إنها الحرية، هكذا قالت لنا معلمة المدرسة في الأول ثانوي ليلى سلامة حين تحدثت يوم السادس من أيار عن ذكرى شهداء الصحافة، قالت لا تصدقوا ان أولئك الصحافيين والثائرين الذين تم اعدامهم في ساحة الشهداء هم عملاء كما قال الأستاذ الذي سبقني، هؤلاء أرادوا الحرية وصدقوا أن الحصول عليها يتم بسهولة ويعيشون تحت سقفها، ولكن الجزار كان هناك واقفاً وبيده المشنقة.
كانت مرحلة حرب أهلية، وكنا في الصف الثانوي الأول ومن أجواء سياسية مختلفة، وكان الوقت يقترب من نهايته قبل أن يدق الجرس الكهربائي بصوته العالي، معلناً حريتنا من اليوم المدرسي الطويل.
إنه شهيد الحرية في وجه الظلامية، هكذا وقف جورج حاوي ينعى حسين مروة بعد قتله في العام ، حسين الذي ولد شيخاً ومات طفلاً، وكذلك جورج حاوي نفسه بعد أشهر ينعى مهدي عامل، وقبلهما كان نعى الشهيد سهيل طويلة، هكذا في عام واحد أو اثنين، خرجت من محور القتال في رأس النبع بعد تحرير أحد “الزواريب” وأنا أظن أني حققت الحرية، عدت إلى المدرسة ومنها إلى جنازات عدد من الإعلاميين اللبنانيين الذي قتلوا من أجل الحرية.
قال أبي إنها الحرية التي قتلت نسيب المتني في العام قبل اشتعال الثورة. صغيراً كنت، وظننت يومها أن أبي يتحدث عن امرأة ما اسمها حرية تستطيع قتل المتني وبعدها قتل الصحافي كامل مروة في مكتبه بمسدس لئيم، وتهرب بأفعالها من دون أن تحصل على عقوبة السجن. السجن الذي يأخذ المجرمين ويضعهم في غرفة تشبه ما عرضه علينا تلفزيون لبنان بالأبيض والأسود من مسلسلات لبنانية، يبقيهم السجن هناك لئلا يأتون ليلاً إلى غرف نومنا ويسرقون أحلامنا، وألعابنا التي صنعناها على سطح بيتنا حين لعبنا “بيت بيوت” وقبلت الفتاة الصغيرة لأني أنا العريس الذي يعطي القبل لتعطيه تلك الفتاة أطفالاً.
ولكن حين قتلت الحرية الصحافي سليم اللوزي شتم أبي شخصاً آخر، شتمه كثيراً باسمه الأول وشتم الحرب الأهلية وما فعلته بنا على ما قال، ولكنه أردف أن الحرية هي السبب. قال إن اليد التي يكتب بها اللوزي فظّع بها بمادة الأسيد، قال أبي إنه رأى الصورة خلال عمله في مطبعة الجريدة، وتذكر رفيقه في النضال فرج الله الحلو الذي أذابته الحرية بحبها بمادة الأسيد على يد عبد الحميد السراج في سوريا أيام الوحدة مع مصر.
الحرية تقتل، ولذلك يجب اعتقال الحرية ووضعها في السجن وإلقاء القبض على عائلتها وأصدقائها ورفاقها العلنيين والسريين، وأقربائها القدامى من آل بيان ومنشور وصحيفة ومجلة، وكذلك اعتقال أبنائها الجدد من آل فايسبوك وتويتر ويوتيوب وكل أنواع الهاتف النقال واللابتوب. والحرية يجب اتهامها بقتل الكثيرين ممن نحبهم، فهي بالتأكيد قتلت سمير قصير الذي كتب عن ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان، ومعه قتلت جورج حاوي الذي خسر الكثير من رفاقه بسبب الحرية نفسها.
ولكن البحث عن الذين قتلتهم الحرية الحمراء التي “بكل باب تدق” كما يقول أحد الشعراء سيطول كثيراً. غسان كنفاني قتلته الحرية بعبوة ناسفة قبل الحرب بقليل، والعديد من الإعلاميين اللبنانيين كادوا أن يقتلوا بالعبوات أو بالرصاص أو بالاعتداء. مي شدياق عاشت التجربة المرّة وخرجت منها إمرأة جبارة قادرة على المواجهة أكثر بعد أن فقدت العديد من الأصدقاء. وبعض الصحافيين اعتقل وآخرون أرسلت مذكرات التوقيف من أجلهم، ولكنهم استمروا بدعوتهم إلى العيش بحرية بعيداً عن المجرم والقاتل.
في بداية تسعينات القرن الماضي لاحق الجهاز الأمني المشترك الصحافي بيار عطاالله، تعرض لاعتداء لا يحتمل، ورمي في وادٍ على أساس أنه مات. ولكن بيار استطاع عبور الوديان والتوجه إلى أحد الأديرة حيث اختفى لفترة طويلة، استطاع فيها أن يستعيد عافيته ويهرب إلى بلاد الله الواسعة، كانت الحرية هي التي تلاحق بيار في أرضه وفي الخارج، كانت تدخل حياته وتغير مفاهيمه ورؤيته.
في عيد شهداء الصحافة، تحضر المؤسسات والصحافيون، ولكن تغيب مؤسساتهم النقابية الحقيقية. فالآلاف ممنوعون من الدخول في جنة النقابة، والنقابة لا تستطيع حماية هؤلاء في حال تعرضوا لأي أذى، أو طردوا من أعمالهم، فهي للأعياد ونقل الرسائل من الرؤساء إلى الشعب اللبناني، ولإصدار مواقف التأييد لأي صحافي يتعرض للقتل أو الموت.
في العالم العربي يحاول البعض الحصول على حريته عبر التظاهر والاعتصام والقول، والبعض منهم حصل على هذه الحرية مثل تونس ومصر، ولكن في ليبيا واليمن والبحرين وسوريا ينتظرونها لتقتلهم بحبها. فالرصاص والقنابل هم من أدوات الحرية الحمراء التي بالأبواب والناس والبيوت تدق وتدق. هناك يقفون صارخين بصوت عال “حرية حرية حرية”، في درعا وفي بنغازي وفي عدن، ينتظرون أن تأخذ الحرية من دمهم لتعيش ويعيشون معها.
oharkous@gmail.com
* كاتب لبناني
المستقبل