد تقدّم ولا تؤخّر. مشكورة أكثر لأن النظام فيها اختار شعار “لمّ الشمل” عنوانا للقمّة. سيكون النظام مشكورا، أكثر فأكثر، في حال استطاع تطبيق هذا الشعار على نفسه أوّلا والاستفادة من تجربة فشله في تمكين بشّار الأسد، المسؤول عن قتل نصف مليون سوري، في أقل تقدير، وتشريد ما يزيد على عشرة ملايين من مواطنيه، من حضور القمّة وإعادة الاعتبار إليه. وجد النظام الجزائري مخرجا من المأزق الذي أوقع نفسه فيه، عندما أقنع بشّار بالقول إنّه لا يريد حضور القمّة. استعان بذلك، على الأرجح، بالجانب الروسي الذي لا يزال يمتلك بعض القدرة على التأثير على الأسد الابن.
تنعقد قمة الجزائر في وقت يشعر فيه النظام بأنّه في وضع يسمح له بالعودة إلى ممارساته القديمة. يظنّ ذلك من منطلق أنّه بات قادرا مرّة أخرى على لعب دور القوّة المهيمنة في المنطقة وإعطاء دروس في الوطنيّة عبر إطلاق شعارات فارغة من أي مضمون معتمدا على عائدات النفط والغاز، بل الغاز أوّلا، في ظلّ أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا.
مرّة أخرى، لا يمكن إلّا الترحيب بالقمّة، خصوصا في هذه الظروف الدقيقة والمعقدة في المنطقة والعالم وحرب أوكرانيا. يظلّ التشاور بين القادة العرب، ومن يمثّلهم، أفضل من لا شيء، علما أنّ لا قيمة، من أي نوع لأي مشاورات في غياب الرغبة في التعاطي مع الواقع بدل الهرب منه.
◘ لن تكون أي قيمة لقمّة الجزائر إلّا إذا استطاع المشاركون فيها مواجهة الواقع بدل الهرب منه. يتمثّل الواقع في أن الخطر الأكبر على العالم العربي، أو ما بقي منه، هو المشروع التوسّعي الإيراني
قبل انعقاد قمّة الجزائر، يمكن الكلام عن فشلين ونصف فشل لنظام لم يعرف يوما أنّ عائدات الغاز والنفط لا تصنع سياسة بناءة إلّا في حال وضعها في خدمة الشعب الجزائري ورفاهه أوّلا وأخيرا. كان الفشل الأوّل في محاولة إعادة النظام السوري إلى الصفّ العربي في وقت ليس هناك ما يشير إلى أن هذا النظام يستطيع التخلص من الهيمنة الإيرانيّة، وهي هيمنة كانت إيرانية – روسية قبل التراجع النسبي للدور الروسي في سوريا.
أمّا الفشل الثاني، فكان في محاولة إقحام قضيّة الصحراء المغربيّة في جدول أعمال القمّة. سعى النظام الجزائري لاستخدام الرئيس التونسي قيس سعيد في مرحلة معيّنة عندما أقنعه باستقبال زعيم بوليساريو إبراهيم غالي في قمّة أفريقية – يابانية لا علاقة له بها من قريب أو بعيد. قبل ذلك، وضع رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة محمود عبّاس (أبومازن) في مستوى زعيم بوليساريو في احتفالات عيد الاستقلال الجزائري في تشرين الثاني – نوفمبر الماضي. كانت تلك جريمة موصوفة في حقّ فلسطين والفلسطينيين الذين يدّعي النظام الجزائري الدفاع عنهم من باب المزايدات ليس إلّا. مجرّد المقارنة بين القضيّة الفلسطينيّة، وهي قضيّة شعب لديه حقوقه المشروعة، من جهة وقضيّة مفتعلة مثل قضيّة الصحراء المغربيّة من جهة أخرى، يعكس رغبة في الإساءة إلى فلسطين وتحويلها مادة للمتاجرات السياسية.
عندما تعلّق الأمر بمحاولة جعل قضيّة مفتعلة، مثل قضيّة الصحراء، تتسلل خلسة إلى القمّة، كان للعرب الواعين موقف واضح. جعل هذا الموقف النظام الجزائري يتراجع، خصوصا أنّ أكثريّة عربيّة تقف مع المغرب ومع وحدته الترابيّة كما تعرف أنّ قضيّة الصحراء ليست سوى جزء من حرب استنزاف يشنها النظام الجزائري على دولة جارة لم تقدّم له يوما سوى الخير.
أمّا بالنسبة إلى نصف الفشل الجزائري، فهو يقع في السعي لمصالحة فلسطينية – فلسطينية، بين “فتح” و”حماس”. يحاول إتمام مثل هذه المصالحة. قد ينجح في ذلك شكلا، لكنّه سيفشل في العمق. يعود ذلك، بكلّ بساطة إلى أنّ أيّا من الطرفين لا يستطيع دفع ثمن المصالحة.
قاطع عدد لا بأس به من الزعماء العرب قمة الجزائر. لن ينقذ القمّة سوى حضور الملك محمّد السادس الذي قد يحضر لإثبات أنّ العلاقة بين الشعبين المغربي والجزائري لا تتأثّر بنظام لم يعرف يوما كيف يتصالح مع الجزائريين، بل يهرب باستمرار من أزماته الداخليّة إلى خارج حدوده. بات حضور الملك محمّد السادس القمة هاجسا لدى النظام الجزائري الذي تعاطى بطريقة لا علاقة لها بالدبلوماسية مع الوفد الوزاري المغربي، برئاسة وزير الخارجيّة ناصر بوريطة، الموجود في الجزائر للمشاركة في الإعداد للقمة العربية.
◘ قمة الجزائر تنعقد في وقت يشعر فيه النظام بأنّه في وضع يسمح له بالعودة إلى ممارساته القديمة. يظنّ ذلك من منطلق أنّه بات قادرا مرّة أخرى على لعب دور القوّة المهيمنة في المنطقة
لن تكون أي قيمة لقمّة الجزائر إلّا إذا استطاع المشاركون فيها مواجهة الواقع بدل الهرب منه. يتمثّل الواقع في أن الخطر الأكبر على العالم العربي، أو ما بقي منه، هو المشروع التوسّعي الإيراني. يُفترض في القمّة أخذ العلم بما أعلنه عمر هلال السفير المغربي لدى الأمم المتحدة أخيرا عن “أنّ إيران زودت مقاتلي جبهة بوليساريو بمسيرات. الإيرانيون وحزب الله يتوغلون في شمال أفريقيا وهذا تطور جيوسياسي خطير يهدد الأمن القومي لدول الإقليم. إيران تريد زعزعة استقرار منطقتنا بعد أن قوضت استقرار سوريا واليمن والعراق ولبنان”. هل يمتلك النظام الجزائري ما يكفي من الجرأة كي يجعل للقمة التي سيستضيفها البلد قيمة ما؟
في ضوء تجارب الماضي القريب، يصعب التفاؤل بقمّة الجزائر، لا لشيء سوى لأن النظام في هذا البلد يرفض تطوير نفسه ويفضل البقاء أسيرا للعقدة المغربيّة. يعتقد أنّ ارتفاع أسعار الغاز والنفط يسمح له برشوة الشعب الجزائري وشراء السلم الأهلي لمرحلة معيّنة كما يسمح له برشوة هذه الدولة الأفريقيّة أو تلك ويقنعها باستقبال ممثل لأداة اسمها بوليساريو غير مدرك لمخاطر استخدام مثل تلك الأداة على الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب والتطرّف في منطقة شمال أفريقيا ومنطقة الساحل.
الأكيد أن ما يريد العرب الواعون سماعه من قمّة الجزائر هو خطاب مختلف تماما عن تلك اللغة الخشبية التي يعتمدها نظام عسكري لم يستطع في يوم من الأيّام أن يكون نظاما طبيعيا متصالحا مع شعبه ومع محيطه المباشر. لم يستطع أن يكون نظاما ينجح في لمّ الشمل الجزائري والشمال أفريقي قبل أن يلمّ الشمل العربي.